إن الواقع السياسي والاجتماعي اليوم يحمل من الجديد ما يجعلنا نتمعن فيه بتركيز، حت نتمكن من ملامسته و فهمه بشكل صحيح، ونستنتج من خلاله النتائج الصحيحة التي تمكن من تقديم الإجابات الممكنة والتي تتماشى مع هذا الواقع المعقد . فإذا اقتصرنا على الانتقادات الجاهزة والمزايدات السياسية الفاقدة للنظرة المستقبلية، لا يمكننا فهمه ولا معالجته. لهذا ارتأينا أن نعالج هذا الموضوع الأحزاب المغربية والممارسة السياسية بعيدا عن المزايدات السياسية، والنظرة المحدودة الضيقة، التي تدور في حلقة مفرغة، وتخفي عجزها في تحميل المسؤولية لجهة دون الأخرى، إما لأنها لا تملك إجابات على هذا الواقع، وإما للحفاظ على الوضع كما هو لحماية بعض الامتيازات التي تتمتع بها قيادات هذه الأحزاب . كما أن معالجة هذا الموضوع تتطلب العودة لعقود إلى الوراء، لتوضيح الأدوار التي لعبتها الأحزاب المغربية وبالتحديد الاحزاب المعارضة في الحياة السياسية. والحصار والتضييق والقمع الذي تعرضت له طيلة سنوات الجمر والرصاص. وتأثير ذلك على مستوى أدائها وبنياتها التنظيمية. لكن واقع القمع والتضييق هذا لم يكن وحده سببا كافيا في الضعف والوهن اللذان أصاب أحزابنا، بل هناك عوامل أخرى ذاتية وهي أكثر خطورة، ساهمت فيها النخبة السياسية ، أفقدت الفعل السياسي داخل هذه الأحزاب مصداقيته، ومن هذه المشاكل : ( سيادة النزعة الزعامتية،اعتماد اسلوب الإقصاء والتهميش في حق المناضلين، والكفاءات، اعتماد أسلوب الولاءات، وخدمة المقربين.... التهافت على المناصب بطرق غير مشروعة، فساد ممثليها في المؤسسات..... ) إن هذا التداخل بين ما هو موضوعي وذاتي في أزمة أحزابنا هو الذي أدى إلى ضرب مصداقيتها وفقدان الثقة فيها من لدن المواطنين. وغالبا ما كانت هذه الأحزاب تسكت عن أزمتها الذاتية، محاولة التهرب من مسؤولياتها اتجاه الدولة والمجتمع، وحتى إذا استحضرتها في نقاشاتها فتستحضرها لإرضاء خواطر المنتمين لها فقط، وليس بهدف الإجابة عن مكامن الداء والخلل للنهوض بأوضاعها الداخلية، وتقويم ممارستها السياسية. على العموم فقد لعبت الأحزاب المغربية وخاصة منها المعارضة أدوارا مهمة وبارزة في الحياة السياسية المغربية بعد الاستقلال، بهدف الوصول إلى تحقيق الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية ببلادنا، وهناك محطات تاريخية شاهدة على نضالها المستميت من أجل القضاء على الحكم الفردي المطلق، والنضال من أجل إقرار دستور يستجيب لمطالب القوى الديمقراطية والدفاع منداخل المؤسسات عن الحرية وحماية حقوق الانسان، والدفاع كذلك عن حقوق المرأة ، ومحاربة الفساد...... ولا يخفى على أي أحد حجم التضحيات الكبيرة التي قدمتها في سبيل ذلك. وهي تخوض صراعها المرير ضد المخزن، الذي استفرد بالحكم وعمل على إقصاء كل الفاعلين السياسيين المعارضين وأفسح المجال لأحزاب موالية لسياساته، همها الوحيد هو الاستفادة من ثروات الوطن بأشكال غير مشروعة ضاربة مصالح المجتمع والدولة عرض الحائط. ولم يكتفي المخزن والموالين له بهذا، بل تعمد إسكات كل الأصوات الحرة التي تنادي بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، ومحاربة الفساد... وفي هذا الاطار شن المخزن حملات قمعية خطيرة في صفوف كل المعارضين السياسين طيلة عقود من الزمن، ( اغتيالات، اعتقالات نفي..)
- إن هذه السياسة الإقصائية التي اعتمدها المخزن خلال سنوات الجمر والرصاص، ضد الأحزاب الوطنية والديمقراطية ساهمت إلى حد كبير في إفساد الحياة السياسية ببلادنا، خاصة أمام التزوير الذي كانت تعرفه الاستحقاقات الانتخابية، والذي كان يصب دائما في اتجاه صعود نخب فاسدة، وعناصرموالية للمخزن، مقابل إقصاء كل صوت وطني أو ديمقراطي حر
ويمكن القول هنا أن هذه السياسة كان لها نتائج وخيمة على الأداء السياسي للأحزاب الوطنية التي بدورها تسللت إليها بعض النخب الفاسدة، التي لا يهمها إلا حماية مصالحها، وتمكنت من الوصول إلى الأجهزة القيادية لهذه الأحزاب، والوصول إلى مؤسسات الدولة.
لكن كل هذه العوامل لم تكن كافية لإضعاف القوى الوطنية والديمقراطية ، التي استمرت في معاركها النضالية، بل كانت تزيدها قوة وإصرارا للمضي قدما في اتجاه تحقيق مطالبها الديمقراطية، مما اضطر معه المخزن في أواخر الثمانينات إلى تسخير قوى الاسلام السياسي، لكسر شوكة القوى الوطنية والديمقراطية، هذه الأخيرة التي شنت حملات إرهابية خطيرة على الجامعة المغربية، هذا الحقل الحساس الذي تخرجت منه أغلب الكفاءات والأطر السياسية المعارضة، والمنتمية للتوجه الديمقراطي والتقدمي، والذي كان يغني ويزود الأحزاب والقوى الديمقراطية بالأطر والكفاءات العالية والمقتدرة.الشيء الذي سهل على المخزن بسط سيطرته على الجامعة التي لم تعد بعدها قادرة على إنتاج هذه الكفاءات والأطر، وأصبحت هي الأخرى غارقة في الفساد شأنها شأن أي مؤسسة أخرى في الدولةّ. وللإشارة فإن الأحزاب الوطنية والديمقراطية لم تتحمل مسؤوليتها في حماية الجامعة من الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها من طرف قوى الإسلام السياسي ، بمباركة من المخزن، وتهربت من القيام بواجبها معتقدة أن الأمر لا يعنيها ولا يمسها في شيء. وبعد الجامعة المغربية، انتقلت قوى الإسلام السياسي للساحة السياسية، من أجل إتمام مهمتها المتمثلة في إضعاف الأحزاب الوطنية والديمقراطية، بمباركة من المخزن كذلك الذي كان يبحث عن خلق توازنات سياسية تمكنه من تقوية قدراته التفاوضية مع أحزاب الكتلة. وهكذا شنت هجمات إعلامية وسياسية معتمدة على خطابها الديني التكفيري. ونسف المعارك النضالية التي تخوضها الأحزاب والقوى الديمقراطية. وينضاف إلى كل هذه العوامل الموضوعية، عوامل أخرى ذاتية ساهمت إلى حد كبير في إضعاف الأحزاب، وأعاقت فعلها النضالي، وضربت مصداقيتها وثقة مناضليها في العمق، وزاغت بها عن الأهداف الحقيقية للمشروع الديمقراطي، رغم محاولات التصحيح التي كان ينادي بها المناضلون من داخل هذه الأحزاب، والتي كانت دائما تبوء بالفشل، الشيء الذي تولد عنه غضب عارم لمناضليها، أدى إل العديد من الانشقاقات،و الانسحابات.... وأضعف عملية التكتل والوحدة التي كان ينادي بها العديد من المناضلين لتقوية الجبهة الوطنية والديمقراطية. لمواجهة مخطط المخزن الذي كان يهدف إلى إفساد الحياة السياسية، وشل حركية الأحزاب الوطنية والديمقراطية. خاصة إذا علمنا أن هذه الأحزاب تسللت إليها نخب فاسدة وعناصر لا علاقة لها بالعمل السياسي، كما قلنا سابقا، سهلت على المخزن تنفيذ مخططه.
ومن بين هذه العوامل التي نخرت الاحزاب والقوى الديمقراطية وأضعفت ممارستها السياسية والنضالية : الزيغ والانحراف عن أهداف المشروع الديمقراطي، مما ولد ضبابية وعدم وضوع الرؤية لهذه الأحزاب وهذا الأمر هو الذي يفسر تشابه ( برامجها ) في المحطات الانتخابية، هذه البرامج العامة والفضفاضة التي لا تتمتع بأية مصداقية لدى المواطنين، فوجودها كعدمها. فالكل أصبح يعرف أن هذه البرامج هي حبر على ورق لا أقل ولا أكثر. غياب الديمقراطية الداخلية وسيادة النزعة الزعامتية، والإقصاء والتهميش الذي طال ويطال المناضلين والأطر الحزبية، وعدم التعامل مع المختلفين بروح ديمقراطية، واعتماد أسلوب التعيينات والولاءات للوصول إلى الأجهزة القيادية، دون مراعاة للكفاءات و مبدأ تكافئ الفرص. واحترام الأراء المختلفة، وتمكينها من التعبيرعن آرائها بكل حرية. التهافت على المناصب الوزارية والمناصب السامية، والتسابق على التزكيات للمشاركة في الانتخابات، والأسبقية لمن يدفع أكثر، لقد أصبحت الاستحقاقات سوقا لشراء الذمم والأصوات..... الاعتماد على أصحاب المال لتمثيلها في المؤسسات المنتخبة للدولة، وأغلب هؤلاء لا علاقة لهم بالعمل الحزبي والسياسي كما قلنا سابقا، و يدخلون هذا الحقل فقط لحماية مصالحهم الشخصية. دون مراعاة لمصالح الدولة والمجتمع. إنهم يتحصنون بمؤسسات الدولة لزيادة ثرواتهم ونشر وتوسيع فسادهم. كل هذه العوامل وأخرى، ساهمت إلى حد كبير في ضعف الأداء السياسي لهذه الأحزاب، وولدت سخطا وغضبا داخلها، وأفقدتها المصداقية والثقة التي كانت تكسبها من طرف المواطنين. إن الضربات السياسية القوية والهجمات القمعية الكبيرة للمخزن ضد الأحزاب المعارضة وضد التوجه الديمقراطي في بلادنا، إضافة للحملات الإرهابية التي شنتها قوى الإسلام السياسي، والخطاب الذي روجته هذه الأخيرة ضدها بدعم من المخزن، إضافة إلى الاختلالات السياسية والتنظيمية التي تعرفها ، كل هذه العوامل أفقدتها قوتها السياسية والجماهيري مما انعكس سلبا على أدائها السياسي والتنظيمي. إن طبيعة الممارسة السياسية والتنظيمية لأحزابنا اليوم، أصبحت في حد ذاتها معوقا من معوقات الانتقال الديمقراطي. لا نقول هذا الكلام بهدف تبخيس العمل السياسي الحزبي، ولكن نقوله من زاوية تصحيح أعطابها التي تراكمت طيلة عقود، وأدت إلى الضعف والوهن الذي أصاب ممارستها السياسية والتنظيمية بهدف تصحيحها حتى تكون قادرة على أن تلعب دورها كاملا في تحقيق المشروع الديمقراطي المنشود، والإجابة على الاكراهات والاشكالات التي تعاني منها بلادنا.