منذ ما يربو على سبع سنوات، والحديث عن المصالحة مع تيار السلفية الجهادية الموجود أعضاؤه داخل السجون يتجدد باستمرار، وفي كل مرة تلوح بادرة سرعان ما تخبو، أو تطرح مبادرة سرعان ما يطويها النسيان. وبالتوازي مع موضوع المصالحة يثار موضوع المراجعة، على اعتبار التلازم المفترض بين الإثنتين لدى البعض، كما تثار أيضا مسؤولية الدولة في إنجاح هذه المصالحة، وما إن كانت المصالحة من مسؤولية السجناء أم من مسؤولية الدولة أم الإثنين معا. وقد تعددت المداخل في مقاربة هذه المصالحة من لدن مختلف الأطراف، وأساسا من لدن السجناء أنفسهم في المبادرات الكثيرة التي طرحت خلال الأعوام الفائتة، من المقاربة القانونية إلى المقاربة السياسية، مرورا بالمقاربة الاجتماعية والمقاربة الفكرية الثقافية. بيد أن كل هذه المقاربات ظلت مجرد اقتراحات لا تجد صدى لها في الواقع العملي، ولعل هذا واحد من العوامل التي ساعدت على تعدد المبادرات الصادرة من داخل السجون، لأن أصحاب المبادرات الجديدة يدركون بأن المبادرات السابقة لم تثمر، مما يجعل تعدد المبادرات تعبيرا عن حالة اليأس وسط السجناء. ويمكن إرجاع عدم نجاعة هذه المبادرات إلى ثلاثة أسباب رئيسية: الأول أنه بالرغم من تعدد المبادرات الصادرة عن المعتقلين، إلا أن هذا التعدد دل على التشتت أكثر مما دل على التماسك، ذلك أن هذه المبادرات ظلت مبادرات شخصية ولم تتبلور في مبادرة جماعية ذات وزن، كما تفتقد إلى الشمولية والوضوح من جهة ثانية، بحيث تظل جزئية مما يفقدها طابع المشروع الجماعي العام. بل إن الكثير من هذه المبادرات المتعلقة بالمراجعة هي قريبة من لغة البيانات العامة أكثر من كونها مراجعات بالمعنى الدقيق للكلمة، ولم تخرج مبادرة"أنصفونا" التي وضعها عبد الوهاب رفيقي عام 2005 عن هذه المواصفات، فقد كانت عامة شبيهة بأرضية للمراجعة لا مراجعة حقيقية، لأنها افتقدت إلى العمق والتأصيل النظري للمفاهيم والتفصيل في القضايا المطروقة، وهذا جعلها غير قادرة على إقناع أي طرف آخر بالمبادئ المسطرة فيها ودفعه إلى مراجعة ما يتبناه من مواقف، بسبب ضعف قدرتها الحجاجية. السبب الثاني يتمثل في انعدام الاهتمام الكافي بموضوع المصالحة من لدن هيئات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، بحيث بات من الواضح بشكل كاف أن هذه الهيئات والتنظيمات أخرجت نفسها من النقاش العمومي حول هذه القضايا، متخلية عن هذه المهمة لفائدة الدولة بشكل حصري. فقد كان بمقدور هذه الهيئات أن تكون قوة اقتراحية وأن تقدم نفسها كوسيط بين المعتقلين وبين الدولة. أما السبب الثالث فيتمثل في تغييب المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة في المجلس العلمي الأعلى ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عن مواكبة هذه المبادرات وهذا راجع بشكل رئيسي إلى غلبة المقاربة الأمنية في التعامل مع قضية معتقلي السلفية الجهادية، وغياب التنسيق بين مختلف الأجهزة والمؤسسات في الدولة، التنسيق الذي من شأنه الإبقاء على المقاربة الأمنية حاضرة، مع إدماج المقاربات الأخرى الموازية. وتشير عبارة المصالحة المصطلح الأكثر استعمالا في ملف التيارات الدينية المتشددة في العالم العربي برمته بدلا عن التوبة على سبيل المثال إلى افتراض وجود طرفين في المعادلة، الطرف الأول هو الدولة والطرف الثاني هم المتشددون الدينيون. وتنبني المصالحة على معاودة الاعتراف بمشروعية السلطة السياسية للدولة من قبل المتمردين عليها في السابق أو الطاعنين في تلك المشروعية، وإعادة الالتحاق بالجماعة ونبذ"الخروج"، وهو المصطلح الذي أطلقه الفقهاء في الماضي على حالة المتمرد على شرعية الدولة والنظام العام. ولا يعنينا هنا ذلك التلازم المقصود ربما بين مفهوم الخروج كاصطلاح فقهي وفرقة الخوارج على صعيد الاشتقاق اللغوي، ولكن يعنينا أساسا أن الفقهاء في صياغتهم لذلك المفهوم كانوا يستحضرون أهمية المحافظة على الجماعة، لذلك جعلوه في حكم المرفوض عندما أحاطوه بشروط تكاد تجعله في حكم الاستحالة. وقد ظهرت عبارة المصالحة في المغرب عندما فتحت الدولة ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الماضي، فأنشأت هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004 لتكون أداة مؤسساتية لطي صفحة الماضي، من خلال آلية تسوية ملفات الضحايا وآلية جبر الضرر والتعويض. بيد أن الملاحظ في التعاطي مع ملف السلفية الجهادية في السجون أن الحديث عن المقاربة التصالحية لا يأخذ بعين الاعتبار ذلك التراكم الذي حققه المغرب من خلال الآليات المشار إليها، إذ لا يتم الحديث عن جبر الضرر والتعويض، ويتم الاكتفاء بالمصالحة. وربما كانت الشروط التي يمكن في إطارها التعاطي الرسمي مع هذا الملف لم تتوفر بعد، لذلك من السابق لأوانه التنبؤ منذ الآن بالمقاربة التي قد تلجأ إليها الدولة، وما إن كانت ستعتمد نفس الآليات التي تم اعتمادها في طي صفحة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وما إن كان ملف السلفية الجهادية يندرج بالفعل ضمن حدود الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هذه. غير أنه، في جميع الأحوال، لا بد من التمييز بين الظروف التي واكبت عملية المصالحة التي تمت مع تيار اليسار المتطرف في الماضي، والظروف التي يتم فيها اليوم الحديث عن المصالحة مع التيار السلفي الجهادي، لأن هناك من يحاول الربط بين التجربتين ويريد قياس تجربة الدولة مع اليسار المتطرف إلى تجربتها مع التيار السلفي المتطرف. لقد تمت عملية المصالحة مع اليسار دونما الحاجة إلى مراجعة، فقد تزامنت ظروف تلك المصالحة مع نهاية النموذج الاشتراكي في العالم قاطبة، ما يعني أن "المراجعة" هنا فرضت على اليسار المغربي من خارجه، ولم يكن له يد فيها، على فرض أن تلك المراجعة قد حصلت بالفعل لأن ما جرى هو زوال الفكر الاشتراكي لا مراجعته. أما بالنسبة للسلفية الجهادية فإن التفكير في المصالحة معها لا بد أن يأخذ في الاعتبار أن التوقيت يتزامن مع صعود الفكر الديني في العالم العربي والإسلامي عامة، خاصة بعد مرحلة الربيع العربي. لقد حصلت المصالحة مع اليسار بينما اليسار العالمي في انكماش، أما المصالحة مع السلفية الجهادية فستتم بينما المد الديني السياسي في انتعاش. لذلك فإن تلازم المصالحة مع المراجعة يكاد يكون أمرا بديهيا. غير أن ما يثير الاهتمام هو أن الحديث عن المراجعة مع تيار السلفية الجهادية يقتصر على هذه الأخيرة فحسب، وهذا مسعى محكوم عليه بالفشل مقدما. فالاعتقاد السائد أن الفئة التي يتوجب استهدافها بالمراجعة الفكرية للمفاهيم والأدبيات هي فئة السلفيين الجهاديين المتواجدين داخل السجون، بينما الأمر أكبر من ذلك وأوسع، لأن هذا الإجراء يتعامل مع التيار باعتباره أفرادا متناثرين لا باعتبار هؤلاء نتاجا لفكر قائم. من هنا تدعو الحاجة إلى إشراك السلفية التقليدية والعلمية في أي عملية مراجعة مع تيار السلفية الجهادية، لأن افتراض عدم الارتباط بين هذه المكونات داخل الفكر السلفي العام من شأنه أن يؤدي إلى مراجعة جزئية وغير مثمرة على المديين المتوسط والبعيد. وقد يستغرب البعض مثل هذه الدعوة، لكن الحقيقة هي أنه لا يمكن عزل السلفية الجهادية عن السلفيات الأخرى. وتشبه السلفية التقليدية ذلك النهر الكبير الذي تتفرع عنه وديان صغيرة، ولا تشكل السلفية الجهادية سوى واحدا من هذه الوديان، ذلك أن المرتكزات العقدية للسلفية الجهادية هي نفسها تلك التي تشتغل عليها السلفية التقليدية والعلمية، وهو ما يعني ضرورة إعادة النظر في النسق السلفي برمته من طرف رموزه وممثليه، وهذا يستدعي الحاجة إلى بلورة خطاب ديني متجدد ومستوعب للمبادئ العليا التي أرساها الإسلام نفسه، وهي الوسطية والاعتدال والقبول بالتعدد والانفتاح على الآخر وعدم السقوط في "النزعة المركزية"، لأن مشكلة التيار السلفي بشكل عام هي اعتقاده الجازم بأنه الممثل الحق للإسلام وبأن الاتجاهات الأخرى انحرافات تختلف فقط في الدرجة لا في النوع. وليست السلفية الجهادية سوى التأويل المتشدد لتلك المبادئ والأصول الموجودة لدى السلفية التقليدية والعلمية معا، التشدد الذي يجد جذوره في التشدد العقدي لدى هاتين الأخيرتين. ويمكن أن يتضح المثال بنموذج جهيمان العتيبي الشهيرة في حادث اقتحام الحرم المكي عام 1979 وإعلان نفسه المهدي المنتظر وطلب مبايعته، قبل أن يلقى حتفه في مواجهة مسلحة مع القوات السعودية ويتم اعتقال ومحاكمة أتباعه. فلم يكن جهيمان سوى تلميذا للشيخ عبد العزيز بن باز ممثل السلفية التقليدية، الذي أصدر بيانا يعتبر فيه ما حصل جريمة وفتنة، وينسب له أن قال لمن سأله عن جهيمان وأتباعه:"هؤلاء من خيرة طلابي و ماعهدت عليهم إلا خيرا، وأنا لا أشك بصدق نواياهم وأنهم أرادوا الخير، لكنهم تأولوا خطأ وأسأل الله أن يتجاوز عنهم".