تغذت المخاوفُ على نحوٍ غير مسبوق بِالبلدان التي عرفت حراكاً سياسياً صعدت في أعقابه أحزابٌ وحركاتٌ إسلامية إلى السلطة، وبرزت الخشيةُ بشدة من حصولٍ ارتدادٍ في المكتسبات التي تمَّ تحقيقها في كنف الديكتاتوريات، رغمَ علاتها، سيمَا وأنَّ مظلومِي الأمس من الإسلاميين الذينَ بلغوا كراسيَ الحكم في أكثر من بلد، يؤطرونَ اشتغالهم في الحقل السياسي بمرجعية إسلامية تستندُ إلى فهمٍ محدد للنصوص الدينية مما قد ينتفِي معهُ استحضارُ السِّياقِ التاريخي، ذي الدور المفصلي في مقاربتها، ولعلَّ ما يحدثُ اليومَ بمصر، تمظهرٌ جليٌّ للأزمة السياسية في العالم العربي عقبَ فوز الإسلاميين بالانتخابات في بلدان ما عرفَ ب"الربيع العربي"، إذا ما استثنينَا ليبيا، التي رجحت فيها صناديق الاقتراع كفة تحالف القوى الديمقراطية، بقيادة محمود جبريل. وإن كان من يوصفونَ "بالإسلاميين المعتدلينَ" قد تأقلموا مع مناخ السلطة الجديد، وحافظُوا على البنَى القديمة، إذا ما علمنا مثلاً أن العلاقات الديبلوماسية لا تزالُ قائمةً بين تل أبيب والقاهرة، فإن تياراً من الإسلاميين، ينعتُ بالسلفي، أضحَى مثارَ جدلٍ لا نهايةَ له، بينَ من يؤيدَ حقَّ مشايعيه في الانتظام داخلَ حزبٍ سياسي بدعوى ضرورة تعدد المشاريع المجتمعية داخلَ أيِّ بلد من البلدان الديمقراطية، وبينَ مرتابٍ يحملُ الدولة على التدخل بصفةٍ مستعجلةً، تفادياً لإلقاء السلفيين بالدولة، في غياهب المجهول، على اعتبار أنهم لا يؤمنون باللعبة السياسية في جوهرها. وبينِ مطمئن ومرتاب تستقي هسبريس فيمَا يلي، آراء باحثين اثنين، لهُما إسهاماتٌ شتَّى في حقل الفكر الإسلامي، وموقفَ أحد أبرز وجوه السلفية بالمغرب، لتوضيح وجهات النظر المتباينة. إدريس مقبول..أكاديمي مغربي، صاحبُ كتابُ "المخفي والمعلن في الخطاب الأمريكي" يُبدي الدكتور إدريس مقبول خمسَ ملاحظاتٍ يراهَا ضروريةً لفهم ظاهرةَ "السلفية": أولاً: العقل السلفي السياسي ليس واحداً، بل هو ألوان وأطياف تبتدئ من مدرسة المحافظة السكونية التي تجرم الخروج، صعودا في الإصلاحية التي تؤمن بالمشاركة وبأدوات الديمقراطية دون فلسفتها وانتهاءً إلى الانقلابية الجهادية. ثانيا: العقل السلفي السياسي الراهن الذي يؤمن بالمشاركة، هو تجسيد لأحد أهم الاختيارات التقليدية في الفكر السياسي الإسلامي، التي حافظت على ملامحها الشكلية دون أن تطور قدرتها على تقديم اجتهادات تداولية كبيرة في باب الارتقاء بالفعل السياسي، لإنتاج أجوبة جديدة عن أسئلة العصر. ثالثا: العقل السلفي السياسي قد ينتهي بسبب طبيعته الظاهرية ونسقيته النصوصية وترجمته الحرفية في مجال المفاهيم والأحكام والقيم التي هي مساحة الاختلاف الكبرى إلى بعض الأعطاب والآفات من قبيل التعصب والتسلط والإقصاء، وهذه الآفات لا تقصر –في الحقيقة- على هذا التوجه بل هي سمة كل تطرف ومنه التطرف العلماني الذي يشتغل بنفس المبدئية حين يملي على غيره ما ينبغي أن يفكر فيه وما لا ينبغي أن يفكر فيه، ولا يرى الصواب إلا فيما هو عليه ولا يراه أبدا فيما يفكر فيه سواه. رابعا: يعتقدُ الأستاذ مقبول أنَّ العقل السياسي السلفي الصاعد الآن في العالم العربي يحتاج للإفادة من درس التاريخ في مشوار بنائه أكثر من درس العقيدة، ذلك أن السياسة مجال المصالح المرسلة حتى يتمكن من الاعتبار أكثر في مضمار الحاجة للتنسيب والتسامح والتعاون والتعايش، فيدفع عنه التصلب في بعض الأحيان ، فلا أحد بإمكانه وحده أن يحسم في معركة مناهضة الاستبداد وبناء مشروع دولة ما بعد الربيع إلا إذا كان يتمتع بقدر كبير من التسامح والاعتراف التعاوني. خامسا: يتصورُ الباحثُ أن ما يجري اليوم من "تجاذب متطرف" في بعض الأحيان هو عبارة عن ردود أفعال متشنجة عن أفعال لا تخلو من تطرف في حد ذاتها، فالتطرف العلماني يستدعي التطرف السلفي، حسب رأيه، وكلاهما يصدر عن عقلية استعلائية إلغائية لا تنظر إلا بعين واحدة، والعين الواحدة لا يمكنها الإحاطة بالحقيقة. عمر الحدوشي..واحد من أبرز شيوخ السلفية بالمغرب عمر الحدوشي، أحد شيوخِ السلفية بالمغرب، يرى أنَّ انتظام السلفيين وكثرتهم "تسر ولا تغر"، لأنه على الرغم من كثرة مشايعي التيار السلفي في المظاهرات التي يتم تنظيمها، تبقى هناك لوبيات مهيمنة على مختلف مناحي الحياة بالبلدان الإسلامية، مضيفاً أن الصهيونية والقوى العالمية الكبرى مستمرة في تفصيل ديمقراطية على مقاسها، لدول لها خصوصيتها ودينها وأعرافها. وزادَ الحدوشي في حديث لهسبريس، أنَّ مبادئَ الإسلامِ تكفلُ الحماية لكافة الطوائف، ودفعُ أهل الذمة للجزية إجراءٌ يتمُّ فرضه لأجل حمايتهم أمَّا من أسلمَ منهم فلا حرجَ عليه، لأنَّ "شرع الله" واضحٌ ولا مجالَ فيه للمواربة، ومن ثمة فإن تطبيق الحد يغدو ضروريا، وقتلُ المرتد يكون بعدَ استتابته ثلاثة أيام. وتساءلَ الحدوشي في معرض حديثه لهسبريس، عن طبيعة الديمقراطية التي يريدها العلمانيون والليبراليون؟ وإذا ما كانت مدخلاً ""للفسوق والفجور والخلاعة"، إذ لا بدَ من العمل حسبَ الحدوشي، على إرساء دعائم ديمقراطية تقوم على الشورى، وتراعي خصوصية الدولة الإسلامية، وتنهضُ في المقام الأول على تطبيق شرع الله ومقتضياته. وبشأن تغير السياق، وفرض خيار الدولة المدنية لنفسه، استطردَ الحدوشي أنَّ الحدَّ لا يطبق في كل الأوقات، واستشهدَ بقصة صحابي جاء إلى النبي بثوب رجل دخلَ بستانه وأكل من ثماره، فما كانَ للنبي (ص) إلا أن حثهُ على تأديب الرجل بالتي هيَ أحسن ودونَ فظاظة. أحمد عصيد..أستاذ باحث وناشط حقوقي، الباحث والناشط الحقوقي أحمد عصيد، يرى أن حصول ارتداد في الانتقال الديمقراطي بسبب سطوة السلفيين، يتوقفُ على كيفية تحرك القوى الأخرى، وعلى مدَى ديناميتها واشتغالها لأجل الحفاظ على المكتسبات التي تم تحقيقها، وذلكَ دفعاً بالديمقراطية في الاتجاه الصحيح، أمَّا إذا تخاذلت حسبَ عصيد، فإنَّ السلفية ستصبحُ خطراً حقيقياً على مسلسل الدمقرطة المنطق منذ عقود بشكل متعثر، ولم يصلْ حتى الآن إلى ترسيخ قواعد الديمقراطية، وترسيخ قيمها في المجتمعات الإسلامية. بخلاف ما إذا اشتغلت وفقَ المطلوب، إذْ ستضحي إذ ذاكَ موضة عابرة، وهيَ موضة تجدُ تفسيرها في إحساس السلفيين بتحرر طبيعي أساؤوا استعماله وسخروه لأجل المس بمكتسبات غيرهم، والحجرِ على حرية من يخالفهم في الرأي والدين والمذهب. وزادَ عصيد في حديثٍ لهسبريس "أعتقدُ أنَّ عنف السلفيين وتهورهم من أسباب تراجعهم، ونفور مختلف القوى منهم، وأما إذا لم يعمدوا إلى العنف واقتنعوا بالمشاركة الطبيعية في الحياة السياسية وفقَ قواعدها الحديثة والعصرية فإن نتيجة ذلك هو أنهم سيتعلمونَ بالتدريج عبر القيام بعدد من التنازلات التدريجية، لأن تمسكهم بمواقفهم الأصلية من شأنه أن يعزلهم عزلاً تاماً في معترك السياسة بسببِ تشرد آرائهم ومنافاتاه للاِختيار الديمقراطي، الذي يؤطرُ الحياة السياسية في المجتمعات الديمقراطية. عصيد زادَ في التصريح ذاته، أنَّه تنبأ قبل عدة أشهر بما قامَ به الرئيس المصري محمد مرسي أخيراً، إذ كانَ يعرفُ أنَّ خطته تقومُ على ملاطفة إسرائيل عبرَ تعيين سفير فيها، ومحاولته التقرب من أمريكا والغرب، في تحضيرٍ لإقامة ديكتاتورية داخلية تبنى في تحييدٍ تام للغرب، وذكَ بضمان أمن إسرائيل، حتَّى لا يتدخلَ الغربُ في الحياة السياسية الداخلية كما هوَ الشأن بالنسبة إلى السعودية. وبعدما أرسى مرسي هذا المنطلق كان غرضهُ من الإعلانِ الدستوري تحصينُ لجنة الدستور وتقديمها، لأنه يعلمُ بأنها عديمة المصداقية إثر انسحاب العلمانيين والليبراليين وثلاث كنائس قبطية، مما يدلُّ على أنَّ الدستور المعد، إنما هوَ دستورُ الإخوان والسلفيين، وليسَ دستورَ كل المصريين نظراً لعدمِ احترام المبدأ الأساس في صياغة الدساتير، وهوَ تمثيلُ مكونات الأمة. حيثُ انساقَ الإخوان والسلفيون وراءَ تعريفٍ اختزالي للديمقراطية وهوَ صوتُ الأغلبية، بما يفضي حتماً إلى استحضار حقوق الأقلية، وبالتالي إقامة الديكتاتورية عبرَ انتخابات ديقمراطية، وذلكَ ما سماهُ ثوار مصر بتهريب الثورة. وبشأن حديث الحدوشي عن أخذ الجزية من أقباط مصر وتطبيق الحدود، قالَ عصيد إنَّ كلام الحدوشي غايةٌ في الجهالة وانعدام الضمير الإنساني لأن وضعية أهل اذمة، إهانةٌ ومذلةٌ لا يمكنُ أن تكونَ وضعية مواطنة يتساوى فيها جميع أعضاء المجتمع، فالقرآن استعمل في تأكيده على دفع الجزية عبارة "صاغرون" كما وردَ في الآية 29 من سورة التوبة (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون(، وقد تم تفسيرها من قبل مفسرين كثر بأنها أن يقبض المسلمُ الجزية وهوَ جالسٌ وأن يدفعاه الذميُّ وهوَ واقفٌ، وعندَ انحنائه يضربُ على قفاه بالنعال، وفي تفاسيرَ أخرى يجرُّ من قدميه، إلى غيرِ ذلكَ من المعاملات المهينة، فابنُ تيمية يقول على سبيل المثال، إنَّ تلك الممارسات ضرورية حتَّى يحسَّ أهلُ الذمة بذلهم، ودفعهم بالتالي إلى أخذ العبرة، كي يتركوا معتقداتهم ويدخلوا في الإسلام. وفي ظلِّ ارتفاع بعض الأصوات المتحدثة عن ضرورة تأجيل الثورة إلى الوقت التي يتحققُ فيه الوعي والتنويرُ لدى الشعوب، ذهب عصيد إلى أنَّ في ذلك تشكيكاً في مصداقية الثورة وجدواها، والحالُ أنَّ الثورة على الطغاة ضرورةٌ ومسؤولية تاريخية في أعناق الأحرار، والحلُّ في مثل تلكَ الحالة، هوَ استمرارُ الثورة إلى حينِ تحقيق أهدافها كاملةً، فإن كانَ الإسلاميون يستغلونَ الثورات لإعادة المجتمعات إلى سابق عهدهَا مع الاستبداد، فإن الذين لم يخرجوا من منطلق إسلامي سيثورونَ على الطغاة الإسلاميين، لإسقاط الأنظمة المستبدة شأنها شأن الأنظمة البوليسية، والسياقُ الراهنُ يفرضُ ذلكَ بعدما ذاقَ الناس الحرية وعرفوها. أمّأ الثورة الإيرانية التي يضربُ بها المثلُ في اتشاح الثورات بلبوس الديكتاتورية بعدَ ردحٍ من الزمن، فقالَ عصيد إنَّ الثورة الإيرانية عام 1979 حصلت في سياق مختلف، لذلكَ تمَّ إحلالُ نظامٍ ديكتاتوري محلَّ نظامٍ آخر ، والديكتاتورية الإيرانية سيأتي دورها بعدَ سقوط النظام السوري، حسبَ عصيد سيما أنها تدعمهُ الآنَ بالمال والعدة في قمع الشعب السوري، فانتفاضة الشعب الإيراني التي انطلقت بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة ستعاودُ الظهورَ من جديد في سياق الثورات الراهن. عصيد أكدَ أيضاً أنَّ لا تخوفَ لديه من السلفيين في السياق المغربي، لأنهم يشكلونَ قلة صغيرة، والسببُ الثاني هوَ أنَّ تدينَ المغاربة لا يتوافقُ والتشدد الوهابي، فباستحضار تجربة السلطان مولاي سليمان إدخال الوهابية إلى المغرب، يظهرُ رفضُ الشعب المغربي لهَا، إذ أنَّ القبائل الأمازيغية حاربته وخرجت منتصرة في رفضها للوهابية ضداً على ما كانَ يحاولُ السلطان سليمان فرضه. دونَ إغفال دور المجتمع المدني والسياسي المغربي في جعلِ الأقلية السلفية تتراجعُ بعض المواقف المتشددة، وتعودُ إلى اعتمادِ إسلام وسطي يتلاءمُ مع المتطلعات الحداثية والديمقراطية للمغاربة. لكنَّ الإسلاميين حسبَ عصيد، يبقونَ ذوي طبيعة واحدة، والفاصلُ بينهم هوَ أن السلفيين يسعونَ إلى تطبيق حرفي وآني لأهدافهم، في الوقتِ الذي يضمرُ من يسمون بالإسلاميين المعتدلين نواياهم ويأجلونها ريثمَا تكون الظروف جاهزة لإعمالها، فالاعتدالُ ليسَ إلا تكتيكاً مرحلياً.