بتأثير من الإعلام الجديد، ومضمون حزم تدفق الفضائيات ذات الاستراتيجيات متجاذبة المصالح، والتي تعتمد على توظيف الصورة التي تتعامل مع كل ما هو عاطفي وانفعالي ودرامي، وتبتعد عن كل ما هو عقلاني وموضوعي. ومع الإيقاع فائق التسارع للأحداث، يتناول بعض المحللين قضية وصول الإسلاميين للسلطة، ومغادرتهم لها عبر الحراك الانفعالي بشكل أقرب إلى الحدث، وليس نتاجا لظاهرة ونسق ومصفوفة فكرية بخلفياتها المعرفية، ومزالقها المنهجية، ومغالطاتها الفقهية والتأويلية، وما تضمنه مسارها الفكري من التباسات، وخطابها من تشنج وارتباك، وخطها البياني من تعرجات ونقاط انعطاف. فالأمر يتطلب التعامل مع ما يجري اليوم في الدول التي اقترب فيها الإسلاميون من عملية صنع القرار، من خلال استيعاب ديناميكية ومسار السيرورة في كلانيتها على المستوى النظري وكذلك على مستوى الواقع. إن تتبع المسار الخطي لظاهرة الإسلام السياسي وما انتهت إليه اليوم من تراجع فعلي وانهيار حتمي، يؤكد أن المنزلق المنهجي الذي وقعت فيه الحركات الإسلامية منذ قيامها وانطلاقها، يتمثل في خضوعها لآليات الصراع الفكري مع الحضارة الغربية، ومن تعتقد أنه من أتباعها في الداخل، حيث أصابها ذلك بنوع من العمى المعرفي، الذي حال دون استفادتها من ثورتين معرفيتين غيرتا العالم منذ ديكارت إلى ما بعد آينشتاين، الأمر الذي ركب أبعادا إيديولوجية صراعية وتصادمية لأي نشاط إسلاموي، وغيب عنه أبعادا رسالية نورانية، ومن ثم انتهى النموذج الإسلاموي إلى نموذج تبسيطي واختزالي وإقصائي، لا يعرف التعدد والاحتمال، فاقد لمهارات الحوار وخصائص المرونة، فاستلزم ذلك تصلبا في التعامل مع معارضة الداخل واسترضاء لقوى الخارج على اعتبار أن الخلفية الغرائزية القائمة على البدائية، تجعل من مصلحة حب البقاء دافعا لاعتماد الحذر الشديد في التعامل مع العدو الأقوى. كل ذلك جعل الحركة الإسلامية عاجزة عن فتح أي فضاء للإبداع، يسمح بالاستفهام العقلاني النقدي المفعم بروح الحداثة، والذي من شأنه أن يبلور أفكارا ناظمة واستكشافية جديدة، تسهل استيعاب التعقيد الشديد الذي يتميز به الواقع، الذي يستعين عليه الكبار بمؤسسات سياسية علمية كبرى للتفكير، تدعم صانع القرار كي يحد من أدنى احتمال للخطأ فيما يصنعه من قرارات. وفي ظل هذه المعطيات يبدو جليا أن المسلّمات التي قام عليها النموذج المعرفي لحركة الإخوان هي التي جعلت الرئيس المصري السابق، وفي ذروة تفاعلات الأزمة يركز على تغيير النائب العام، ويصدر إعلانا دستوريا يكسبه صلاحيات مطلقة ويستعجل الاستفتاء على دستور لم يحصل على توافق واسع على بنوده ومواده. والنموذج ذاته أيضا هو من كان وراء استفزاز المؤسسة القضائية. وكلها قضايا كانت بديهية من حيث مآلاتها للضالعين في ممارسة الفعل السياسي والمفهوم الحديث للدولة، بعيدا عن عقول وقعت منذ عقود ضحية للوصاية، وقد جاء في كتاب إيمانويل كانط نقد العقل الخالص عندما سئل عن الأنوار أنها: الخروج من حالة القصور إلى حالة الرشد، وهي تعكس قدرة المرء على استخدام عقله دون إشراف الغير عليه، ولكن الرئيس السابق خضع لوصاية المرشد، لكون حالة القصور باتت بمثابة مرض مزمن، يفتقد لآليات الانعتاق من أجل النمو. فالعقل الإسلاموي لا يمكن أن يعيش دون إشراف مرشد حركة أو شيخ جماعة مع كل ما يرافق ذلك من طقوس تبجيل وتقديس، تجعل الشيوخ ومرافقيهم أشبه بالكهنة وسدنة المعابد، وهم ينتمون إلى دين بدأت رسالته للإنسانية بكلمة اقرأ، التي تؤذن برفع الوصايات كل الوصايات على العقل، وبما يوفر ويحفظ كل أسباب التفكير الحر والمستقل. فتقديس الأشخاص، سواء كانوا شيوخ دين أو جماعات أو "علماء"، أمر فائق الخطورة، على اعتبار أن هؤلاء أنفسهم قد يعانون من قصور معرفي كبير، بحكم المناهج التقليدية التي تلقوا تعليمهم من خلالها، والتي تحتاج هي الأخرى إلى مراجعة كبرى. ومن ثم يصبح جهلهم مقدّسا لدى البعض، وحتى عند متخذ القرار الذي ينتمي إلى جماعتهم، الأمر الذي يتطلب تسليط الضوء على هذا الجانب من الظاهرة من أجل اتخاذ الخطوات المناسبة، لفك ذلك التقديس المؤدي إلى التقليد والانقياد الأعمى، والحيلولة دون تمكينه من لعب دور محوري في الفتاوى السياسية. إحدى أبعاد الظاهرة التي تحولت إلى أداة خطيرة تستخدم بشكل منحط ودنيء، يصل حد المتاجرة بأرواح باتت تدفع ثمنا لحسابات جيوسياسية واقتصادية محلية وإقليمية ودولية. لذلك لابد من تشخيص علمي للأبعاد المتعددة لظاهرة الإسلام السياسي، ودراسة مسارها من أجل تحصين الشباب الناشئ، ضد أي محاولات للتأثير والاختطاف، حتى لا تتحوّل فئات من المجتمع حشودا احتياطية، وعروض أعداد خاوية وأوعية فارغة جاهزة لأن تملئ بأي شيء وكل شيء. من أجل ذلك كله، الأولى بالباحثين تناول المصفوفة الفكرية للحركات الإسلامية كظاهرة وليس حدث السقوط، من أجل الوقوف على الخلفيات المعرفية لأمراض التقديس ومنطق الإقصاء والعصبية المؤدية للتوظيف السياسي للنصوص، لأن ما ينفع الناس أولى بالبقاء أما الزبد فيذهب جفاء. "الخبر"