النيران تلتهم ليبيا، رائحة الموت تنتشر في أجوائها، الدمار يلف مدنها الساحلية الجميلة، بالطبع ليس هذا ما كان يرنو إليه الثوار، غير أن هجومات معمر القذافي وحسابات ترتيب التركة الليبية لدى «مستعمري» أوروبا والولاياتالمتحدة، والشلل العربي والإسلامي، دفعت جميعها نحو هذا الوضع المأسوي الذي تعيشه ليبيا. المراوحة بين الكر والفر عند الثوار، والذي بلغ حداً مخيفاً من التراجع الآن أمام قوات القذافي المؤللة والمدعومة بغطاء جوي وآخر بحري في بلاد تنتظم جل مدنها على السواحل الشاسعة للدولة التي تمتلك أكبر إطلالة على البحر المتوسط، تدفع الأمور باتجاه التدخل الغربي وتحفز القوى المتربصة بهذا البلد الغني على استغلال الوضع المتردي للسكان، والقدرة المحدودة للثوار على حسم المعركة لمصلحتهم، لفرض حزمة من الشروط على المجلس الانتقالي الليبي تعيده إلى دائرة الاحتلال التي لم تكن بعيدة في مضمونها عن الحال إبان حكم العقيد نفسه. الغرب ليس حذراً لكنه يعاود تكرار مشهد أوروبا من الرجل المريض، حين ترك الثمرة تنضج، وهي هنا تعني مدى تلبية المجلس الانتقالي للشروط التي يتوجب عليه الالتزام بها في حال تدخل الحلف الأطلسي (أو تحالف ما تقوده الولاياتالمتحدة الأميركية) لتحريك دفة المعركة لمصلحة الثوار بشكل أو آخر. التريث أو التردد الأوروبي الأميركي، وتباين المواقف النسبية بين الدول الأوروبية له مبرراته لاختلاف مصالح الدول الأوروبية والغرب في ليبيا، وهو الأمر ذاته الذي يلقي بظلاله على الموقف العربي المتراوح بين تأييد إطاحة نظام، والتخوف من شرعنة التدخل تأييداً للثورات التي هي ليست بمنأى عن أحد. ولأوروبا أسبابها الجوهرية في صبغ مواقفها من القذافي بألوان مصالحها المتنوعة، فإيطاليا التي تحتفظ باستثمارات ضخمة في ليبيا تقدر بنحو 30 بليون دولار معظمها يعود إلى شركة إيني النفطية التي تساهم في تزويد إيطاليا بربع احتياجاتها النفطية و10 في المئة من الغاز المصدر عبر أنبوب غاز يمر بجزيرة صقلية، إضافة إلى عقود تشييد الطريق الساحلي الليبي الممتد، لا يمكنها بسهولة أن تغامر بالتدخل العسكري إلا حالما تضمن ميزة تفضيلية كبرى كأكبر شريك تجاري وبلد الاحتلال الأساسي السابق لليبيا والذي ساهم في القفز بالقذافي إلى سدة الحكم في ليبيا لتنفيذ سياسة مشابهة لتلك التي كان يتبعها غريسياني القائد الإيطالي الذي أعدم المجاهد عمر المختار.. تلك الميزة قد لا توفرها واشنطن لروما في حال رسمت ريشة التغيير العسكرية خطوطها الجديدة، أو أفضى التدخل أو عدمه إلى تقسيم ليبيا إلى دولتين أو أكثر. وألمانيا التي عارضت التدخل العسكري حتى الآن، وتذرع وزير خارجيتها غيدو فيستر فيله ب «أهمية تجنب إعطاء انطباع بأن الأمر يدور حول حملة صليبية ضد مسلمين»، والتي يفوق حجم وارداتها من النفط الليبي نظيره من السعودي، كما يفوقه كفاءة للاستخدام الألماني، تدرك أن «أمنها النفطي مضمون»، وفقاً لوزير الاقتصاد الألماني راينر برودرله، ولا تخشى في هذه المعمعة كلها إلا ارتفاع أسعار النفط، وزيادة النفوذ الأميركي في الشمال الإفريقي على حساب أوروبا، وبالتالي لا تجد نفسها مدعوة لتأييد تدخل عسكري في ليبيا تعلم جيداً أنها لن تكون عرابته نظراً للحسابات العسكرية الدولية، ولن تحصد شيئاً من حصوله، بخلاف الفرنسيين الأكثر حماسة لاقتطاع جزء من الكعكة الليبية قبل أن يلتهمها الأميركيون والبريطانيون بشكل كامل، ثم إن فرنسا التي تعاني من أزمات في إمداد النفط بعد فقدانها كثيراً من مناطق النفوذ في وسط إفريقيا تتطلع إلى الاقتراب مجدداً من تشاد ودارفور (حيث اليورانيوم والنفط الواعد). وروسيا التي تقاوم التدخل الأميركي والأوروبي الغربي في ليبيا لا يخطئها أن الصديق الليبي سيفضل عليها «صناع ثورته القادمة»، وسيدير ظهره لموسكو وشركاتها العاملة في ليبيا، وهذا ما دفعه إلى تحريك إحدى حليفاته العربيات لتزويد القذافي بالأسلحة، فضلاً عن احتمال التدخل العسكري المباشر أو الدعم التسليحي لطرابلس والذي ترددت أنباء عن حصوله بالفعل بواسطة بوارج حربية روسية تقترب هي الأخرى من الشواطئ الليبية. أما عربياً، وعلى ذكر تلك الدولة، وهي سورية التي أرسل نظامها بعض طياريها للقتال إلى جانب القذافي، والتي لا تخفي انزعاجها من «ربيع الثورات العربية»، وتنزع إلى انتحاء المسلك الليبي تجاه شعبها الثائر. سورية إذاً كاليمن والجزائر والسودان تدفع جميعها باتجاه كبح جماح الثورات، وقطع الطريق أمام «سابقة» التدخل العسكري، وهو الموقف الذي لا تشاطرها إياه الدول التي نجحت فيها الثورة جزئياً مثل مصر وتونس، لكنهما مع ذلك، وإن أبديا «تفهماً» لمسألة الحظر الجوي على ليبيا إلا أنهما حذرتان جداً من رد فعل القذافي غير المحسوب، خصوصاً الأولى التي لا تريد أن تقامر بحياة مئات الآلاف من المصريين العاملين في ليبيا، باعتبار أن السياسة المصرية الخارجية بعد الثورة ستختلف جذرياً عما كانت قبلها لجهة عدم الارتهان للإرادة الأميركية، وهي ما ستظل محل نظر كبير للمتابعين تطورات الأوضاع في مصر ما بعد الثورة. (وتونس بالمثل أيضاً). وبالجملة، فإن المواقف العربية المختلفة لا تخرج كثيراً عن المألوف، وهي في مجموعها لا تتعلق بالجانب الاقتصادي، بخلاف الأوروبية التي ارتكز الفرز فيها على أسس براغماتية اقتصادية في معظمها، والتي أدت إلى هذا التنوع والاختلاف العميق بين الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة . هذا التردد في اتخاذ القرار لدى البعض، والتمهل ريثما يلتصق الموقف الثوري الليبي بالغربي ويمنح الغازي أقصى درجات الخضوع (أو هكذا تبغي تلك الدول)، لا سيما أن رصداً بأهم ثروات القذافي المجمدة ببلايين الدولارات (30 في الولاياتالمتحدة، و32 في بريطانيا، و10 في ألمانيا) يبرهن على أن العقيد «الثائر» لم يكن إلا وكيلاً عن الدول الغربية في ليبيا، ومن غير اليسير توفير «زعيم مناضل» آخر ليحل محله في مهمته «الثورية»! على أن اختلاف المصالح الاقتصادية ليس الدافع الأوحد لهذا الموقف المتأرجح أو المتباطئ في مساندة الثوار؛ فالخلفية الدينية التي بدأت ترتسم في المشهد الثوري أو التي باتت عموداً أصيلاً من أعمدة الثورة، والخشية من إنضاج ثورات مستقلة وإن لم تكن إسلامية بالضرورة يمكنها أن تراجع وتدقق في العقود النفطية الخرقاء التي كان يوقعها العقيد من خيمته، والتي جعلت معظم استثمارات ليبيا في حوزة الغرب سواء ما يتعلق بعائدات النفط أم شركات التنقيب والتكرير وغيرها بما لا يحلم به الغرب في ظل نظام يتمتع بالشفافية، وهو ما يعبر عنه غير ديبلوماسي وسياسي وخبير في الشؤون الاستراتيجية، ومنهم جيمس هاكيت من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية الذي قال: «المشكلة هنا أنك يجب أن تسأل نفسك ستسلح من؟ لأنك من المحتمل أن تتعامل مع مجموعة مختلفة من القبائل والمجتمعات التي لديها أجندات مختلفة تماماً قد تبرز بمجرد رحيل القذافي»، كما ورد في «صنداي تايمز» البريطانية: «إن ليبيا تعاني من نزاعات قبلية، ولا ضمان هناك بأن الحكومة الجديدة ستكون في النهاية أفضل من نظام القذافي». الدولة الليبية المستقلة يخشاها الغرب لا سيما بعد أن بدأت بوادر غير مشجعة لدى الجارة المصرية التي لا يتوافر لدى العواصمالغربية الاطمئنان الكافي على مستقبلها، وهذا ما يعزز فرص التدخل العسكري الغربي الذي بدت ملامحه الآن على رغم كل الاحتياطات؛ فحيث تتحرك الأساطيل تسبقها إشارات ديبلوماسية وتكهنات صحافية من دوائر قريبة من صناع القرار في الغرب، ويرفع العرب مظلتهم «الشرعية والقانونية» لتبرير التدخل العسكري الذي قد لا يقتصر غالباً على فرض الحظر الجوي (تحت ذريعة عدم كفايته العسكرية لإخضاع العقيد)؛ فإن تجاهل الغرب للفرصة المواتية لتدخله في ليبيا هو أمر مستبعد بطبيعة الحال.