مجموعة من الدول التي عاشت في مراحل تاريخية معينة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، عملت على تشكيل لجان للحقيقة والمصالحة واعتمدت نهج العدالة الانتقالية كأسلوب لطي ملفات الماضي وفتحت آفاقا متحررة نحو انتقالات ديموقراطية يتم فيها احترام حقوق الإنسان مع ترسيخ مجموعة من الآليات القانونية والسياسية التي تمثل ضمانات حقيقية لعدم تكرار ما حصل في الماضي من انتهاكات في سياقات معينة غاب فيها احترام القانون سواء من طرف الدولة أو من طرف الجماعات والأفراد. ورغم كثرة الحديث عن مفهوم المصالحة في السياق المصري فإن نهج السلطات القائمة ظل بعيدا عن هذه المقاربة، سواء في عهد الرئيس المنتخب محمد مرسي أو بعد الانقلاب العسكري.. النهج المتبع إلى حدود الساعة ظل مقتصرا على المقاربة الأمنية التي أثبتت فشلها في التاريخ القريب ولم تسهم إلا في إنتاج المزيد من نزعات العنف ضد الدولة خصوصا في أوساط من خبروا السجون وتعرضوا للتعذيب في مخافر الشرطة وانتزعت منهم اعترافات تحت الإكراه ووجدوا أنفسهم أمام محاكمات اختل فيها ميزان العدالة. المقاربة الأمنية المتشددة التي تنهجها السلطات الأمنية في مصرستخلف العديد من الضحايا بفعل حجم الانتهاكات والتجاوزات التي تمت بعد الإطاحة بالرئيس الشرعي وتعطيل الدستور وحل المؤسسات وفض الاعتصامات بالقوة وإعلان حالة الطوارئ. هناك حاجة إلى إعادة طرح مجموعة من الأسئلة حول المداخل المناسبة لإصلاح ‘الأخطاء' الفظيعة التي وقعت فيها السلطات المسؤولة عن هذه الانتهاكات، لكن الأهم هو كيف يمكن تطوير مقاربة عميقة للمصالحة لجعل من تعرضوا لهذه التجاوزات لا يحقدون على الدولة ومؤسساتها ولا يسقطون في ردود أفعال عنيفة ، كما حصل في السسبعينات والثمانينيات من القرن الماضي مع بعض الأفراد الذين سرعان ما خرجوا من السجن حتى انخرطوا في عمليات ذات طبيعة انتقامية كرد فعل على عنف الدولة التي عملت على استئصال جزء من الإسلاميين في غياب رؤية بعيدة المدى. إن التعاطي مع التيارات الإسلامية يتطلب امتلاك القدرة على فهم الخريطة الفكرية والتنظيمية لهذه التيارات واستيعاب عميق للسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية التي أفرزتها، واستشراف الآثار والانعكاسات المترتبة على اعتماد المقاربة الأمنية المتشددة، وتقدير الأوزان السياسية الحقيقية لها، وعدم الانجرار وراء أسلوب الحملات التي لن تنتج إلى المزيد من تعميق الهوة داخل النسيج الاجتماعي الوطني ... في هذه الظروف لا يمكن اللعب بورقة مكافحة الإرهاب، بل ينبغي العمل على تأصيل فكرة المصالحة لتسوية ملفات الماضي بما فيها تلك المرتبطة بالأعمال التي ينظر إليها على أساس أنها فعل إرهابي. في الجزائر مرت البلاد بحرب أهلية حقيقية بعد الانقلاب على المسلسل الديموقراطي وإلغاء نتائج الانتخابات لسنة 1991 التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية ساحقة، هذه الحرب التي استمرت عدة سنوات وذهب ضحيتها أزيد من 120 ألف جزائري بالإضافة إلى آلاف الجرحى والمعطوبين واليتامى والأرامل.. وقد سبق أن أعلن الجيش الإسلامي للإنقاذ عن مبادرة لوقف إطلاق النار، تفاعل معها الرئيس بوتفليقة بشكل سريع وأصدر عفوا عن 2300 سجين إسلامي، وقدم للبرلمان قانون الوئام الوطني الذي يقضي بالعفو عن أعضاء ومؤيدي جيش الإنقاذ الإسلامي، ونال هذا القانون تأييدا شعبيا كبيرا في استفتاء سبتمبر 1999، وخرجت الجزائر من دوامة الحرب الأهلية رغم استمرار بعض المجموعات المسلحة في تبني لغة العنف والقيام بعمليات مسلحة من حين لآخر، وهو ما ساهم في عزلتها وتآكلها من الناحية العددية، وهي تقتات اليوم على التناقضات التي يحبل بها الواقع الدولي أكثر من امتلاكها لرؤية أو مشروع سياسي معين.. دون أن ننسى طبعا دور المؤسسة العسكرية في تأجيج لغة العنف، بحيث يشير بعض المراقبين إلى أن بعض الأطراف داخل المؤسسة العسكرية في الجزائر دعمت إلى حد بعيد العنف الذي تنتهجه الجماعة الإسلامية المسلحة لإضفاء شرعية على الوسائل القمعية التي تستخدمها هذه المؤسسة، وهي العدوى التي يخشى من انتقالها داخل بعض التيارات المتطرفة داخل الجيش المصري.. إن من أقوى الدلالات التي يرمز إليها مفهوم العدالة الانتقالية للنظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عرفتها مصر/ الثورة وتجاوز حجم الجراح التي خلفتها المرحلة السابقة، هو ترسيخ نهج المصالحة في التعاطي مع الخلافات العميقة بين أطراف العملية السياسية، وتوفير الشروط الضرورية لبناء شراكة سياسية حقيقية يساهم فيها الجميع لإعادة بناء اللحمة الوطنية واستئناف مسلسل البناء الديموقراطي الذي لا يمكن له النجاح إلا بالاعتراف المتبادل بين الجميع. نعم، من بين تجارب العدالة الانتقالية الناجحة في العالم من يقوم على ضرورة معرفة الحقيقة وقراءة الصفحة كاملة قبل طيها، كما حصل في جنوب إفريقيا مع تقديم الاعتذار للضحايا مقابل إسقاط المتابعة الجنائية في حق الجلادين والتزام الدولة بجبر الأضرار التي لحقت بهم من جراء عقود من التمييز العنصري.. لكن هناك حالات تم فيها طي صفحة الماضي دون قراءة الصفحة كما حصل في إسبانيا في الفترة الانتقالية بين الحكم العسكري للجنرال فرانكو وانطلاق المسلسل الديموقراطي أي بين سنة 1975 و1978.. وبين النموذجين اختار المغاربة أن يقرؤوا جزءا من الصفحة وأن يستمعوا إلى شهادات نماذج من الضحايا، مكنت من معرفة جزء كبير من الحقيقة لكن دون أن تصل إلى درجة تحديد المسؤوليات بدقة، ويبقى الأهم هو الأخذ بمجموعة من التوصيات الكفيلة بضمان عدم تكرار ما حصل في الماضي من انتهاكات.. بإمكان المصريين أن يبدعوا نموذج المصالحة الوطنية الذي يناسبهم ونهج أسلوب العدالة الانتقالية الذي يتلاءم مع خصوصياتهم التاريخية والحضارية، لكن من المؤكد أن مصر لا يمكن أن تنهض في ظل الحكم العسكري أو في غياب القوى الأساسية في المجتمع.. إنها مرحلة العقلاء والمعتدلين داخل جميع المكونات الذين يتحملون مسؤولية إخراج مصر من عنق الزجاجة.. نعم، يمكن للجيش أن ينتصر في المعارك الحربية التي يخوضها داخل البلاد، فليست هناك قوة عسكرية يمكن أن تنافسه على هذا الصعيد، لكن من المؤكد أن الجيش لا يمكنه أن ينجح في المعارك السياسية التي لا تدار إلا بواسطة قواعد المنافسة الديموقراطية بين الأحزاب السياسية.. "القدس العربي"