مرة أخرى يتجدد الشعور بأن قضية الصحراء المغربية تمر بمنعطف حاسم مرة أخرى.. التعقيدات المرتبطة بهذا الملف تنتج في كل مرحلة تاريخية متغيرات جديدة تعيد تذكيرنا بجذور المشكلة وبالأطراف الفاعلة في هذا النزاع. القضية من مخلفات المرحلة الاستعمارية وهي امتداد بشكل أو بآخر للحرب الباردة في زمن القطبية الثنائية، ويبدو بأن تأثير الأطراف الدولية في النزاع لازال مستمرا وفق ما يخدم مصالحها الإستراتيجية بالدرجة الأولى، ففرنسا الدولة المستعمرة للمغرب والجزائر وموريتانيا تحتفظ بدورها التقليدي في المنطقة، وهي ترتبط بمصالح سياسية واقتصادية وثقافية قوية مع المغرب، لكنها في نفس الوقت لا ترغب في التفريط في علاقاتها التقليدية مع الجزائر، أما إسبانيا المستعمر السابق لمنطقة الصحراء فإن سياستها في المنطقة هي حصيلة تضارب مواقف أطراف النظام السياسي: فالحزب الاشتراكي يدعم خيار الحكم الذاتي أما الحزب الشعبي فموقفه يعتبر امتدادا لأطروحة اليمين الذي لازال يرى في الجار المغربي أول تهديد لأمنه القومي وهو نفس موقف المؤسسة العسكرية.. المتغير الأساسي هذه السنة هو إقدام الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تعتبر المغرب حليفا استراتيجيا لها على تبني مسودة قرار يرمي إلى توسيع مهام المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في المنطقة، تعتزم عرضها على أنظار مجلس الأمن يوم الاثنين القادم. ما قد يبدو للوهلة الأولى تحولا في الموقف الأمريكي ما هو في الحقيقة سوى ‘نتيجة طبيعية' لمجموعة من المعطيات التي تراكمت لتؤدي إلى التحول الأخير.. فقد سبق للتقرير الأخير للأمين العام للأمم المتحدة المقدم إلى مجلس الأمن أن تضمن توصية تحت رقم 116 أكد فيه ‘أنه بالنظر إلى التقارير المتواصلة حول انتهاكات حقوق الإنسان فإن الحاجة إلى رصد مستقل وحيادي وشامل ومستمر لحالة حقوق الإنسان في كل من الصحراء الغربية والمخيمات تصبح أكثر إلحاحا'.. كما أن الحملات المتواصلة لمجموعة من المنظمات الحقوقية الدولية وخاصة الأمريكية منها، ومن أبرزها معهد روبرت كينيدي لحقوق الإنسان، المتعاطفة مع الأطروحة الانفصالية نجحت في إسماع صوتها لدى الإدارة الأمريكية التي تعيش على إيقاع تحول هام في سياستها الخارجية. إن تحمل جون كيري لملف الديبلوماسية الأمريكية لا يعني تغيير شخص بآخر، ولكن سياسة بأخرى، ومعلوم أن جون كيري معروف بدعمه لمعهد روبرت كينيدي وهو من أبرز الفاعلين داخل الحزب الديمقراطي الذين سبق لهم أن طالبوا الخارجية الأمريكية بتطبيق تقرير المصير لوضع حد لنزاع الصحراء.. ربما تكون عملية قلب الطاولة التي قام بها المغرب ضد الأسلوب المتحيز للمبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة والذي لم يكن سوى الأمريكي كريستوفر روس قد ساهمت في تحول الموقف الأمريكي... كل هذه المعطيات لا ينبغي أن تحجب عنا لغة المصالح الاستراتيجية التي تؤطر السياسة الخارجية الأمريكية، فمن المعلوم أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ظلت تحتفظ بدور محوري في هذه القضية نظرا لمكانتها الدولية ووظيفة الوصاية التي باتت تفرضها على أي منطقة في العالم لها فيها مصالح استراتيجية معتبرة، الإدارة الأمريكية ظلت تحتفظ بعلاقات تاريخية متميزة مع المغرب من الناحية السياسية، لكنها في نفس الوقت تحتفظ بعلاقات اقتصادية قوية مع الجزائر19.5 ‘ من وارداتها من الغاز الطبيعي و 7.8′ من وارداتها البيترولية من الجزائر، ناهيك عن الصفقات الضخمة لبيع الأسلحة من أجل تعزيز القدرات العسكرية للجزائر..هذه الأخيرة جعلت من دعم الأطروحة الانفصالية نقطة ارتكاز في سياستها الخارجية، انسجاما مع عقيدة إضعاف الجار والسعي للهيمنة الإقليمية..عقيدة ترى بأنه ليس في صالحها أن يبسط المغرب سيادته الكاملة على الصحراء، ويحقق شروط الاستقرار والقوة التي تجعل منه فاعلا إقليميا في المنطقة. أما المتغير الحاسم على مستوى الجبهة الداخلية خلال السنوات الأخيرة فهو بروز دعوات انفصالية علنية في المدن الصحراوية، انتقلت مؤخرا إلى تدشين أسلوب الاستفزاز وافتعال التوتر في المنطقة قصد استدراج المغرب إلى ردود فعل عنيفة، تقوم باستغلالها لإثارة الرأي العام الدولي وجلب انتباه المنظمات الحقوقية الدولية المتعاطفة بشكل تلقائي مع خطاب المظلومية ومع مبدأ الحق في تقرير المصير... في الواقع،الدعوات الانفصالية لا تتوفر على مرتكزات سياسية وواقعية مقنعة، ولكنها تتأسس على أخطاء المغرب الجسيمة في تدبير هذا الملف منذ توقيعه على اتفاقية مدريد التي اشتملت على بند سري يقضي بأن إقليم طرفاية لا يمكن إرجاعه إلى المغرب إلا بشرط تصفية جيش التحرير المغربي بالمنطقة، وبالفعل تمت محاصرة جيش التحرير من طرف الإسبان عن طريق البحر وفرنسا عن طريق البر في عملية ‘إيكوفيون'، وهي الواقعة التي أثرت في مجموعة من الطلبة الصحراويين الذين كانوا يدرسون بالجامعات المغربية في بداية السبعينيات وأسست لديهم لأطروحة البحث عن طريق جديد لتحرير الصحراء بشكل مستقل عن الحركة الوطنية التي لم تبد أي حماس لدعمهم، متأثرين ببروز مجموعة من حركات التحرر الوطني المناهضة للإمبريالية الأمريكية ولحلفائها في العالم، قبل أن يتحولوا إلى حركة انفصالية بعدما احتضنتهم السلطات الليبية في البداية ثم المخابرات الجزائرية بعد ذلك. النزعات الانفصالية الموجودة في قلب المدن المغربية في الجنوب، معظمها تعبير عن ردود فعل نفسية من طرف عائلات سبق أن تعرض بعض أفرادها لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.. أو خيارا ابتزازيا تجاه المغرب طمعا في الريع الاقتصادي الذي نهجه المغرب اتجاه العائدين... اليوم بإمكان المغرب أن يتجاوز هذه الأخطاء عبر اعتماد سياسة جديدة تقوم أولا، على احترام حقوق الإنسان والسماح بحرية التعبير والتظاهر في نطاق القانون، وفي هذا السياق لا نميل إلى الأطروحات القائلة باسترجاع هيبة الدولة في الصحراء عبر نهج سياسة قمعية، فذلك من الأخطاء التي لن تسهم إلا في تعقيد المشكل. ثانيا، تشجيع الحوار مع ذوي النزعات الانفصالية عبر إشراك مثقفين وجامعيين وفاعلين مدنيين وعلماء شريعة لهم المؤهلات التي تجعلهم قادرين على الإقناع بلغة جديدة تتجاوز لغة الخشب المعتمدة في الإعلام الرسمي، والتي أثبتت فشلها إلى حدود الساعة، وترد على خطاب الانفصال بالحجة السياسية والاستراتيجية الواقعية التي تؤكد بأنه لا مكان في العالم إلا للتكتلات الاقتصادية القوية وتفند أطروحة بناء دولة ‘ميكروسكوبية' في المنطقة وتحلل أبعاد الصراع وخلفياته الإقليمية والدولية، وتقف بشجاعة على أخطاء المغرب في تدبير هذا الملف. ثالثا، المضي في الإصلاحات السياسية والديمقراطية والمضي في تعميق النقاش حول ورش الجهوية، والذي يقدم الإجابة المطلوبة حول جدية المقترح المغربي القاضي بمنح الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا سيمكن سكان الصحراء بمختلف انتماءاتهم السياسية والقبلية بما في ذلك الصحراويين المتواجدين بتندوف من تدبير شؤونهم التشريعية والتنفيذية بكل حرية في إطار السيادة المغربية. رابعا، القطع مع ثقافة الريع وتدشين أسلوب جديد في التعاطي مع الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية قائم على تشجيع منطق العمل والاستثمار في التعليم والموارد البشرية. خامسا، إحداث ثورة في الدبلوماسية المغربية وإصلاح وزارة الخارجية المدعوة اليوم إلى العمل وفق قواعد مهنية واحترافية تستند على الخبرة والكفاءة والمهارات التواصلية، واستدراك أخطاء الماضي في أفق بناء مغرب ديمقراطي موحد يتسع لكافة أبنائه ويغري الجميع بالانتماء إليه من الشمال إلى الجنوب...