قبل أسابيع كنت في مدينة مراكش المغربية، وفي جولة بداخل المدينة العتيقة لفت نظري شيخ مراكشي في حانوته، أمامه أصناف التوابل والعطور والأعشاب، من كل لون وشكل. استأذنته في التقاط صورة له بزيه المراكشي المبهج، ولحيته البيضاء، لم يفهم قصدي، لكنه لحظة رأى العدسة مصوبة إليه تغشى عمامته وستر وجهه، فابتسمت له، ورأيت تصرفا عفويا جميلا، فانصرفت احتراما. ما جرى مع شيخ مراكش أعاد لي التفكر في تاريخ الصورة والتصوير في منطقتنا العربية. الكتب والمراجع تقول لنا إن الإعلان عن تصميم وتنفيذ أول كاميرا صندوقية من الخشب كان في يناير (كانون الثاني) 1839.. وإن أول محاولة ناجحة لالتقاط صورة ضوئية كانت من نصيب الفرنسى (نيبس) بعد محاولات فاشلة كثيرة في يونيو (حزيران) 1827، واستغرقت 8 ساعات لتنفيذها في جنوبفرنسا. والصورة الآن بحوزة «الجمعية الملكية البريطانية للتصوير الفوتوغرافي».. وإن أول صورة التقطت لامرأة في العالم كانت عام 1830، واسم المرأة «أماندا ميشال». أما في منطقتنا العربية فأول صورة التقطت كانت لباشا مصر وعزيزها محمد علي في الإسكندرية في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1839. كانت مدينة القدس هي الأكثر حظوة في تصوير الرحالة، وهذا أمر متوقع، وتم افتتاح أول استوديو تصوير في منطقتنا بهذه المدينة المقدسة 1855، على يد جيمس غراهام. وعلى المنوال نفسه كانت صورة المسجد الحرام في مكة هي أقدم صور الجزيرة العربية 1880. المفاجئ في هذا كله هو أن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (تولى الحكم 1876 وخلع 1909) كان مولعا بالتصوير، وقد خصص له كثيرا من جهده وماله، وتبنى كثيرا من الشباب «العثمانلي» لهذه المهمة، وانتدبهم لمرافقة كبار زوار البلاد العثمانية، مثل الإمبراطور الألماني في زيارته للقدس. عبد الحميد بنفسه كان يلتقط الصور، وكان قد جمع صورا ثمينة جدا، بغرض المباهاة مع الدول المتربصة بالدولة العثمانية في أوروبا، خصوصا فرنسا وإنجلترا، وبعث لهم بألبومات صور فاخرة، عن عظمة الدولة العثمانية، بل حتى بعث للولايات المتحدة الأميركية.. وأيضا كان يصور بغرض استخباراتي. عرفت هذه المجموعة ب«ألبومات يلديز»، وفيها 911 ألبوما، بها نحو 36 ألف صورة (حسب كتاب «ألبومات يلديز للسلطان عبد الحميد الثاني - مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة» للباحث محمد بهادير دورنجي.. ترجمة: نور الدين صواش.. دار «النيل» للطباعة والنشر). وحسبما أخبرني الباحث السعودي في التاريخ راشد العساكر فإن هذه المجموعات تعتبر ثروة، وثورة في تاريخ أبحاث الجزيرة العربية. تخيل، مع ألبومات يلديز، عزيزي القارئ كم صورة لشخصية تقرأ عنها في الكتب ومرويات التاريخ العربي، سيكشف عنها حجاب الخيال، لتراها أمامك بملامحها؟! لكن هي ثروة برسم الانتظار.. الصورة كما قال السلطان عبد الحميد نفسه: «الصورة التي تعبر عن الوقائع والأحداث وتنقلها إلينا، لهي أدق وأوجز من الكلام الذي يطول فيه الشرح». "الشرق الأوسط"