هذه محاولة متواضعة لكشف النقاب عن أحد المفاهيم الإسلامية التي أساء بعض المحسوبين على الإسلام ، فهم معناه ، وفقه حكمه وحكمته ، حتى بلغ بهم الخبل والجنون ، أن يعتقدوا أن قتل هؤلاء المواطنين الآمنين من غير المسلمين وترويعهم ، من أعظم القربات ، وأجل الأعمال التي تدخل الجنة وتجير صاحبها من النار!! فمن هم " أهل الذمة " ؟ وما طبيعة علاقتهم بالمسلمين ؟ وما هي حقوقهم في بلاد الإسلام ؟ " أهل الذمة " أو " الذميون " هم المواطنون من غير المسلمين في المجتمع المسلم ، والذمة تطلق ويراد بها العهد والضمان و الأمان ، وإنما سموا كذلك لأن لهم عهد الله و عهد رسوله و عهد المسلمين كيما يعيشوا في كنف المجتمع المسلم آمنين مطمئنين ، لهم ما للمسلمين وعليهم ماعليهم . وهذه العقدة بمثابة" الجنسية " في الأدبيات المعاصرة ، يكتسبون بها حقوق المواطنة كاملة غير منقوصة. بيد أن هذا المصطلح، قد قل تداوله في الأدبيات الفكرية المعاصرة ، وعوض بمصطلح المواطنة ، الذي لا يفرق بين المسلم وغيره في بلاد الإسلام ، مادام الجميع يعيش تحت سقف واحد ، ويحتكم إلى قانون واحد . لذلك يرى الدكتور فهمي هويدي أنه لم يعد مبرر لاستمرار استخدام تعبير " أهل الذمة " أو " الذميون " ، لأن عقد الذمة لم يعد مطروحا منذ زمن طويل ( راجع كتاب : مواطنون لا ذميون: موقع غير المسلمين في بلاد المسلمين). وهو ذات المعنى الذي جنح إليه الدكتور محمد فتحي عثمان حين قال : " ويبقى ، مع ذلك ، أن هذا الوصف لا يشترط الإصرار عليه دائما ، وبخاصة إذا كان استعماله يؤدي إلى بعض الشبه و التخوف ، ولو لم يكن له أساس منطقي " . (من مقال : " مراجعة الأحكام الفقهية الخاصة بغير المسلمين " الصادر بمجلة " الأمان " اللبنانية يونيو 1979). هذا، وقد حدد الفقيه الشيخ سيد سابق في كتابه "فقه السنة " علاقة المسلمين بأهل الذمة في النقط التالية : علاقة المسلمين بغيرهم علاقة تعاون وتعارف وبر وعدل ، وبالنسبة ل "أهل الذمة" عدم إكراه أحد منهم على ترك دينه أو إكراهه على عقيدة معينة. - من حق أهل الكتاب أن يمارسوا شعائر دينهم ، فلا تهدم لهم كنيسة ولا يكسر لهم صليب. - من حق زوجة المسلم الذمية الذهاب إلى كنيستها أو معبدها. - أباح الإسلام لهم كل ما أباحه دينهم من الطعام وغيره. - ترك لهم الحرية في قضايا الزواج والطلاق والنفقة. أما عن حقوقهم على المسلمين في دار الإسلام ، فقد حددها الدكتور يوسف القرضاوي في التالي: -الحماية من الاعتداء الخارجي ، وذلك بمنع من يؤذيهم وفك أسرهم ، ودفع من قصدهم بالأذى . - الحماية من الظلم الداخلي ، أمر يوجبه الإسلام ، ويحذر المسلمين أن- يمدوا أيديهم أو ألسنتهم إلى " أهل الذمة " بأي عدوان ، والحماية المقررة لهم تشمل حماية دمائهم وأنفسهم و أبدانهم ، كما تضمن حماية أموالهم وأعراضهم. ويتوجب تأمينهم عند العجز و الشيخوخة والفقر. - جعل الإسلام من حق "أهل الذمة " تولي وظائف الدولة كالمسلمين ، إلا ما غلبت عليه الصفة الدينية كالإفتاء أو ما شابه ( يراجع كتاب " تطبيق الشريعة و حقوق الأقليات " ، وكتاب " غير المسلمين في المجتمع الإسلامي " للدكتور يوسف القرضاوي ). ويرى الدكتور عبد الحليم أبو شقة أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم في بلاد المسلمين ، علاقة يجب أن ترتكز على خلق التسامح و العدل ، وذلك بعدم الإكراه على الدين ، أوالعدوان على الممتلكات و الأعراض . كما اعتبر أن من أعظم مظاهر التسامح الإسلامي ، إشراكه لأهل الذمة في التعليم والجيش والمجالس النيابية ( كتاب : حول أزمة الخلق المسلم المعاصر ، ص : 18 – 17). أما الأستاذ سميح عاطف الزين ، فيؤكد، في ذات المعنى ، أن غير المسلمين الذين يتبعون الدولة الإسلامية ، يشاركون في انتخاب أعضاء المجالس النيابية ، ومن حقهم السير في الزواج والطلاق والمطعومات والملبوسات وفق دينهم ، أما المعاملات والعقوبات فالقانون واحد ، فعليهم الالتزام به دون إجبارهم الاعتقاد به . ( " الإسلام وإيديولوجية الإنسان " ، ص: 330). وللدكتور القرضاوي كلام نفيس ، ذي حس فقهي مقاصدي ماتع، أورده في سياق معالجته لأحد الأسئلة التي وجهت إليه حول "أهل الذمة"، حيث قال:" إذا أردنا أن نجمل تعليمات الإسلام في معاملة المخالفين له -في ضوء ما يحل وما يحرم- فحسبنا آيتان من كتاب الله، جديرتان أن تكونا دستورا جامعا في هذا الشأن. وهما قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)سورة الممتحنة:8،9. فالآية الأولى لم ترغب في العدل والإقساط فحسب إلى غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم -أي أولئك الذين لا حرب ولا عداوة بينهم وبين المسلمين- بل رغبت الآية في برهم والإحسان إليهم. والبر كلمة جامعة لمعاني الخير والتوسع فيه، فهو أمر فوق العدل. وهي الكلمة التي يعبر بها المسلمون عن أوجب الحقوق البشرية عليهم، وذلك هو (بر) الوالدين. وإنما قلنا: إن الآية رغبت في ذلك لقوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين) والمؤمن يسعى دائما إلى تحقيق ما يحبه الله. ولا ينفي معنى الترغيب والطلب في الآية أنها جاءت بلفظ (لا ينهاكم الله) فهذا التعبير قصد به نفي ما كان عالقا بالأذهان -وما يزال- أن المخالف في الدين لا يستحق برا ولا قسطا، ولا مودة ولا حسن عشرة. فبين الله تعالى أنه لا ينهى المؤمنين عن ذلك مع كل المخالفين لهم، بل مع المحاربين لهم، العادين عليهم. ويشبه هذا التعبير قوله تعالى في شأن الصفا والمروة -لما تحرج بعض الناس من الطواف بهما لبعض ملابسات كانت في الجاهلية-: (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) فنفى الجناح لإزالة ذلك الوهم، وإن كان الطواف بهما واجبا، من شعائر الحج ." أما الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي فقد اعتبر مجرد ذكرهم بسوء تضييع لذمة الله ورسوله، وتعرض لسخط من الله عظيم .قال- رحمه الله- : "إن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام". و إلى ذات المعنى جنح ابن حزم ، الفقيه الظاهري، حينما قال: "إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة". فإذا أضفت أخي القارئ إلى هذا الفقه الراقي المتسامح والمتميز بأعلى درجات المسؤولية والدقة ، أحاديث الرسول –صلى الله عليه وسلم - ، المبثوثة في الكتب الصحاح حول "أهل الذمة" وحقوق المسلمين ، ووعيده -صلى الله عليه وسلم- لكل من آذاهم أو انتهك حرماتهم بسوء العاقبة ، لم يبق لك إلا أن تقتنع معي بأن ما يقوم به بعض دعاة الغلو والتطرف الديني في أكثر من بلاد إسلامية ضد المواطنين الأجانب من قتل وإذاية وترويع ...لهو من أعظم الآثام وأشد المنكرات ، وحسبك أن تتأمل معي هذا الحديث النبوي الشريف الذي ذكره الإمام البخاري في كتاب الديات باب:( إثم من قتل ذميا بغير جرم). عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا . وعند الترمذي في كتاب الديات : باب ما جاء فيمن يقتل نفسا معاهدة : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَلَا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدْ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يُرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا. قال الإمام الترمذي : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وحديث (ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس: فأنا حجيجه يوم القيامة) رواه أبو داود، وهو صحيح أو حسن على أقل تقدير، وحسنه ابن حجر والألباني رحمهما الله.. وغيرها من الأحاديث الصحاح. وأخيرا.. فإن المستقرئ للنصوص الصحيحة في هذا الباب سيخلص دون كبير جهد إلى أن هذا المعنى – أي حرمة إذاية الذمي- معنى صحيح مليح، ومبدأ شرعي أساس ومتأصل ، غير قابل للتأويل والتحوير ؛ وكل المحاولات التي تتغيى لَيَّ عنقه ، وتوجيه مدلوله وفق ماتشتهيه أنفس مريضة ، و تلذه أعينٌ عميٌ ؛ محاولات ضالة مضلة ،مآلها إلى مزبلة التاريخ ، كما آلت مثيلاتها يوْماً مَا أيام سلف هذه الأمة الصالح ... والله نسأل أن يحفظنا من الخبل والجنون ...