لم يتعود حزب الاستقلال المغربي، سواء وهو في الحكم أو في صفوف المعارضة،على التشهير بأعضائه وأبنائه وإشهار خلافاته الداخلية، وخاصة مع القياديين، مهما كبرت أخطاؤهم السياسية أو الجنائية، بدليل أن الزعيم النقابي السابق، عبد الرزاق أفيلال، المورط في مخالفات مالية ثقيلة، أثناء رئاسته لأحدى بلديات الدارالبيضاء لم يقع التشطيب، بصفة رسمية، على اسمه من لوائح حزب علال الفاسي، حتى الآن، أو جرى التنصل منه والنصح بعدم الاقتراب منه، بدليل أن خصمه ألأكبر، حميد شباط، قام أخيرا بزيارته في بيته. وهذا التقليد راسخ في حزب الاستقلال، إذ يقال إن الروابط العائلية والولاءات الشخصية فيه، أقوى من الاعتبارات التنظيمية، ما جعل بعض المحللين السياسيين يشبهون الحزب ب "الزاوية" أو العائلة الكبيرة ؛ تحل فيها الخلافات والمشاحنات بالحسنى، في سبيل المحافظة على وحدة الحزب وقوته. ومنذ انشقاق حزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، عن التنظيم "الأم" والذي تزعمه قادة تاريخيون من طراز المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد، والفقيه محمد البصري، مسنودين بالجناح النقابي "الاتحاد المغربي للشغل" في شخص أمينه العام الراحل المحجوب بن الصديق. منذ تلك الفترة الموصوفة ب "الانفصال" حيث طرد جهارا قياديون كبار من الحزب، بعدما استحال التوفيق بين الجناح اليساري والمعتدل في أكبر هيأة سياسية غداة استقلال المغرب؛ لم يعرف حزب الاستقلال، خضة كبرى شبيهة بانفصال "الاتحاديين"عنهم، علما أن "الطرد" طال الذين انشقوا وغادروا بإرادتهم ليؤسسوا تنظيما بديلا . تجدر الإشارة إلى أن قياديين في الحزب في مستوى أعضاء اللجنة التنفيذية، لم يمتثلوا خلال العقود الماضية لأوامر الحزب، فقبلوا المشاركة في حكومات وحزبهم في المعارضة. آثر الراحل عز الدين العراقي، البقاء في الحكومة، عقب إقالة زملائه، وتم ترفيعه من وزير التربية، إلى رتبة "نائب الوزير الأول" في حكومة محمد كريم العمراني، ليفسح له المجال لاحقا للوصول إلى كرسي الوزارة الأولى، التي ظل فيها ردحا من الزمن، ربما كان الأسوأ، من وجهة نظر المعارضة، في تاريخ الحياة السياسية بالمغرب الحديث. ولم يسمع المغاربة أن حزب، الاستقلال، ندد بمسلك عضو اللجنة التنفيذية والطبيب الخاص للزعيم الراحل علال الفاسي، أو لامه لبقائه في الحكومة وخدمة النظام والوطن. صحيح أن الحزب، بمعية حزبي الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، قدموا ملتمس رقابة ضد حكومة العراقي. وقبل "العراقي" قبل المرحوم محمد الفاسي، أحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال، منصب وزارة الثقافة والتعليم الأصيل، نهاية الستينيات وحزب الاستقلال في المعارضة. لم تكن الرجل صفة تنظيمية في الحزب آنذاك، ولكنه روحيا وثقافيا جزء من التنظيم الوطني الكبير الذي نبعت خلاياه السرية الأولى في فاس التي ينحدر منها "الفاسي" ثم الرباط وبعدهما باقي المدن المغربية. ولعل المثال الساطع هو تعيين الملك الراحل الحسن الثاني، سفيره الأول في نواكشوط، بعد الاعتراف بموريتانيا. لم يجد الملك الحسن الثاني، شخصية ذات مصداقية وماضي وطني مجيد، غير المرحوم، قاسم الزهيري، عضو اللجنة التنفيذية للحزب الذي اعتبر دائما موريتانيا جزءا من التراب المغربي الممتد حتى ضفاف نهر السينغال. تقبل "حزب الاستقلال" الصفعة، على مضض وزعيمه علال الفاسي على قيد الحياة ، لكنه لم يشن هجوما على "الزهيري" ولا اتهمه بالخروج على مبادئ الحزب، وربما اقتنع، "التحول" الكبير في العلاقة بين "نواكشوط" والرباط، يستوجب سياسيا محنكا من عينة "الزهيري". نعم، أحس الاستقلاليون، ببعض الضيق والحرج من حالات عدم الانضباط المذكورة، ولكنهم عالجوا المسألة بالحكمة وعدم التهويل ونعت الشخص "المتمرد" بالنعوت الجارحة. وارتباطا بما سبق، يبدو الإجراء العقابي الصارم المتخذ أخيرا في حق، محمد الوفا، وزير التربية الوطنية،غير مستساغ من الناحية السياسية والاخلاقية ؛ فبدل اللجوء إلى لجنة التأديب والتحكيم واستعمال الآلية القضائية لإجبار "الوفا" المتمرد على الحضور والجلوس في قفص الاتهام أمام اللجنة؛ فهذا أسلوب، إن بررته تقاليد المحاسبة الحزبية، فهو غريب بل دخيل على تقاليد حزب الاستقلال. الأكثر من هذا أنه يشير إلى تباعد كبير عن السلطة المعنوية لمجلس الرئاسة الذي تم اللجوء إليه في الماضي، لحل إشكالات تنظيمية دون الاحتكام للمساطر التنظيمية. مجلس الرئاسة، أصبح في خبر كان، بعد تولي "شباط" قيادة الحزب، خاصة بعد وفاة أبوبكر القادري، والتقدم في السن بالنسبة لعبد الكريم غلاب وامحمد بوستة، الأمين العام الأسبق، أما القيادي التاريخي أمحمد الدويري، فيوصف بأنه الحاضن السياسي للأمين العام الجديد، حميد شباط، الذي تخرج من "جامعة الشعب" وليس من "السوربون" أو رحاب القرويين، في حين آثر الأمين العام السابق عباس الفاسي، الفرار بجلده من "النزاع". لحد الآن، يكتفي "الوفا" المطرود من حضن العائلة الاستقلالية، بالتعليقات الساخرة التي يشتهر بها الظرفاء من أهل مراكش، ما يفرض سؤالا: لماذا لم يذهب للجنة التأديب، لينتقم من خصومه ويقوم بمرافعته أمام الحزبيين والرأي العام ؟ "الوفا" المشاكس، الحاد اللسان، هل يهيئ ردا أو هجوما مضادا ما، قد يكون مثيرا، يفجره في وجه الذين اساءوا إليه حزبيا، وأرادوا إزاحته من كرسي وزارة مهمة ظل يحلم بها خلال مشواره الحزبي الطويل، أم ستتم ترضيته وتعويضه عن أضرار الطرد ؟. في جميع الأحوال، هو ليس المعترض الوحيد على الأسلوب الجديد المتبع في تدبير شؤون حزب الاستقلال العتيد. يبدو أنه أرجأ "تحركه" إلى ما بعد تشكيل الحكومة الجديدة ؛ فإن احتفظ فيها بموقعه، كوزير، وهذا أمر مستبعد، فإن تعاطيه مع أزمته سيختلف عما إذا، انقلب المشهد الحزبي المغربي برمته، رأسا على عقب، وعصف بالحكومة الحالية وأغلبيتها، بل قد ترتد العاصفة نحو حزب الاستقلال نفسه. على الفاعلين الحزبيين، أن يتمعنوا في مضامين خطاب العرش الأخير، الواضح منها والمرموز. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.