حمل التعديل الواسع الذي أدخله الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على حكومته رسائل كثيرة، أهمها على الإطلاق أن صاحبه عائد بقوة إلى تسيير دفة الحكم. وبذلك يسعى بوتفليقة إلى التأكيد بأن خصومه وقطاعا من الصحافة، "دفنوه" مبكّرا عندما تنبأوا بنهايته سياسيا. ولكن هل التعديل الحكومي ومعه التغييرات التي أحدثها في الأجهزة الأمنية (أنباء لم تتأكد رسميا بعد)، مؤشر على أن الرجل عازم على البقاء في السلطة فترة رابعة، أم أنه يعكس حرصا على أن يختار هو بنفسه خليفته؟ الرئيس يستكمل السيطرة على مفاصل الدولة تشير توليفة التعديل الوزاري الأخير، إلى أن الرئيس بوتفليقة أقفل على خصومه في قفص، بالكاد يتنفسون، وهو أقوى محطة (التعديل) في مسار التعبيد لاستمراره في الحكم، بأي شكل من الأشكال، سواء "التربيع" أو"التمديد"، أو على الأقل إحكامه لقبضته في سيناريو، هو بالذات من يختار فيه خليفته. عبّر بوتفليقة أو محيطه، عن "بسطة يد" محكمة على مفاصل الدولة، كما لو أنه استشعر وهو مريض، أن "مؤامرة ما" تحاك ضده، وعبّرت عنها بصفة تظهر "بريئة" معارضة سياسية رفعت شماعة المادة 88 من الدستور، لكن بوتفليقة لا يؤمن بالبراءة في السياسة، فوراء كل تحرك ظاهر محرك خلفي قوي، وإن لم يوجد هذا المحرك، فهكذا دعوات لتطبيق الدستور على وضع الرئيس الصحي، يمكن أن تكون صهوة حصان تركب من قبل خصوم الظل، من أجل إضعاف جناح الرئيس، العائد بقوة. التعديل الوزاري الذي أطاح بوزراء الأفالان وأتى بأحد عشر وزيرا جديدا، وغير في وزارات السيادة بما مكن وزراء مقربين من الرئيس من المسك بها، هو أقرب إلى "ماكنة" دعائية لبداية الخوض في العهدة الرابعة، بعد أن أزيحت من أذهان محيط الرئيس بدعوى المرض، فقد فضّل بوتفليقة الإبقاء على أهم وزيرين مسكا بجوق "الرابعة" وهما عمر غول وعمارة بن يونس، بينما أبعد كلا من عمار تو ورشيد حراوبية وعبد العزيز زياري، بعد أن تناهى إلى أسماعه أن الثلاثي عارض تولي مرشح الرئيس الأمانة العامة للأفالان، عمار سعداني، وهم أدرى من غيرهم أن شخص سعداني. وبدا أن بوتفليقة لم يصمت إلا لينتفض، ولم ينتفض إلا ليكسر شوكة ما، نغصت عليه مشفاه، من باريس إلى الجزائر، فخاض في تغييرات غير مسبوقة على مستوى أجهزة الأمن، لم يطلها تفكيره حتى في عز بسطته على الحكم بموجب نجاحه في ثلاثة انتخابات رئاسية، كل شيء وأي شيء، وإن اكتفى الرئيس بجعل قائد أركان الجيش السابق محمد العماري، يغادر العسكر، سنة 2004 بعد الرئاسيات بقليل، وعمد إلى تقليم أظافر مسؤولين كبار محسوبين على دوائر خصمه، إلا أن قراراته لم تتعد سقفا مثيلا في ضوء تغييرات أخيرة قلبت موازين القوى، وفرشت بساط التربيع أو التمديد على أرضية مستوية لا تشوبها "ممهلات"، بينما مسارها متجه إلى تعديل دستوري، يتوقع أن تتم فيه هندسة ملامح فترة الحكم المقبلة على قالب "استمرارية" مفصلة على استحداث منصب نائب الرئيس، يختاره بوتفليقة نفسه، وباقي الخيارات تأتي تلقائيا. وإن كان التعديل الحكومي مهمّا ومؤشرا حقيقيا على بسط الرئيس بوتفليقة يده على ما تبقى من مفاصل الدولة، فإن المؤشر الأكبر، حسب كل المتتبعين، هو المراسيم الثلاثة الأخيرة التي يكون الرئيس قد أمضاها، والتي تصب كلها في إطار "تحجيم" دور ال«دي آر آس" وتقليص هامش تأثيرها في صناعة القرار السياسي، ومن ذلك حل مصلحة الشرطة القضائية التابعة لهيئة الاستعلامات والأمن، ونقل الإشراف على مديرية أمن الجيش ومديرية الصحافة والاتصال إلى قائد أركان الجيش، الفريق قايد صالح، الذي "أمضى" تحالفا "غير معلن" مع الرئيس منذ تعيينه خلفا للراحل الفريق محمد العماري، تحالف تأكد يوم الأربعاء الماضي الذي استلم فيه قائد الأركان مهامه الجديدة كنائب لوزير الدفاع الجنرال عبد المالك ڤنايزية، الذي تجمع مصادر كثيرة على دخوله منذ أسابيع طويلة في "تقاعد" بسبب خلاف بينه وبين قايد صالح. وإذا كانت هذه القرارات تعني بالضرورة تقوية شوكة قائد الأركان، فإنها تعني أيضا إضعاف الفريق محمد مدين، الشهير ب«توفيق"، وجناحه، الذي يكون قد أفرغ من أهم وأقوى أسلحة التدخل في الحياة السياسية، المعلومة والتحقيق ومراقبة ضباط الجيش، وقد بدأت "بشائر" هذا القرار تصل إلى جناح الرئيس بوتفليقة بإقالة أو استقالة رجل توفيق القوي الجنرال جبار مهنا، المسؤول الأول على مديرية أمن الجيش. ويتفق المتتبعون على أن التطورات الأخيرة وبالشكل الذي قدمت فيه لا تحمل إلا تفسيرا واحدا، وهو أن الرئيس استكمل مخطط إحكام القبضة على كل مصادر القرار في الدولة، فبعد تمييع الطبقة السياسية وإدخال المعارضة إلى بيت الطاعة، وبعد تحويل الأفالان إلى آلة انتخابية في خدمته وخدمة جناحه، وبعد إخراج قيادة الأركان من اللعبة السياسية تبعا لرئاسيات 2004 وإحالة الفريق العماري على التقاعد، ها هو اليوم يقلم أظافر ال«دي آر آس" ورئيسها القوي، التي كانت تشكل العقبة الأخيرة على طريق التمديد أو التربيع أو اختيار الخليفة. في المقابل يذهب بعض المتتبعين إلى أن القرارات الأخيرة ليست إلا بداية لحرب حقيقية بين أجنحة السلطة، ستضع بوتفليقة في مواجهة مباشرة ومكشوفة مع الجنرال توفيق، حرب ستنتهي حتما بالمساس بسمعة الجزائر واستقرارها، وستضر لا محالة ببقايا البقايا من الممارسة الديمقراطية فيها. الجزائر: محمد شراق رغم سيطرة الموالين للرئيس على الحقائب لا غالب ولا مغلوب في التعديل الحكومي أن تكون واليا على عاصمة شرق البلاد، قسنطينة، ثم وزيرا للتكوين المهني، ليست ترقية بل طوق نجاة من المقصلة التي ستطال ولاة الجمهورية بعد أعضاء الحكومة. وأن تكون واليا في الباهية وهران وتصبح وزيرا، ليست ترقية حتى لو على رأس قطاع الصحة. وكذلك الشأن لمن كان يسير ولاية مثل عنابة ويحول إلى تحسين الخدمة العمومية، قبل موعد انتخابي حاسم. هذه مؤشرات تجعلنا نتجاوز أيضا حكاية الرئيس الغائب عن البلاد لمدة ثلاثة أشهر والذي عاد واعكتف في إقامته المرضية لثلاثة أشهر أخرى، ثم خرج بقوة وأطاح بكل خصومه في الجيش والحكومة والمخابرات.. دفعة واحدة. الأخبار المتداولة عن حركة الولاة التي تعطلت منذ أشهر طويلة تقول إن عبد المالك بوضياف ونور الدين بدوي كانا على رأس قائمة الولاة الذين طلب سلال رحيلهم، ما يعني أن الحكومة الحالية لن تكون أكثر انسجاما، كما قال سلال، من الحكومة السابقة. لكن بوتفليقة لا يبحث، من خلال التعديل الحكومي الجديد، عن تفعيل عمل الوزراء وإنقاذ برنامجه من الفشل في ظرف ستة أشهر، بل يمثل التعديل خبطة إعلامية تجعل المحللين السياسيين والإعلاميين والرأي العام الوطني، ينسون، ولو لفترة قصيرة، قضية غياب الرئيس. أما الوزارات المؤثرة في العملية الانتخابية والتي شهدت كلها تغيير رؤوسها، فالمؤشرات الظاهرة تفيد بأن دحو ولد قابلية مثلا ارتكب خطأ لا يساهم في تنظيم انتخابات رئاسية هادئة. ويتمثل خطأ ولد قابلية في تدخله المكشوف في الصراع الدائر داخل الأفالان، ما أعاد إحياء مخاوف سيناريو 2004 الذي خلف ضحايا كثيرين في أجهزة الدولة وفي الساحة السياسية وحتى في القطاع الاقتصادي. ونفس الشيء بالنسبة لوزير العدل الذي تدخل في الاتجاه المعاكس لولد قابلية، ما يجعلنا نستنتج أن يثبت العكس، أن ذهاب الأول يستدعي ذهاب الثاني أو ذهاب الثاني يجر حتما الأول. وبالنسبة لوضع "الطيبين" لوح وبلعيز على رأس العدالة والداخلية، فهذا من ثوابت حكم الرئيس الذي لا يتنازل عن الوزارات السيادية لمن لا يختارهم بنفسه. وبالنسبة لتعيين ڤايد صالح نائبا لوزير الدفاع، فهذا لا يغير الكثير في موقعه مقارنة بالوزير المنتدب للدفاع الوطني، كون بوتفليقة يبقى هو وزير الدفاع. والجديد هنا يكمن في رحيل عبد الملك ڤنايزية الذي من شأنه أن يقلص من الاكتظاظ في أعلى القيادة العسكرية، في محاولة فاشلة لإعادة بعث منصب وزير الدفاع الوطني الذي تولاه ذات يوم المرحوم مصطفى بلوصيف، قبل أن يعود للرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله، ثم تولاه خالد نزار فاليامين زروال، ليختفي مجددا مع تولي هذا الأخير رئاسة الدولة ثم انتخابه رئيسا للجمهورية. ويعطي إبعاد وزراء الأفالان عن الحكومة الانطباع بأن الحكومة الحالية محايدة، علما أن وزن لوح في الأفالان غير وزن عمار تو وزياري وحراوبية ولا وزن شريف رحماني في الحزب الغريم الأرندي. كما أن تحويل رئيس "تاج" إلى قطاع النقل وبن يونس إلى الصناعة يعني إبعادهما عن الوزارات ذات الميزانية والصفقات الكبيرة.