بقلم عبد العزيز قنجاع روايتي عبد الحميد البجوقي عيون المنفى ورواية عبسليمو النصراني تستحق بأن توصفا بانهما شكل من الانتاج الثقافي الاشتمالي، التدميجي، الشبه موسوعي لأنهما اكتنهتا سيلا غزيرا من القضايا التي تناقشاه من خلال توسلهما إشكال الهوية مدخلا تندرج ضمنه احداث الروايتين. تقوم إشكالية الهوية في أعمال عبد الحميد البجوقي على رؤية فلسفية قوامها الصراع الذي يتبدى قويا بين الرغبة في امتلاك الفضاء والتحكم به، ورد الفعل المقاوم. هذه المتقابلة تؤطر كل النسق السردي عند البجوقي. فهناك فضاء ينبغي أن يعاش ويتمتع به قبل حتى أن يتمكن من تقبل حدوده أو نظامه، وسردية انتباذية تعيد التذكير بالفواصل والحدود والموانع الهوياتية والثقافية. ورغم الطابع الاحتدامي للاشكال الهوياتي فعبد الحميد البجوقي لا يؤسس لإشكاله الخاص حول الهوية بطريقة اصطدامية تناحرية بل يتملكه روائيا اذ يضعه منذ البداية ضمن مسار حكائي هادئ. قبل ان ننطلق في الحديث عن الهوية في الاعمال السردية للروائي عبد الحميد البجوقي، اود ان اطرح سؤالا غريبا دائما ينتابني وانا اقرا لعبد الحميد وهو: هل الأعمال الروائية لعبد الحميد البجوقي اعمال مكتوبة وموجهة للقارئ المغربي ؟، قد يبدو السؤال مفاجئا لكن الجواب عليه يبقى ضبابيا، فعبد الحميد البجوقي يعري روائيا المؤسسات المعرفية الناظمة للمتخيل الاسباني في رواية عيون المنفى، لكن رواية عبد السليمو النصراني تبدو في الاخير اصرارا زائدا من الكاتب في تثبيت المنطلقات والرؤى التي صاغها عن هذا المتخيل الاسباني حيث يعيد تاكيدها من وجهة نظر اخرى وهي وجهة نظر الغجر، وذلك حتى يكون بعيدا عن ضغط اكراهات الذات الحاضرة بقوة في رواية عيون المنفى ويعطي لمصوغاته مضمونا اكثر صدقية. وبالتالي فالروايتين من حيث المضمون المعرفي ومن حيث لم يقصد ذلك الكاتب تدفعان في اتجاه تعرية المخيال الاسباني في مرحلة يحتاج فيها هذا الاخير الى مراجعة الأهواء والتحيزات والافتراضات المشكلة للصور النمطية والبديهيات الطبيعة والنزوعات والتكوينات العقائدية القارة التي تؤطره في نظرته للمختلف ” مورو او غجر” وإعادة توضيب علاقاته المشتتة مع ذاته وتاريخه وماضيه فأولا : يقوم به الكاتب عن قصد هو إعادة تبيئة أسماء مؤسسة لهذا المخيال الاسباني كايصابيلا الكاثوليكية ، فرناندو ، والقديس الاب سنتياغو .اسماء فارقة في تاسيس مخيال استبعادي إقصائي للأخر لكن ضمن مسار استخطاطي روائي جديد معاند مغاير للمعنى والحضور الأصلي لما هو حاصل في الذاكرة الاسبانية، و كانه بذلك يدعو الاسبان بالحاح الى استعادة تاريخهم والتصالح معه بالتفكير من خارج المعاني القسرية المفروضة عليهم، المعممة لا شعوريا لوعي شقي مفارق للعصر و الوقت . ثانيا: يصر الكاتب في كلتا الروايتين على جعل اقطاب الحكاية او ابطالها شخصيات نابعة من قلب المفارقة سعيد و ايصابيل او اب ايصابيل وام ايصابيل، ثم هناك في رواية عبسليمو النصراني نانوكا و عبسليمو والاب سنتياغو وكانه يستعمل اسلوب المراة العاكس لحقائق الحاضر الاسباني حيث تبدو اسبانيا في أعمال عبد الحميد مجموع مروكب على خرائب حضور هوياتي متمعج ذو حساسية تامة لحقيقة التجربة التاريخية. ثالثا : ينجح عبد الحميد في تعويم اشكاله الخاص المرتبط بالهوية ضمن تراتبية اجتماعية وفئوية شاملة من منظور المثقف الى منظور رجل الدين الى منظور الانسان العادي الى المنظور الرسمي وكأنه يبسط أمامنا كل وجهات نظر المجتمع الاسباني في موضوع اسبانيا الراهن فاطلاع مقتضب و مختصر ومبتسر عن مواقف الشخصيات الاساسية في روايتي البجوقي نجد اب ايصابيلا وهو يمثل الحالة الانقى من الوعي الاسباني الراهن اذ يرى الاختلاف عائق امام الحياة المشتركة بالعائلة الواحدة وبالوطن الواحد يقول “أن اختلاف ثقافتنا وديننا وتربيتنا سيجعل حياتنا المشتركة جحيما” ام ايصابيلا وهي تمثل مشكلة جيل اسباني باكمله ولد بالمستعمرات الاسبانية ويحاول ترميم ذاكرته من خلال ايجاد مصوغات للحنين وتاسيس رؤية للاخر على هامش الاستعراض الرسمي والخطاب السائد حيث تمتلك منطقا خاصا قي تعريف الوطن تقول ام ايصابيلا ” لا تعرفون معنى الوطن وتعتقدون أنه يسري في الشرايين وفي الدم ويرتبط الإسم باللغة وبالوراثة… الوطن نسيم وعبير وروائح عطور ونباتات ونعناع، الوطن…. أبدي مستمر وَلارادّ لحبه ولا ينتهي في الحدود الجغرافية” تمتلك هذه النظرة الحالمة تعاطفا معلنا مع الاخر الا انها في واقع الامر هي رؤية متاثرة بغرائبية الشرق تسطره ثقافة و ان كانت تبدو متعاطفة مع الاخر الا انها تحشره في منطق رومانسي غرائبي منظور اليه بعجائبية مبالغة “بالوما” في رواية عيون المنفى تستفسر عن ختان الموروس وتعتقد أن “الختان يزيدهم فحولة” نظرة بالوما تحيل إلى مرجعية أخرى صارمة ممؤسسة تكتسب طبيعة السلطة الفكرية والإنشائية كما يصوغها بقوة وفعالية خاصتين، فهم الحاضر للماضي الاسباني وأنهاج تأويله له. في رواية عبسليمو النصراني ستتمطط شخصية بالوما لتلتقي مع شخصية نانوكا الغجرية المتشعبة بنفس السرد الرسمي الاسباني المتوافق بشانه المحاك في نسيج التعليم والتربية حيث تعلمت نانوكا كيف تحتفي بتراثها بطريقة خاصة وبغيضة على حساب تراث الاخرين، حيث نجدها تعلن مواقف وان كانت غير عدائية ضد عبسليمو الا انها تحاول ان تقبض عليه ضمن رزنامة المتخيل الرسمي قبل ان تتعرف اليه عن قرب وتاخد مسافة مع هذا الفهم.، مما اكسبها وعي حدي فبين “حكاية الرهبان عن الموروس وعن عداوة الموروس للمسيح و المسيحيين ” وبين الحكايات الشفاهية وبين كليشيهات مستعادة كل حين تتذكر نانوكا ” صور ومشاهد الموروس الكفار الغلاظ التي اعتادت على سماعها في الكنيسة وفي السنوات القليلة التي قضتها بالمدرسة ” هذه الكليشيهات هي عمليات اشد خشونة واشد ادواتية هدفها تعبئة الموافقة و الاقرار واجتثات الانشقاق وتسريع خضوع الفرد للمعايير المهيمنة في لحظتها و تشجيع حمية دينية تكاد تكون عمياء استطاع عبد الحميد ان يتحدث عنها بدكاء على لسان شخصيات. تطرح نانوكا في رواية عبسليمو النصراني مشكلة تمثلات الهوية لدى الغجر ومتطلبات المواطنة الحديثة. ونستمر طبعا في طرح السؤال ونحن نقارب اشكال الهوية في كتابات عبد الحميد البجوقي ، هل كل هذا الجهد موجه للقارئ المغربي، لنعد الى ملاحظاتنا ونسجل ان مشكل الهوية لدى الغجر مطروح على مستوى ثقافي ، الغجر لا ينازعون على ارض او على لغة ، كما هو الحال لدى هويات اخرى في العالم استنتاج تؤكده ملاحظات عدة اولا:تتمرد الهوية الثقافية على لسان نانوكا في طبيعتها الساذجة على مفهوم الملكية الخاصة اذ تعتبر امتلاك شيء يخص الجميع خروجا عن الطبيعة، فحينما اخبرت لولا ام نانوكا ابنتها عن وجود عبد السلام المهاجر السري في الحي كان رد فعل نانوكا سؤال اخر يعيد صياغة لعبة تعريف الهوية من جديد ” ما معنى سري مهاجر؟ ” يبدو سؤال نانوكا لامها غريبا لكنه الحقيقة التي تصدمنا بها نانوكا و يصدمنا بها عبد الحميد البجوقي، فسذاجة السؤال تعيد الانسان الى الاصل ، الاسئلة الاصلية اسئلة طبيعية تنسى في غمار الثقافة والتوافقات المعرفية الكبرى، لكنها حين تطرح من جديد تسفه كل المنجز الانساني. الجد تيبو يطرح الاختلاف ضمن الانتماء العقدي الوحيد بالقول:ان الموروس “ربما لا يحبون المسيحيين البيض ” بايوس” كحالنا نحن الغجر لا نحب المسيحيين البيض، واغلبهم لا يحبوننا رغم اننا مسيحيون مثلهم . الام لولا تصرح لنا بالقاعدة المؤسسة لمعنى الغجري فتقول ان عبسليمو غجري و تقترح تسميته ب” عبسليمو الخيطانو لانه مثلنا وطنه الترحال وعقيدته الحرية” على عكس كل العقائد تبدو العقيدة المبنية على مبدا الحرية لدى الخيطانو او الغجري مدخلا لقبول الاخر والتعايش معه . ابن خالة نانوكا رايموندو صاحب الرؤية العالمة المتاثرة بالامتدادات الانسانوية في الفكر اليساري العالمي لا يختلف رايموندو في رواية عبسليمو النصراني عن سعيد في رواية عيون المنفى فهما يلتقيان في افق فكري مشترك المنتمي لثقافة إنسانية كونية والذي زاده تعلقه بإيصابيلا إلى حد أنه وبعدما استعرضت مبررات الاختلاف الثقافي والديني الذي تقدمت به كمحفزات للإفتراق عن سعيد، قال إنه “منذ تعرف إليها لم يعد يعرف نفسه لا من أين هو، و لا بأية لغة يحلم ” لا يمدنا سعيد المنفي بايوالية دهنية لرؤية خاصة ،انها رؤية عمومية متبلورة في سياقات عالمية ضمن امتداد فكري و سياسي استلهم التاويلات الانسانوية للفكر اليساري ، لها مشروعيتها طبعا، لكنها لا تمكننا من فهم اسباب فشلها في إيجاد أرضية صلبة دائمة للتلاقي والتلاقح، بينما نجد دعامات معرفية أخرى حاضرة وجاثمة على رؤوس الأحياء تمتاح من الماضي الثقافي الشعبي الذي أصبح جزءا من المتخيل الاسباني عن المورو والغجر و المختلف وضمنه صور عن الذات الاسبانية وعن ماضيها، لدا لا يتوانا الجد تيبو في ابداء ازدراء واضح لافكار رايموندو الحديثة والانسانية وهو الخبير بمضمر الواقع كما هو فعلا لا كما يجب ان يكون في تلوينات الكلام المثقف العالم، وهنا تكمن عبقرية عبد الحميد البجوقي حيث استطاع من خلال شخصية الجد تيبو ان ينسف بشكل ساخر كل الاحلام العالمة للمثقف في مشكل الهوية، المشكل ان هذا المنحى هو المكون الاساسي لوعي الكاتب نفسه، استعمله بقوة في روايته الاولى عيون المنفى بل ارتقى به الى مستويات شعرية ” استعمال شعر محمود درويش لتثبيت وجهة نظره ” لكن في رواية عبسليمو النصراني كان عبد الحميد روائيا كبيرا فقد غاب هو في الرواية غيابا تاما مما اعطانا رواية حيادية تعطي حق الكلام للجواني الاصلاني للحديث عن نفسه، دون حضور طاغي خارجي يثقفه ويحشره ويتم النطق عوضه وتتم السيطرة عليه وتمثيله وتركيبه واستعادته مسحا وصفيا، وهذا الاصرار من عبد الحميد البجوقي، اثرى الرواية بمادة غنائية واحالات للموسيقى والجسد وتطويقا وصفيا للامكنة والروائح وفق بنية سردية مفتوحة و مختلطة وغير قابلة للتصنيف الاجناسي السهل، ودفع بنا مباشرة الى عالم الغجر بكل ما يستبطنه ويعلنه، ورمى بنا في لجته بكل الاحتمالات الممكنة بثراء في الشخصيات و تنوعها و تفاوت مستوياتها الثقافية والعمرية والفئوية. هل نحن معنيون بكل هذا ، ادن لنعد صياغة السؤال ونتساءل. لم يكتب لنا عبد الحميد رواية لا نجد انفسنا معنيون بموضوعاتها ؟ لم يكتب البجوقي رواية هي في الاصل موجهة للاسبان وهو المناضل الذي بقي المغرب رهانه الابدي؟ ان الجواب يبقى في يد اريناس الشخصية الامازيغية و الناشطة المغربية في ميدان حقوق الامازيغ التي حين تسمع احداث عبسليمو اب صديقها يوسف خوصي تقول ” ان الاصل في الهوية هو الانسان ، وان الانتماء لا يرتبط بالارض وان الوطن لا تسيجه الحدود ولا اللغات، ولا الديانات ” لذا تقرر رفقة حبيبها خوصي او يوسف ان تواصل معه ” صناعة معنى جديد للوطن “. لدا فرواية “حكايات المنفى : عبسليمو النصراني رواية مواربة ان صح التعبير فهي ليست فقط ابعد عن أن تكون مجرد أدب، بل هي الى درجة ما متعالقة ومنشبكة في إشكال عام و جزء عضوي من استرجاع ثقافي لمقاربة موضوع الهوية كمشكل يتهدد الذات المغربية الجماعية، ان عبد الحميد اعتمد فكرة المقارنة بالمثال وهو يوسع من مجال تجربة الهوية لدى شعوب مجاورة ليستبنئ وعيا حديا لدى القارئ المغربي بمشاكل الهوية في حضورها المتعدد والمتباين، وبسطا نقيضا للهويات العزلوية المتشبثة بسرديات مختلقة ومتفاوتة التعارض، فكان موفقا في اختياره للغجر ولاغاني الكاماروون الموفقة.