(...) «سؤال حائر»: هل سيشمل الربيع المنتظر المسيحيين أيضاً، أم سيكون خريفاً لهم؟ وهل من الممكن أن نطلق عليه ربيعاً وهو يستثني فئة لها حضورها الثقافي والفكري والمعرفي والاجتماعي والديني؟ وبعد كل هذا هل يمكن أن يكون الربيع للمسلمين العرب فقط، في حين يكون خريفاً للمسيحيين العرب وللمجموعات الثقافية الأخرى؟ أليس في الأمر ثمة مفارقة وإجحاف، فكيف سيكون الربيع العربي ربيعاً حقيقياً، إنْ لم يكن ربيع المواطنة وربيع الحقوق والحريات؟ ربيع الجميع وليس ربيع فئة أو طائفة أو دين على حساب الآخر، لدرجة أن إعلامياً كبيراً (محمد حسنين هيكل) سبق له أن رحّب بثورة «25 يناير» 2011 المصرية، اعتبر ما يشهده العالم العربي اليوم ليس «ربيعاً عربياً» وإنما سايكس بيكو جديد لتقسيم العالم العربي وتقاسم موارده ومواقعه. لعلّ زاوية النظر الخاصة بالمسيحيين قد تختلف عن غيرهم، وإنْ كان الاختلاف كما أحسب مؤقتاً أو ظرفياً، وحتى لو كان المشهد إيجابياً بشكل عام، ولكن قد توجد فيه نقاط معتمة، وربما في فصل الربيع على الرغم من اعتداله، هناك عواصف وأحياناً أمطار وسيول وانهيارات، هكذا هي الطبيعة، ولا نريد التشبيه، ولكن يمكن أن يكون ما حصل للمسيحيين هي جزء من الجوانب السلبية والمعتمة في إطار المشهد الربيعي العام وإن كان صعود تيار الإسلام السياسي يقلق المسيحيين وغيرهم، لكن الحكم قد يكون سابقاً لأوانه. وهنا لا ينبغي إهمال ما تعرّض له المسيحيون، بل لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار، إزاء النتائج الأولية للربيع العربي، على الرغم من أنها لم تكتمل، فالاتجاهات الإسلاموية أو الإسلامية وبعضها المتطرف والمتعصب قد تصدّرت الواجهات حتى وإن كان الأمر بطريقة «تسليم المفتاح» على حد تعبير هيكل في لحظة من لحظات تبرّمه من هيمنة «الأخوان المسلمين» والاعتراف الغربي الأميركي بهم، وإنْ كان لم يأتِ قبولاً بحق ولا إعجاباًَ ولا حكمة، لكنه لتأجيج الفتنة بين المسلمين ، وكان باكورة عمل بعض القوى الإسلامية أو السلفية هو التهديد بإقصاء المسيحيين أو استهدافهم عملياً أو التصدي لطريقة حياتهم وعيشهم، بما فيها استخدام العنف ضدهم. نظرياً هناك خمسة أخطاء كبرى تنطوي على تصنيف المسيحيين كأقلية في أوطانهم: الخطأ الأول يتجاهل كونهم عربا، والعرب «أغلبية» في بلدانهم، وإنْ كنت كما سيكون واضحاً في هذا الكتاب، لا أميل إلى استخدام مصطلح الأقلية والأغلبية، بالنسبة للمجموعات الثقافية: القومية والدينية والسلالية واللغوية، حتى وإن استخدمتها الأممالمتحدة، لأنني أعتقد أنها مصطلحات تصلح لتوصيف القوى والتجمّعات السياسية والكتل البرلمانية، ولا تصلح لتوصيف التنوّع الثقافي، أو «المجموعات الثقافية». الخطأ الثاني هو السعي لفصل المسيحيين عن عروبتهم، إذ أن أغلبيتهم الساحقة تعتبر الرابطة العروبية وهي رابطة حقوقية ووجدانية وانتماء إنساني واجتماعي، بل هي الحبل السري الذي يربطهم بأوطانهم وبشركائهم في الوطن الواحد، فهم والمسلمون وغيرهم ينتمون إلى الرابطة العروبية. الخطأ الثالث هو استصغار دور المسيحيين، في إطار نظرة موروثة سائدة تارة لعددهم، وأخرى لدينهم، وثالثة للامتداد المسيحي في الغرب، ورابعة التشكيك بولائهم، بل ان البعض يعتبرهم طابوراً خامساً، لا سيما في الأزمات، وتفسّر دعواتهم للحداثة والتنوير أحياناً وكأنها أدوات «خادعة» وواجهات للنفوذ الغربي. وتهمل هذه النظرة ما لعبه المسيحيون من دور ريادي على مرّ التاريخ في هذه المنطقة، فقد سبقوا الإسلام في سكنى هذه المنطقة، بل أن أصولهم تمتد إلى ما قبل ذلك بكثير، حيث أبدعوا في حضارتها وثقافاتها وتفاعلاتها لاحقاً، سواء مع شعوبها الأخرى أو مع الهجرات الوافدة إليها. الخطأ الرابع هو محاولة عزل المسيحيين الحاليين عن حركة التنوير التي ساهموا فيها، لا سيّما السعي لتحديث مجتمعاتنا، فضلاً عن المشروع الحضاري الراهن الذي ساهموا في بلورته، للانعتاق من نير الكولونيالية ولإحراز الاستقلال والتحرر والتنمية والاصلاح والديمقراطية والانبعاث الحضاري والوحدة الكيانية، وكانوا باستمرار جزءًا فاعلاً في هذا المشروع، بل أنه لا يمكن تصوّر وجود هذا المشروع دون مساهمة لأبناء الديانة المسيحية أو للمتحدرين منها، بحكم دورهم التنويري التقدمي. فبحسب النظرة الانتقائية، فإن الراهن ليس استمراراً للماضي، والحاضر لا علاقة له بالتاريخ، وإذا كانت المساهمة المسيحية فعّالة وإيجابية في التاريخ المعاصر، فإن الاتجاهات الاقصائية ترى أن حاضرها مختلف، لاسيما الدعوة إلى المساواة والمواطنة وتكافؤ الفرص والحداثة وقيم حقوق الإنسان، وهذه أمور تختلف عن النضال ضد الكولونيالية والانعتاق من نيرها وإحراز الاستقلال، لأنها تتعلق بموضوع المشاركة وإدارة الحكم وبالمسألة الديمقراطية، تلك التي يحترز منها كثيرون، حتى وإن لم يخالفوها علنياً. الخطأ الخامس فهو يتعلق بإنكار مساهمة المسيحيين في نضال أمتهم وشعوبها، لا سيّما بصعود التيار الإسلاموي أو الإسلامي المتطرف، وهو تيار استئصالي شمولي واحدي إطلاقي، ليس بحق المسيحيين فحسب، بل بحق مسلمين يختلفون معه في الرأي والتوجّه، ويعتقد المتطرفون والمتعصبون من التيار الإسلامي، السلفي أو الأصولي، أن على المسيحيين الانصياع وعدم المطالبة بالحقوق المتساوية والمواطنة المتكافئة، لأنهم «ذميون» و«لا ولاية لذميّ»، وبالتالي فإن المساواة التامة ليست ممكنة، وإذا ما أرادوا البقاء في «دار الإسلام» وتأمين حمايتهم، فما عليهم الاّ القبول بدرجة أدنى من المواطنة، أو مواطنة تابعة، أي ناقصة أو مبتورة، ولا ترتقي إلى الحد الأدنى للمعايير الدولية وللقواعد الدستورية المتعارف عليها في الفقه الدستوري. هذه الأخطاء الخمسة الأساسية، التي تم التعبير عنها في رسائل واضحة أو مستترة، معلنة أو مضمرة، علنية أو سرّية، شكّلت المشهد الأكثر احتداماً خلال السنوات المنصرمة، وازدادت حدّة خلال موجة الربيع العربي، ولا سيّما في بعض البلدان التي فيها الوجود المسيحي كبير ومؤثر، ولا سيما في مصر وسوريا والعراق ولبنان وغيرها. لعلّ بعض المتعصبين لم يقرأوا تاريخ المسيحيين العرب في المنطقة، وإن كانوا قد قرأوا التاريخ فإن قراءتهم مغلوطة أو إغراضية أو قاصرة، فقد كان المسيحيون باستمرار يضعون الانتماء الوطني والعروبي «القومي» فوق انتمائهم الديني، مع اعتزازهم بتاريخهم وثقافتهم وخصوصيتهم، سواءً كانوا متدينين أو غير متدينين، مثلهم مثل المسلمين، لكنهم في الوقت نفسه لا يشعرون بأنهم كاملو المواطنة مثلهم، حيث عانوا من التمييز واللامساواة والتهميش الشيء الكثير، قانونياً ومجتمعياً، ولسبب مختلف عن أسباب إقصاء أو تهميش الآخرين لنزعات استبدادية، وذلك ما يتعلق بنزعات استعلائية تعصبية باسم الدين أو تستخدمه وسيلة للهيمنة. ومن باب النقد الذاتي يمكن القول ان ثقافة استعلائية ترسخت لدى أواسط واسعة من المسلمين، وخصوصاً لدى التيارات الإسلامية والتقليدية بشكل عام قوامها التمييز ضد المسيحيين، وقد لعب الموروث السلبي والتقاليد البالية والنظرة الخاطئة إلى الآخر دوراً في الترويج لمثل هذه الثقافة، فضلاً عن قراءة مؤدلجة ومخطوءة للتعاليم الإسلامية، من دون النظر إلى المشترك الإنساني، وثقافة التعايش السلمي بين الأديان والقوميات والسلالات واللغات المختلفة والمتنوعة. المسيحيون جزءٌ من أوطانهم، ومثلما يدافعون عن استقلالها وحقوقها وحرياتها فإن لهم خصوصيتهم أيضاً، لاسيما حقهم في ممارسة طقوسهم وشعائرهم بحرية تامة، في إطار ما يسعون إليه من إقامة دولة مدنية تضع مسافة بين الأديان وتعتمد مبادئ المواطنة والمساواة. ولعلّ تاريخهم منذ عهد الاستقلال وقيام الدولة العربية الحديثة يوضح على نحو جلي أن جوهر مطالبهم يتلخّص باحترام الخصوصية الإنسانية، والتعامل معهم كمواطنين على درجة واحدة من المساواة، بينهم وبين غيرهم من أبناء الوطن باعتبارهم «مواطنون لا ذميون» حسب تعبير الاعلامي والمفكر المصري فهمي هويدي و«مواطنون لا رعايا» وفقاً لكتاب الباحث والمفكر المصري خالد محمد خالد. قد يكون مفيداً التذكير بكتب التنوير العربية المسيحية المعاصرة في مواجهة سياسة التتريك، إضافة إلى الصحف العربية التي صدرت في المهجر خلال القرن ونيّف الماضي، وهي تدلّ دلالة كبيرة وواضحة على دورهم المتميّز والريادي على هذا الصعيد، إذ لا يمكن تصوّر تحقق مثل هذا العطاء دون الحضور والمساهمة الفعّالة للمسيحيين وهو ما دفع إعلامي يمتلك قلماً رشيقاً وجملة أنيقة لجرد العطاء المسيحي على نحو مكثف، فقد ذهب علي الصراف بعد عناء ومواصلة، لطرح سؤالٍ بسيطٍ في شكله، عميقٍ في جوهره وهو: لماذا يُظلم المسيحيون ويعاملون بتمييز وتنتقص من حقوقهم الإنسانية ولماذا يهجرون ديارهم؟ وبعد كل هذا نقول لماذا يعاملون كأقلية. كانت جماعات الإسلام السياسي وراء الهجرة المسيحية التي أصبحت ملفتة. ولا تزال السياسة الرسمية في البلدان العربية تتجاهل العواقب التي تنجم عنها وحدانية الانتماء وإلغاء أو تهميش الهوّيات الفرعية، بزعم الوحدة العربية تارة والإسلامية تارة أخرى والطبقية في تارة ثالثة، تلك التي لا تعترف بالتنوّع والخصوصية، ومثل هذه الظاهرة تستجيب لنزعة استعلائية إزاء الآخر أو تغضّ النظر عنها أحياناً بتواطؤ أو بجهل عن بعض ممارسات التمييز قانونياً أو مجتمعياً، بصورة جماعية أو فردية، دون أن تدرك ماذا يعني غياب المسيحيين عن المشهد العربي؟ "السفير" اللبنانية