يتردد الحديث عن احتمال الحرب الأهلية في مصر على ألسنة انصار «الاخوان المسلمين» كما لو كانت أمراً ممكناً بل متوقعاً في حالة ما اذا قام الجيش المصري بواجب التصدي للتكتل الاخواني في «رابعة العدوية» و«ميدان النهضة». يتردد هذا الحديث من هذا الجانب على الرغم من ان المحاولات التي قامت بها جموع «الاخوان» في المكانين قد باءت بفشل ذريع، ولم تؤد حتى الى أي زيادة في اعداد المنتمين لتظاهرات «الاخوان». ومن المؤكد ان الوضع الراهن صار مرهوناً بقرار يصدر عن الجيش المصري بأن المعركة النهائية اصبحت واجبة بعد النداءات التي وجهتها القيادة العسكرية المصرية الى مؤيدي «الاخوان» في الميدانين بالانصراف من دون التعرض لأي عقوبة. فهل مصر معرضة بالفعل لحرب أهلية كما يزعم «الاخوان المسلمون» في لهجة تهديد واضحة؟ بل لعل السؤال هو اذا كانت الحرب الاهلية في مصر ممكنة في ظروف مصر الراهنة وبعد ما شهدته من أحداث، خاصة منذ حدث «30 يونيو» الماضي؟ لا بد من العودة الى نموذج للحرب الأهلية كان قد وقع بالفعل في التاريخ الحديث. ولكن لا بد من التأكيد قبل ذلك بأن مصر لم تعرف الحرب الأهلية في اي وقت طوال تاريخها. وذلك على الرغم من ان تاريخ مصر لم يخلُ من أزمات كان بعضها قريباً من أزمتها الراهنة. وكانت القوى الخارجية تحاول ان تبذل اقصى ما بوسعها لتحويل تلك الازمات الى حرب أهلية. حدث ذلك بشكل خاص في فترات اقتراب القوة البريطانية من الهيمنة على مصر في القرن التاسع عشر، وحدث قبل ذلك حينما كانت الحملة الفرنسية على مصر، في القرن الثامن عشر، في ذروة قوتها الى الحد الذي فرض سيطرة فرنسا على مصر، بسبب ضعف قدرات الحكام المماليك على مواجهة الهجوم الفرنسي. مع ذلك لم تفلح القوات الفرنسية في فرض حرب أهلية بين المصريين الذين انقسموا بين مؤيدين للماليك ومعارضين لهم. ولعل نموذج الحرب الأهلية الإسبانية هو اوضح وأهم نماذج الحرب الأهلية الحديثة التي يمكن استطلاع امكانية تكرارها في مصر، بسبب سعي «الاخوان المسلمين» الحثيث الى اثارة هذه الحرب كوسيلة لمواجهة دور الجيش المصري الذي يحمي البلد من هذا الاحتمال ومن اي احتمال آخر، لاخضاع مصر لقوات اجنبية. ولا بد هنا ان نذكر ان الاخوان المسلمين يشكلون قوة أجنبية لا قوة وطنية. إن تنظيم «الاخوان» في مصر تنظيم يتبع قوة التنظيم الدولي لهذه الجماعة. فضلا عن انهم انكروا منذ بداية تأسيس تنظيمهم في العام 1928 ان تكون لهم جذور وطنية مصرية، وأكدوا ان جذورهم تمتد في الخارج حيثما وجد ل«الاخوان تنظيم». ان الوطنية المصرية ليست اصلا في قيام تنظيمهم. انما انكار هذه الوطنية هو اساس قيام التنظيم عقائدياً وفكرياً وسياسياً، وحتى اجتماعياً. فإذا ما عدنا الى مثال الحرب الأهلية الاسبانية (من 17حزيران /يونيو 1936 الى 1 نيسان/ابريل1939، (أسفرت عن سقوط نحو مليون قتيل) فإننا نتبين ان هذه الحرب اسفرت بالدرجة الاولى عن صعود الديكتاتورية الفاشية بقيادة الجنرال فرانكو الى السلطة، على الرغم من مشاركات خارجية كثيرة من اوروبا الى جانب القوى الوطنية الاسبانية وضد التنظيم الفاشي الاسباني. فقد كانت هناك بالمثل تدخلات من قوى خارجية حكومية في صف الفاشية الاسبانية. ولكن يبقى الاختلاف الاساسي بين الحالة الاسبانية السابقة والحالة المصرية الحالية هو ان الجيش الاسباني وقف في صف القوى الفاشية ضد التنظيمات الوطنية التي قاومت صعود الفاشية الى الحكم. وكان وجود الجيش الاسباني الى جانب فرانكو وأنصاره الداخليين والخارجيين سبباً رئيسياً في تغلب القوى الفاشية على القوى الوطنية الديموقراطية. أما في حالة مصر الحالية فإن الجيش يقف بقوة وثبات في صف القوى الوطنية الديموقراطية، مصمماً على عرقلة محاولات التدخل الخارجي في صف قوى «الاخوان» والرامية الى تغليب هذه القوى وتمكينها من السلطة. ومن هنا دعم الجماهير الشعبية لدور الجيش في التصدي للقوى الاخوانية. وينبغي في هذا المجال ان لا يغيب عنا اختلاف اساسي آخر بين مثال الحرب الاهلية في اسبانيا وبين الوضع الراهن في مصر. ونعني بهذا الاختلاف الاحتشاد الجماهيري المصري الذي تجاوز الثلاثين مليوناً من المواطنين في صف الثورة الديموقراطية ضد السلطة الفاشية الاخوانية. الامر الذي مكن الفاشية الاسبانية بتأييد من الجيش ان تفرض هيمنتها وأن تعطي فوزاً حاسماً للجنرال فرانكو الذي حكم اسبانيا بعد ذلك لنحو خمسة وثلاثين عاماً. ومن المهم ان نشير هنا الى ان وجود الجنرال فرانكو في حد ذاته في حالة الحرب الاهلية الاسبانية كان عاملا فعالا في توحيد القوى الفاشية في الجيش الاسباني حتى تمكنت من التغلب على القوى الوطنية الديموقراطية وتمكنت ايضاً من السلطة. أما في حالة مصر فإن الجيش قد برهن من بداية الاحداث على وقوفه في صف القوى الوطنية الديموقراطية أي تأييده لقوى ثورة «25 يناير» كما برهنت قياداته على انها لا تطمع في الحكم ولا تسعى لفرض هيمنة عسكرية على السلطة. إن الجيش المصري برهن خلال الفترة الاخيرة من الاحداث على انه يتخذ موقفاً وطنياً ديموقراطياً لا مجال فيه لخلق هوة بين العسكريين والمدنيين لمصلحة سياسية وتنظيمية ضيقة. ويبدو هذا الموقف من الجيش المصري موقفاً فريداً من نوعه بالمقارنة مع مواقف الجيوش، سواء في حالة الجيش الاسباني في الحرب الاهلية الاسبانية او مواقف الجيوش الاخرى في حالات الحرب الاهلية على مدى التاريخ الحديث وعلى امتداد المناطق الجغرافية التي شهدت مثل هذا النوع من الصراعات. ويحسب للجيش المصري هذا التفرد بموقف وطني ديموقراطي. وهو أمر ليس بغريب في ضوء تاريخ هذا الجيش وانحيازه للقوى الوطنية الديموقراطية. ولعل هذا هو السبب وراء العودة الجارفة لصور جمال عبدالناصر وسيرته الثورية السياسية. بل لعله السبب وراء الشعور الشعبي العام في مصر هذه الايام بأن الفريق اول عبد الفتاح السيسي الذي يقود القوات المسلحة المصرية في هذا الاتجاه انما يسير على خطى عبد الناصر وطنياً وسياسياً، مع ما يستوجبه اختلاف الظروف بين خمسينيات وستينيات القرن العشرين والظروف التي تفرض نفسها الآن في العقد الثاني من الألفية الثالثة. لقد راهنت زعامات «الاخوان المسلمين» على إثارة الحرب الأهلية في وجه الجماهير المصرية وفي وجه الجيش المصري. وتبرهن التطورات الحادثة حتى الآن على ان هذا رهان خاسر. بل تبرهن الشواهد على ان التطورات المقبلة بعد اللحظة الراهنة هي رهانات تتأكد خسارتها وخسارة الطرف الاخواني، سواء الطرف الاخواني داخل مصر او الاطراف الاخوانية الخارجية التي حاول بعضها بالفعل ممارسة دور لمصلحة الاخوان السجناء وأنصارهم الذين يتظاهرون خارج السجون. لقد بدا الرهان على الحرب الاهلية في مصر من بداياته الاولى رهاناً خاسراً. وهو امر يتأكد يوماً بعد يوم. من ناحية بسبب الموقف الذي يتخذه الجيش مع القوى الوطنية الديموقراطية، ومن ناحية اخرى بسبب ضخامة الوجود الجماهيري للقوى الوطنية الديموقراطية كما بدت في كل ظهور ثوري لها في ميادين المدن المصرية، ابتداءً من الحشود المليونية الفائقة. ولقد بلغ الفشل الاخواني في الاسابيع الاخيرة حداً يوضح مدى تردي القوة الجماهيرية ل«الاخوان» في محاولاتها لتحدي تظاهرات عشرات ملايين المصريين في الميادين العامة في انحاء المدن المصرية. ولهذا يمكن التأكيد بأن الخفوت الذي اصاب محاولات «الاخوان» في الاسابيع الاخيرة سيستمر وسيزداد. وربما لا يعرف اي مصدر متى يقرر الجيش المصري ان يتدخل لإنهاء المحاولات الاخوانية والقضاء عليها. ولكن الظروف الراهنة في مدن مصر تؤكد ان لا فرصة ولا مجال لاستمرار طويل الأجل للمحاولات الاخوانية لتحدي الجماهير وتحدي الجيش معاً. لهذا السبب ولهذا السبب وحده يبدو ان الاخوان المسلمين داخل مصر يجدون انفسهم مضطرين للجوء الى القوى الخارجية التي تشجعهم، حتى وإن كانت لا ترى بديلا عن الاعتراف بالسلطة الديموقراطية الحاكمة في مصر الآن. إن التأييد الذي يلقاه «الاخوان» من الدول الاوروبية ومن الولاياتالمتحدة يؤكد ان هذه الدول تريد ان يستمر الوجود الاخواني ويستمر النزف الذي يسببه في الجسم المصري. فهذا وحده ما يضمن استمرار حالة من عدم الاستقرار في مصر تخدم اغراض القوى الخارجية في مصر وفي المنطقة. عمر التجربة الاخوانية في مصر اصبح مرهوناً بتآزر الجماهير المصرية والجيش المصري في الظروف الراهنة. وهذا عامل موثوق به. "السفير" اللبنانية