: (أهل الذمّة نموذجا) في مقاله الأخير "الجزية وأهل الذمّة.." المنشور بجريدة "هيسبريس الإلكترونية، يتناول الأستاذ عصيد قضية أهل الذمّة، وهم بتعبير العصر الأقليات من أصحاب الديانات غير الإسلامية، خصوصا اليهود والنصارى، وما يكتنف وضعيتهم الحالية من مخاطر بعد صعود التيار الإسلامي ذي التوجه السلفي على حد تعبيره؛ يقول بهذا الصدد : "تكشف طريقة حديث بعض المغاربة المتشدّدين دينيا عن "الجزية" و"أهل الذمة" عن مقدار حاجة العقل السلفي إلى الانتقام من وضعية التأخر التاريخي التي يعيشها المسلمون اليوم مقارنة بالدول المتقدمة، الانتقام خاصة من اليهود والنصارى الذين جعلهم حظهم العاثر مواطنين لدول أغلبية سكانها مسلمون، فما ينقص مصر الغارقة في كل أنواع المشاكل والأزمات الخانقة، هو إرجاع أقباطها إلى ما كانوا عليه من إذلال، وما ينقص المغرب هو التطبيق الشامل للشريعة لكي تنفتح أمامه كل آفاق التقدم الممكنة، بعد تحقير يهوده كيدا لإسرائيل. وطبعا كل مساوئ الماضي تصبح فتوحات عظيمة ومآثر حضارية راقية..". 1) طبعا الأستاذ عصيد لا يلتفت إلى معاناة الأقليات المسلمة في بورما مع البوذيين المتشددين الذين يقتلون ويحرقون المسلمين المسالمين، (وما نقموا منهم إلا أن يومنوا بالله العزيز الحميد)، وحيث عملية تهجير قسري لشعب "الهورينجا" تحت مرآى ومسمع العالم المتحضر الذي يفتخر بإصداره لوثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي على أساسها يتمّ التعامل مع الدول المارقة. 2) ما علينا، لنعد إلى صلب الموضوع، فلأول مرّة، في حدود متابعتنا لكتابات عصيد في قضايا الإسلام، يوثق هذا الأخير مرافعته في الدفاع عن اليهود والنصارى بنصوص من الكتاب والسنّة لا غبار عليها من حيث السند، ذلك أنه استعان بأحد المراجع العلمية الكبيرة ذات التأثير الواسع في أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة، ألا وهو الإمام المجدد ابن القيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، واتخذ كتابه "أحكام أهل الذمّة" موضعا لتوجيه انتقاداته، لكنه انتقى منه ما يوافق تعصبه ضد الإسلام، وأهمل انتقادات الإمام الثاقبة لمذاهب الفقهاء في قضية الجزية وأحكام أهل الذمة، فالإمام لما ساق مذاهب الفقهاء في معنى قوله تعالى "عن يد وهم صاغرون"، وفيها ألوان من العنف والضرب والجر..إلخ، أعقبها بقوله: (وهذا كله مما لا دليل عليه،ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك) (أنظر ص.120)، لكن عصيد لم يشر إلى هذه التعقيبات كعادته في التلبيس، وإنما غايته إثارة الفتنة والتنقيص من الإسلام، وهيهات.. 3) ما يؤاخذ على الأستاذ عصيد أيضا في مرافعته أنه يتعمّد كعادته إغفال حقائق كبيرة تكتنف الموضوع، وسنقتصر هنا على إبراز حقيقتين واضحتين لا يمكن أن يتجاهلهما من رام معالجة مثل هذه المواضيع الخطيرة؛ الأولى تحدد موقف الإسلاميين المتنوّرين المعاصرين من قضية الأقليات الدينية في ظل الدولة الإسلامية الحديثة،وعلى رأسهم الذين وصلوا منهم إلى الحكم في مصر وتونس والمغرب، بعد الربيع العربي/الديمقراطي، إذ سبق أن وضعوا العديد من المؤلفات التي تعالج هذه القضية، وقد كان 'الأب جورج مسوح' في مقاله في مجلة النهار بتاريخ السبت 15 سبتمبر 2012 تحت عنوان "المواطنة الذمية" أكثر موضوعية من عصيد، بالرغم من مجانبته الصواب وتعصبه في بعض القضايا؛ الحقيقة الثانية التي أغفلها عصيد تتعلق بالسياق التاريخي لبعض النصوص التي ساقها في التعامل مع أهل الكتاب، وأسباب ورودها، فإغفال السياقات التاريخية لورود نصوص دينية تعالج قضايا سياسية في ظروف خاصة قد يؤدي إلى مطبّات وكوارث لا حسر لها. موقف الإسلاميين المتنوّرين من قضايا الجزية وأهل الذمّة 1) ألف شيوخ ومفكرون وعلماء معاصرون العديد من الكتب والرسائل التي تعالج قضية الأقليات الدينية في ظل الدولة الإسلامية الحديثة، مستفيدين في ذلك ممّا راكمته البشرية من اجتهادات من أجل تحقيق كرامة الإنسان وتحصين حقوقه بغض النظر عن لونه أو جنسه أو معتقده،ومن أجل تحقيق التعارف بين الشعوب والقبائل، وكلاهما مقصدان كبيران من مقاصد الإسلام، مصداقا لقوله تعالى :" ولقد كرمنا بني آدم"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، كلكم لآدم، وآدم من تراب "، وقوله سبحانه :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم". 2) من هذه المؤلفات: 'غير المسلمين في المجتمع الإسلامي' و'الأقليات الدينية والحل الإسلامي' للعلامة يوسف القرضاوي، و'الحريات العامّة في الإسلام' للشيخ الغنوشي مؤسس حزب النهضة الحاكم اليوم في تونس ما بعد الثورة، و'مواطنون لا ذميون' لفهمي هويدي، و'التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام' للشيخ محمد الغزالي، و'الفقه الإسلامي في طريق التجديد' لسليم العوا، و'الإسلام وغير المسلمين في المجتمع الإسلامي'، و'فكرة المواطنة في المجتمع الإسلامي' لطه جابر العلواني رئيس المركز العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، و'آفاق الحوار الإسلامي المسيحي' للمرجع الشيعي حسين فضل الله، و'الإسلام وغير المسلمين' للشيخ العلامة وهبة الزحيلي..وغيرهم.ونحن نسوق بعض مقولاتهم دحضا لتلبيسات عصيد، ومن أراد التوسع فليرجع إلى المراجع المشار إليها أعلاه. 3) يقول الشيخ محمد الغزالي (وقاعدة التعامل مع مخالفينا في الدين أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا)؛ ويقول الدكتور يوسف القرضاوي مقارنا مفهوم الذمَّة في الإسلام مع مفهوم "الجنسية" المعاصر: (هذه الذمَّة تعطي أهلها من غير المسلمين ما يشبه في عصرنا الجنسية السياسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون واجباتهم. فالذمِّيُّ على هذا الأساس من أهل دار الإسلام كما يعبِّر الفقهاء، أو من حاملي الجنسية الإسلامية كما يعبِّر المعاصرون)، ويقول الشيخ راشد الغنوشي (ومصطلح الذمّة نفسه ليس لازم الاستعمال في الفكر السياسي المعاصر طالما تحقق الاندماج بين المواطنين على شرط المواطنة، أي المساواة في الحقوق والواجبات). 4) أمّا عن الجزية وهي ضريبة سنوية يدفعها غير المسلمين للدولة الإسلامية مقابل تركهم الدفاع عن الوطن فيقول العلامة القرضاوي (الجزية إنما تؤخذ من أهل الذمّة مقابل تركهم الدفاع عن الوطن،وأما الآن فتسقط عنهم لأن التجنيد إجباري يستوي فيه المسلم والكافر)، بل ولا يرى بأسا في تغيير اسمها إلى ضريبة أو إتاوة كما حصل زمان سيدنا عمر مع نصارى بني تغلب، يقول بهذا الصدد(لئن كان بعض الناس يأنف من إطلاق هذا الاسم فليسمّوه ما يشاؤون،فإن نصارى بني تغلب من العرب طلبوا من عمر أن يدفعوا مثل المسلمين صدقة مضاعفة ولا يدفعوا هذه الجزية، وقبل منهم عمر، وعقد معهم صلحا على ذلك) ؛ويقول الشيخ الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير:(الظاهر في هذا الإسم يعني الجزية أنه معرّب من كلمة 'كزيت' بالفارسية بمعنى الخراج،نقله المفسرون عن الخوارزمي، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية، ولم يعرج عليها الراغب في مفردات القرآن)؛ ويقول فهمي هويدي (إن موضوع الجزية في حد ذاته لم يعد واردا في المجتمع الإسلامي الحديث، على اعتبار أن العلة الأساسية التي بني عليها الحكم الشرعي لم يعد لها وجود،باشتراك الجميع في الدفاع عن الوطن الذي بات ينتمي إليه الجميع). 5) ويقول الدكتور سليم العوا( لغير المسلمين من المواطنين من الحقوق العامّة والخاصة ومن حق تولي الوظائف مثل ما للمسلمين، بلا زيادة ولا نقصان)، قلت: هم الطبع يستثنون الإمامة العظمى وكذا الوظائف ذات الصبغة الدينية، فلا يتولاها إلا المسلمون، يقول الغنوشي (إنَّ المساواة في الحقوق والواجبات على أساس المواطنة هي الأصل، وأنَّ التميِّزات التي تفرضها الطبيعة العقدية للدولة الإسلامية لا ينبغي أن تُسقط ذلك الأصل. فلغير المسلم الحق في تولي كلِّ الوظائف، عدا ما اقتضته الخصوصية الإسلامية لوظيفة معينة)، وهذه الخصوصية يبينها الشيخ يوسف القرضاوي إذ يقول (ولأهل الذمَّة الحق في تولي وظائف الدولة كالمسلمين. إلا ما غلب عليه الصبغة الدينية كالإمامة ورئاسة الدولة والقيادة في الجيش، والقضاء بين المسلمين، والولاية على الصدقات ونحو ذلك). 6) يلخص طه جابر العلواني مأزق النخبة العلمانية في تعاملها المتحيّز ضد المشروع الإسلامي بقوله (لقد اجتهد الكثير من قيادات المشروع السياسي الإسلامي في مفهوم الديمقراطية، وأعلنوا قبولهم لها وأصّلوا لها دون تحفظ، وشاركوا فيها، كما اجتهدوا في التعددية السياسية وأعلنوا قبولها كدعامة من دعائم الديمقراطية، وأعلنوا قبولهم لفكرة ومفهوم الحريات العامة، كما فعل راشد الغنّوشي، ومع ذلك فلا تزال العديد من الفصائل العلمانية الدنيوية على مواقعها من رفض المشروع السياسي الإسلامي وتخوفها، وتفضيلها العيش في ظل الاستبداد والديكتاتوريات على قبول أي مشروع إسلامي). سياق ورود آية "الجزية" يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل :" قاتلوا الذين لا يومنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون". 1) يقول العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير وهو يتحدث عن سياق ورود هذه الآية: (الظاهر أن هذه الآية استئناف ابتدائي لا تتفرع على التي قبلها، فالكلام انتقال من غرض نبذ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المشركين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى،إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام، وكانوا يحسبون أن في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدي للطعن في الإسلام وتلاشي أمره، فلما أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوما فيوما، واستقل أمره، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحنه أي عداوة نحو المسلمين، فنشأ النفاق في المدينة وظاهرت قريظة وبني النضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة، فأذهبهم الله عنها؛ ثم لما اكتمل نصر الإسلام بفتح مكة والطائف وعموم بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين،وامتد إلى تخوم البلاد الشامية، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرقه إليهم، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم، فأخذوا يستعدون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسّان سادة بلاد الشام في ملك الروم..). ثم استدل الشيخ بحديث عمر رضي الله عنه الذي في البخاري حين سأله ابن عباس عن اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر:( والله ما كنا في الجاهلية نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم...وكان لي صاحب إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، ونحن نتخوّف ملكا من ملوك غسّان، ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا،فقد امتلأت صدورنا منه،فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب،فقال افتح افتح، فقلت جاء الغسّاني؟ فقال بل أشد من ذلك،اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه، فقلت رغم أنف عائشة وحفصة..) الحديث. ثم عقب الشيخ ابن عاشور بقوله:(فلا جرم لما أمن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة والنضير، وقد هزموا وكفى الله المسلمين بأسهم وأورثهم أرضهم، فلم يقع قتال معهم بعد، ثم ثنى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام). 2) قلت : واضح من السياق التاريخي لورود هذه الآية أن المراد من إذلال أهل الكتاب، سواء من خلال إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، أو اضطرارهم لأضيق الطرق عند اللقاء بهم كما في الحديث الصحيح،هو إخراج الرهبة والخوف منهم من صدور المسلمين الذين عاشوا عقودا، في الجاهلية وفي بدأ الإسلام، في أجواء من الرعب والإرهاب الذي كان يشيعه أهل الكتاب، وكان يتهدد كيان الدولة المسلمة الناشئة، عبّر عنها الفاروق عمر بقوله "وقد امتلأت صدورنا منه" يعني ملك غسّان الذي كان تحت إمرة الروم. 3) لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرضى لصحابته أن يعيشوا ذلك المركب النفسي الممزوج بالرعب، وهم حملة رسالته إلى العالم، لكن الفقهاء توسّعوا في تفسير "وهم صاغرون" بما يتماشى والثقافة السائدة في عصورهم، وهي ثقافة الاستبداد الموروثة عن الروم والفرس بعد فتح بلادها، والتي نقلها عصيد عنهم، ولم يبق لها اليوم من مكان في عصر الثورات العربية التي شارك فيها الجميع :إسلاميون وعلمانيون، مسلمون وأقباط مسيحيون، عرب وأمازيغ وغيرهم، فيجب إعادة النظر في الاجتهادات القديمة المتعلقة بتلك الأحكام بما يوافق روح العصر ومطلب الكرامة والحرية اللتان أصبحتا من أهمّ عناوين الحراك المجتمعي اليوم، وهو ما يوافق ما توصل إليه شيخ الإسلام ابن القيم في كتابه "أحكام أهل الذمة" بعد تفصيل طويل في ما يتعلق بتمييزهم عن المسلمين في اللباس والمركب ونحوه مما ذكره عصيد، يقول رحمه الله :(ومدار هذا الباب وغيره مما تقدم على المصلحة الراجحة،فإن كان في تمكينه (أي الكتابي) من اللباس وترك الغيار،والسلام عليه ونحو ذلك تأليفا له ورجاء إسلامه وإسلام غيره، كان فعله أولى، كما يعطيه من مال الله لتألفه على الإسلام، فتألفه بذلك أولى، ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تأليفهم الناس على الإسلام بكل طريق تبين له حقيقة الأمر،وعلم أن كثيرا من هذه الأحكام التي ذكرناها من الغيار وغيره تختلف باختلاف الزمان والمكان والعجز والقدرة والمصلحة والمفسدة. ولهذا لم يغيّرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبوبكر، وغيّرهم عمر..) (ص. 1321 ).