عندما كان الصحافي الكبير فهمي هويدي يكتب كتابا تحت عنوان اجند الله في المعركة الغلطب كان يدرك جيدا بأن الطريقة التي تفكر بها حركة طالبان والمنهج الذي ترى به الأشياء لا يمكن أن يجلب عليها إلا الكوارث..وبالفعل أثبت المنهج الذي تقرأ به الحركات الجهادية مفردات الدين والواقع لا يمكن أن يقود إلا إلى الباب المسدود.. ومع ذلك فهناك من لم يكتشف بعد بأن التغيير بواسطة العنف هو خيار فاشل ولا يمكن أن يخدم الناس في دينهم ولا في معاشهم. مناسبة هذه التوطئة أن المغرب لأول مرة يصبح هدفا لشريط دعائي يحرض الشباب المغربي بشكل مباشر على الثورة والخروج ضد النظام الملكي. الشريط التحريضي المنسوب إلى اتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي'، يستحق التحليل من زوايا متعددة..فمن الزاوية التقنية يبدو بأن الشريط أنجز بدرجة عالية من الاحترافية والجودة الفنية والقدرة التوثيقية التي تظهر من خلال الكم الهائل من المعطيات والوقائع والصور المنتقاة بطريقة ماكرة، وهو ما يعني بأن الإمكانيات المالية واللوجيستة للقائمين على الشريط تتجاوز القدرات الممكنة للمجموعات المسلحة المطاردة بأدغال الجزائر أو في قلب الصحراء الكبرى.. أما من الناحية السياسية فالشريط يسلط الضوء على العديد من الوقائع السياسية المنتقاة من وثائق ويكيليكس ومن بعض الكتب الأجنبية مثل كتاب االملك المفترسب ومن بعض التقارير التي سبق تقديمها في نشرات إخبارية لبعض القنوات العربية في سياقات مختلفة، ومن بعض الصور التي ترمز للحضور البارز للملك محمد السادس في الحياة السياسية المغربية، كل ذلك بغية تحقيق هدف واحد وهو التحريض بشكل مباشر ضد النظام الملكي والدعوة للثورة عليه!!.. شكل هذه الثورة يتصورها صانعو الشريط في صورة جهاد مسلح ضد مؤسسات الدولة وعلى رأسها النظام الملكي حتى اتسود الشريعة أرض المغربب بزعم لغة الشريط.. وهنا زاوية أخرى للتعليق من الناحية الشرعية، ذلك أن استدعاء مفهوم الجهاد لتغيير نظام يعتبر الإسلام من ثوابته الأساسية يترجم جهلا فظيعا بأبسط قواعد الشريعة ويشوه مفهوم الجهاد، الذي يراد من ورائه إضفاء الشرعية على الإرهاب والقتل واستخدام العنف، فضلا عن عدم استيعاب العمق الحقيقي لمفهوم اتطبيق الشريعةب والغالب أن منتجي الشريط لا دراية لهم بكليات الشريعة ومقاصدها وعلى رأسها حفظ النفس وتحريم القتل وتقديس الحق في الحياة لبني البشر.. بغض النظر عن مدى صحة المصدر المنتج للشريط، فإنه من المؤكد أن هناك حركات تسمي نفسها حركات جهادية تحمل مثل هذه الأفكار اعتقادا منها أنها بهذا المنهج تخدم دين الله في الأرض، ولا تنتبه إلى أن مثل هذه الأفكار تعود بالخراب والدمار على الإسلام والمسلمين.. والغريب أن دعاة هذا االفكر الجهاديب لا يستفيدون من تجارب الحركات التي آمنت بالعنف واستخدمته لتغيير أنظمة سياسية مستبدة فكان مصيرها الفشل الذريع، وخاض بعضها جملة من المراجعات الجذرية دفعتها لتغيير قناعاتها االجهادية'.. الشريط الذي يمتد إلى 41 دقيقة، يرصد مجموعة من الاختلالات الموجودة في واقعنا اليومي ويحاول أن يقنع بأن تجاوز هذه الاختلالات ممكن عن طريق العنف..!! طبعا من الوهلة الأولى تبدو هذه الدعوة سطحية وساذجة رغم تغليفها بمبررات شرعية وبقراءة ظاهرية لآيات الجهاد في القرآن الكريم، لكنها يمكن أن تؤثر في ذوي العقول البسيطة الذين يحملون عاطفة دينية دون أن يتسلحوا بالعلوم الضرورية لفهم الدين وفهم الواقع معا.. فهم الدين انطلاقا من أصوله الصحيحة وفهم آيات الجهاد الواردة في القرآن الكريم وفق العلوم الدقيقة للقرآن والسنة، وامتلاك القدرة على استنباط الحكم الشرعي بناء عليها وعلى علوم آخرى.. وفهم الواقع انطلاقا من تعقيداته وتناقضاته التي لا يمكن فهمها دائما بناء على ما يظهر فوق السطح من اختلالات وتجاوزات.. إن أمراض المجتمع والدولة وما يخترقها من تناقضات تكرس الظلم والفوارق الاجتماعية وانتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين وغيرها من الاختلالات، ليست وليدة اللحظة السياسية الراهنة، وعلاجها يتطلب زمنا معتبرا للقضاء عليها.. ولاحاجة إلى التذكير بأن خيار العنف أثبت فشله الذريع في العديد من الدول، خاصة بعد اندلاع ثورات الربيع الديموقراطي الذي وقع شهادة وفاة تنظيم القاعدة وجميع الحركات الجهادية الموالية لها.. خيار العنف خيار فاشل لعدة اعتبارات: الاعتبار الأول، وهو أن عنف الدولة أقوى من عنف الأفراد وأن الدولة قادرة على تحطيم النزعات الميالة إلى استخدام العنف ضد مؤسسات الدولة رغم ما قد يحدثه عنف الأفراد من إرباك ظرفي للدولة ومؤسساتها.. ثانيا، الانجرار للعنف هو خيار الأفراد والعصابات ولا يمكن أن يكون خيار الجماهير والشعوب، ولذلك فإن السقوط في دوامة العنف يفقد الدعوات الإصلاحية الحقيقية ما يمكن أن تتمتع به من شعبية في أوساط الجماهير..الاعتبار الثالث، وهو أن خيار العنف يعطي المبررات للتيارات التراجعية داخل السلطة للإجهاز على الحقوق والحريات في سياق مكافحة الإرهاب، وهي ورقة جرى استخدامها بفعالية في سياقات أخرى.. الاعتبار الرابع، وهو أنه في مواجهة العنف والإرهاب من الصعب الحديث عن احترام مقتضيات حقوق الإنسان، وهو ما يفقد دعاة الإصلاح سلاحا فعالا في مواجهة القوى التراجعية، وهو الاحتكام إلى المعايير الدولية في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان .. دعوات العنف دعوات مستنكرة ومدانة بجميع المقاييس الشرعية والسياسية ذلك أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.. مبدأ نبذ العنف بجميع صوره وأشكاله ومن أي جهة صدر ينبغي أن يكون مبدأ راسخا، وكيفما كانت الظروف ومهما علا صوت الظلم والطغيان، ينبغي أن يبقى خيار العنف خيارا مستبعدا مهما حاول البعض خلطه بمبدأ إسلامي عظيم هو الجهاد في سبيل الله الذي له شروطه المقدرة شرعا وعقلا، وهذه مهمة العلماء العاملين وليست وظيفة اجند اللهب الذين ينخرطون في المعركة الغلط.. "القدس العربي"