قد يصعب الحديث عن الكتابة والتشكيل، نظرا لاتساع رقعة تناول هذا الموضوع، خاصة بالنسبة للباحثين والمهتمين الذين انطلقوا من تصورات ومناهج متعددة ومختلفة، فمنهم من اعتمد في تحليله على الجانب الفلسفي أو التاريخي أو الأدبي أو السيميائي أو الجمالي أو النفسي…، ومنهم من جمع بين منهجين حسب ما أملته عليه طبيعة العمل، فكانت كل هذه الكتابات إيجابية نسبيا حسب مرجعية كل قارئ، بما أنها كانت تصب في عمق التجارب الموجودة في الساحة التشكيلية حسب أهميتها، محاولة تفكيك رموزها و دلالاتها، مما أعطى لهذه التجارب نفس الاستمرارية من زوايا متعددة شغلت جميع الشرائح المثقفة بكل اهتماماتها، غير أن الصفة القريبة من تحليل العمل تبقى هي صفة الناقد المتمرس الذي يدخل في اعتبارات بحثه كل المناهج مع اختيار مركز للطريقة التي سوف يوظفها في تعامله مع طبيعة العمل وما يفرضه كمنهج ناجع قريب من تفكيكه ومناقشته موضوعيا انطلاقا من المطبخ الداخلي، أي من تجربته كفنان أولا، كما برهنت عليه تجارب التشكيليين في الكتابة. فندرة المراجع التشكيلية كمرجعية كتابية (Référence Livresque) حالت دون انتشار الكتابة التشكيلية، لذلك نعتبر كل كتابة، سواء كانت انطباعية أو تقريرية في الموضوع، مؤسسة على مستوى التراكم الحاصل في هذا المجال، ومجهودا يستحق العناية والتأمل، فالكتابة التشكيلية مرتبطة عضويا بالمرجعية البصرية والمشهدية في علاقتها بتاريخ الفن، ليس على سبيل التصنيف، بل من أجل المقارنة، خاصة بالنسبة للفن التشكيلي المغربي الذي أصبح يعكس هوية خاصة وغنية، تتعدد فيها إمكانيات لها علاقة بتنوع الأمكنة بدلالاتها ورموزها جغرافيا وثقافيا ولغويا، والدليل على ذلك هو هذه الاستمرارية بما لها وما عليها لهذه الطاقات الشابة التي يجب تشجيعها، لإحداث تراكم كمي في انتظار إنتاج نوعي متميز، وفي انتظار كتابات متميزة هي الأخرى تساير أهمية العمل وترقى به إلى مستوى كوني. وانطلاقا من المعرض الفني الأخير الذي نظمته جمعية الفكر التشكيلي بالرباط، بمشاركة الفنانين الكتاب، كبادرة أولى من هذا النوع، حاولنا في هذا الملف أن نستجمع بعضا من النصوص التي تصب في أهمية علاقة الكتابة بالتشكيل، وما ترتب عن هذه العلاقة من أسئلة جوهرية، وضعت ما هو بصري تحت مجهر التحليل والمتابعة، في محاولة لاستقراء الخطاب النقدي الذي جاور الإبداع التشكيلي المغربي. مقام الرسم والكتابة للرسم مقام، وللكتابة مقام. كل مقام منهما مليء بهواجس متراصة في دواخلنا حسب ترتيب/ تكوين أفقي وعمودي، يعمل الإبداع على تحريكها تورطا مع الجسد والتباسا مع المشاعر، بحيث تنادي الأشياء والكائنات والأزمنة والأمكنة على رموزها ومعانيها لا أن تذكر بها. هذه الرموز والمعاني تعكس صور عوالمها، لا لأنها تسعى وراء تحويلها إلى منطق خطاب ما، بل لتجسيد مفاهيمها، في أسلوب يدعو بدوره لأدواته ومواده وكلماته، علما بأن الأسلوب يقوم على كيفية الرؤية للأشياء لا على تقنية معالجتها. فالرؤية قد تحتاج أحيانا إلى عدة تقنيات كي تتشكل وتبرز. من ثمة، يظل الرسم رسما والكتابة كتابة، حتى في أعلى مستوى لقائهما. الرسم والكتابة كوكبان في سماء واحدة، يدور الواحد على الآخر في دورة كاملة. وكل منهما يدور حول نفسه حسب إيقاع ذاتي. الحدود القائمة بين الرسم والكتابة، بالنسبة لي على الأقل، هي حدود تقوي علاقة الجنسين وتغني خصوصيتهما. العلاقة نفسها تخلق عالما متكاملا ومنسجما رغم تعدده واختلافه. وعليه فحين أسافر في كوكب الرسم أو كوكب الكتابة لا أبرح عالم وجودها القائم على الوحدة. مفهوم الوحدة يمثل مركز لولب الإبداع في تجربتي التشكيلية كما في الكتابة، عليه ينبني العمل الصباغي والغرافيكي، واستنادا على فكره يتحرر النص المكتوب. مفهوم الوحدة هذا يتخذ أبعاده الفنية والفلسفية والمادية انطلاقا من قاعدة عقائدية توحيدية، على نسقها تناقش قضايا الوجود والغيوب والبرزخ، دون السقوط فيما هو متفق عليه ومطمئن له ومتداول في الأعراف والتقاليد، تلك التقاليد التي تتخذ من الخرافة طاقة ومن التبعية أمنا. على هذا النحو تتخلص الأشكال والألوان والتراكيب من اضطراباتها وغواياتها توقا للتحرر من شروط واهية، تجعل من المشاهد أصلا ومن الصورة واقعا ومن المادة حقيقة. إن تحول الأفكار والمشاعر والأحاسيس إلى رسم أو كتابة لا يعني بالضرورة تحول إلى معنى أو موقف، فعملية التحول تلك قد لا تبرح أن تكون بحثا في الأنقاض على شيء ما، ولو على وجه التنبؤ أو التكهن أو التوقع ليستقر فعل الرسم، ومعه الكتابة، في سرد الهامش ونظم العتمة. ولعمري هذا حال الكثير من المنجز المعاصر، ذلك المنجز المتمرد على الأخلاق والضمير والجمال، أي على كل ما يمد للإنسان من إنسانيته. عكس هذا السياق تنشأ تكوينات لوحاتي ونصوص كتاباتي، لا لأنني أسعى خارج السائد وما هو متوقع، تحت أي طائل ودون مبرر، وإنما اتباعا لخيال يحيطه شعور يشدني إلى ذلك الرجع البعيد، حيث الأشكال تتخذ مادتها الأصلية من الوجود، والكتابة تعرب عن نيتها: ماذا يتبقى لنا من إنسانية بعد فقدان صفة الإنسانية؟ إن الانجراف الذي يتعرض إليه عالم الفن، اليوم، هو نتيجة تحطيم لقواعده وأسسه، وانزياح عن مساراته الطبيعية التي تقوم عليها الأفكار وتسلكها الأحاسيس والمشاعر، قبل أن تتحول إلى مفاهيم ونظريات تضمن للمجتمع البشري صيرورة طبيعية متناسقة ومنسجمة، تناسب التكوين البشري الفطري.إن الدخول في إنتاج بصري أو لفظي جاهز يجعلنا في وضعية أفرزها منطق تفكير واحد منفصل عن الذات والهوية، يرتكز على مجانية الواقع وتفريغ التاريخ وتشييء الإنسان. حتى في توسله منحى المعارضة أو الإعلان عن قطيعة، فهو موجود في خضم سوق تصنع فيه الثقافات الجاهزة والسياسات ذات القياس الواحد، والمثال الواحد، والنموذج الواحد، حيث يتوحد الوهم الموروث مع بياض تأسيس لجديد فارغ من كل تراث حي مستمر في الزمن، ماضيه ومستقبله في حاضره. نسافر بتراثنا إلى أفق بعيد/قريب، ننشئ في سفرنا هذا قصائد المحبة ونثر البرزخ، وأيضا كل ما ينفلت عن الإدراك وما لا تحتمله الأصابع في الرسم أو الحفر أو الكتابة. لا أدري لماذا يشدني اللفظ لشاعريته، والفكرة لفلسفتها. ألأنه في الشعر والفلسفة تواضع الرسم من تعاليه البصري، أم لأن فيهما يتخلى الشكل عن مادته والمادة عن شكلها لصالح معنى محتمل، معنى مهيأ لتشريع وتصنيف، معنى يدعو إلى نقيض أو معارض، إلى يسار أو شمال، معنى يدعو إلى بدعة محمودة أو إلى ضالة في النار. بلوغ المعنى ليس خط نهاية، خط يستريح المبدع باجتيازه. فإعادة الكرة وحدها تمنح المعنى وجودا، حتى في تلك الأراضي الوعرة المحمية بأسلحة القمع وثروات الجهل والكبرياء. كثيرة هي المعاني المستعصية البلوغ والمخنوقة في المهد قبل اللحد، والمقذوفة في جمر الربيع المحروق.. لكن هي كثيرة أيضا تلك التي ما زالت في الصدر محفوظة إلى يوم معلوم، يوم تلتقي فيه النية بالعمل. السعي وراء معنى للإبداع يقتضي مرجعيات ذات معنى، لأن الفراغ يدعو إلى الهدم، مهما تقوى البناء وشمخ. في هذا السياق، تأكد فشل ترويض مفاهيم وأشكال الآخر على حال سبيلنا، ليخلص شعور ملح بواجب الارتباط بالذات والهوية، حتى في أقصى أنانيتها، هوية أكدت قدرتها على احتواء أفكار وأشكال وتصورات أمم وحضارات مختلفة حتى تلك التي تعلن عن موضعها المناقض لنا حد التطرف. اليوم بات من الضروري أن نحدث وقفة انطلاق، انطلاق في اتجاه واضح وشامل، تتوحد فيه المعاني. فاليوم لنا من الوسائل والوعي ما يمكننا من إعادة معنى هذا العالم. فالتطورات التي تنتظر البشرية لن تسير في اتجاه أفقي فقط، أو عمودي لا غير، بل في اتجاههما معا، حيث نقطة تقاطعهما. فإذا استطعنا إدراك النقطة، وهي نقطة متحركة باستمرار، آنذاك يمكن القول فعلا بأننا أدركنا وعينا بالحياة، وتجاوزنا ضيق نظرة الإنسان – الفرد المحدود بحدود قبيلته. نظرة أراد أصحابها أن تكون نظرة علمية بامتياز، في حين يؤكد العلم نفسه على كونها نظرة أسطورية لنظرية التطور والتحول والتكيف. إن الكون نفسه في اتساعه مستمر، والمادة أيضا في تأرجح مع المادة المضادة، هي سنة الخلق والخليقة، في حين يظل الحلول والمسخ والفسخ دروبا من الأسطورة ومسالك من الخرافة. أسطورة مشكلة بدورها على المنطق والبرهان، إلا أنها لا تمت للعقيدة بصلة، رغم أنها محفوفة بالغيوب. يقر المنطق بوجود الغيوب، يبين ويشرح هذا دون أن يقبض على مواده أو صوره. على هذا النحو تبدو عوالم الغيوب من أمر النفوس قبل العقول والإيمان قبل البرهان. النفس أيضا قادرة على فهم العالم، وهي بتلك تدرك مرحلة علوية في العلم والإشراق، اشتياقا للحق باسمرار. في خوض غمار الكتابة قد تتخلص النفس من حيرة أسئلتها. وأحيانا يتعب العقل جراء النبش في قاموس رسم الكلمات وكتابة الألوان، ويضيف البصر بتراكم الألفاظ والأشكال والمواد، ويرتخي الجسد بعد عناء تشكيل العناصر وتطويعها على الأسندة. لكن البصيرة وحدها تحظى بنشوة الكشف، والفوز بغنائم البرزخ. في هذا المقام يحظى القلم بما تجيد به النفس ويغيب عن العقل، فيسطر ذلك كلمات وأشكالا وصورا، أو أزمنة تحترق في طي أمكنة تحتملها أصابع تنحت أسئلة وجودها ويقين غيوبها. احتفاء بالكتابة والتشكيل في ظل هذه المرحلة التاريخية الحاسمة التي أصبح الإنسان فيها مجرد «سلعة» منذورة للاستهلاك العابر، وتحول فيها كل شيء إلى نوع من «الفن» لإلغاء الفن كما صرح بذلك الشاعر والمفكر أدونيس، لا يسعني إلا أن أحتفي بفرادة الكتابة والتشكيل باعتبارهما الفضاء الأمثل الذي يعلمنا مقولة ريجيس دوبري: «من لا حدود له لا مستقبل له» ضد كل أشكال العولمة المادية. من يتخلى لحظة عن الحلم بعالم اعتباري معناه أنه يتخلى عن كيانه الرمزي، وهويته الإنسانية. منذ دراساتي الجامعية ترسخت لدي قناعة مبدئية مؤداها أن الإبداع هو جوهر الكتابة والتشكيل عموما وجوهر الثقافة المجتمعية خصوصا. فالكتابة معادل رمزي للتشكيل الذي لازمني منذ عنفوان الطفولة، ومثل بالنسبة لي الثقافة الحية التي يوجهها المستقبل بكل صيروراته المحتملة والواقعية في آن. أليس الإبداع في رحاب الكتابة والتشكيل هو الذي يخلق ما يمكن الاصطلاح عليه ب»الأخلاقية الجمالية» التي تؤسس الأرضية العامة للإبداع والتجديد؟. إنها الطاقة الحية التي تجعل الكاتب والفنان التشكيلي معا في صفوة الكائنات الاستثنائية التي آمنت بلذة العمل الجاد، ومتعة إتقانه إعدادا وتقديما. بالإبداع يتجاوز كل واحد منهما مستوى الأشياء ومحدودية الآليات والأدوات، فهما يكسبان رهان العمل الفني وذاتيتهما. لقد علمتني الكتابة المحايثة للتشكيل الفني بأن الإنسان يبدع ذاته فيما يبدع هو عمله الجمالي. إنه يمارس الحياة التي لا تعرف الشيخوخة والانتكاسة. الفن كامن في الكتابة والتشكيل معا. ولقد مكناني من أعيش حياتي الفردية والجماعية في آن بشكل أعمق وأبهى. إن الزمن الذي استغرقته في الكتابة له امتداداته النوعية في التشكيل الفني، حيث الجسد هو سيد الحضرة البصرية بكل مقاماتها الصوفية وشطحاتها الروحية. أليس الإبداع هو جوهر الشخصية، ورمز كيانها، ورحم مستقبلها وطاقتها الدافعة؟ أليس الإبداع أيضا، هو الصوت الذي يصدح عاليا، ويؤثر في البنية الحميمية للإنسان، حيث يقود جوقة أعماقه، ويمسك بمقومات ذاته وهواجسه؟ لعمري إن الكاتب والفنان التشكيلي يحققان ذلك عبر اللهب الجامح الذي يسكن أعماقهما، أقصد لهب الإبداع، لهب الحرية ولهب المستقبل. أعترف أن محراب الكتابة هو الذي قادني إلى محراب التشكيل، متأثرا بكبار الفنانين المبدعين الذين وهبوا للإنسانية جمعاء مؤلفات مرجعية رصينة أمثال ليونار دوفانشي وكاندانسكي وبول كلي ودالي وشيتا وغيرهم من صناع مجد الحركة التشكيلية العالمية، الذين مارسوا التشكيل والكتابة معا: الشاعر الإنجليزي الرؤيوي والثائر وليم بليك، والشاعر الإنجليزي دانتي غابريال روزيتي رائد جماعة «السابقين على رافايل»، الشاعر العربي جورا ياكشيس، الأديب الفرنسي فيكتور هيغو، الكاتب المجدد وندهام لويس، الكاتب الفرنسي جون كوكتو، الشاعر والكاتب لوركا، الأديب والشاعر الموسيقار الصيني تشانج داتشيان، الفنان ألبرت دورر، الفنان جورج قرم، يوسف الحويك، مصطفى فروخ، قيصر الجميل، جبرا إبراهيم جبرا، رمسيس يونان، حسن سليمان، صلاح جاهين، مظفر النواب، شاكر حسن آل سعيد، أمين الباشا وحليم جرداق … كانوا نماذج قوية بإبداعهم وبفعلهم الاجتماعي في آن، حيث أثروا في حياتهم ومجتمعهم وتاريخهم. لقد منحوا للثقافة التشكيلية الكونية أجمل النصوص النقدية التي لم يتجرأ كبار النقاد والمؤرخين المعاصرين على صياغتها وتفعيلها أفقيا (في المكان والوقائع) وعموديا (في الزمان والأعماق). أستحضر هذه الرموز الحركية وفي ذهني، أيضا، مبدعون مغاربة يشكلون جانبا مشرقا من المشهد الأكثر غنى وبهاء لثروتنا الرمزية في هذه المرحلة (محمد شبعة، محمد المليحي، محمد القاسمي،… إلخ). فاستحضارهم لا يزال شكل حياتهم الوحيد، والشكل الأمثل لميلادنا من جديد رمزا وطقسا معا. كانت الكتابة بالنسبة لهم مختبرهم الآخر الذي ينظم انشغالاتهم الفكرية، ويفسح عن رؤاهم الإبداعية إزاء الإنسان والوجود. لقد انتصروا، بعمق، لإنسانية الكائن لا لجغرافيته. آمنوا، أيضا، بأن تقدم الإبداع التشكيلي رهين وملازم للكتابة حوله وفيه. لقد كان إبداعهم متقدما لأنه، بكل بساطة، أداة فكر متقدم حتى على عصره. هكذا، آمنت في حضرة هؤلاء المبدعين الكبار بأنه من المستحيل أن ينفصل الإبداع، ويطفر، ويتقدم وحده. إنه اليد التي تخضع لملكة الفكر بتعبير ميكاييل أنجلو! كما أنه الإطار العام لمعادلة «الإنسان، والعلم، والطبيعة» من منظور ليونار دوفانشي! على آثار هؤلاء الكتاب – المبدعين التشكيليين، تأكدت لدي ازدواجية الفكر والإبداع باعتبارهما وجهين لعملة صعبة واحدة، فبادرت بمعية بعض الزملاء إلى تأسيس جمعية «الفكر التشكيلي». الكتابة قرينة مرادفة للتشكيل منذ فترة ما قبل التاريخ إلى عصرنا الراهن. فهي رهان إنساني لتأبيد العابر والزائل، وترسيخ آثار الحضور والوجود في مواجهة الغياب والعدم. إنها، بتعبير عبد الكبير الخطيبي، تأجيل للموت وتمديد للحياة. أليست الكتابة شأنها في ذلك شأن التشكيل توقا إلى الخلود، بتعبير الباحث فرديناند ألكييه في معرض حديثه المسهب عن الوعي الفعال؟ إن التشكيل بالنسبة لي (بعيدا عن جذره اللغوي الذي يفيد تحويل المادة إلى شكل) حركية فن وكتابة تستجيب للراهن وحركيته. فهو مسكون بهاجس التجريب والتحديث. إنه لا ينفصل عن الأنوار التي تنبجس من الأفق الإنساني المعاصر منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. هكذا، حاولت أن أساهم في ترسيخ لغة بصرية لا تكتفي برصد الواقع بحرفيته، بل تسعى إلى خلخلته ومساءلته برؤى الإبداع الجمالي خارج كل نزعة وثوقية تحجب الواقع والحقيقة معا. إنني من أنصار الرؤية الجديدة للأشياء والكائنات في أبعادها الدلالية الموحية، أقصد من أنصار الطريقة الجديدة في الحس في الأشياء والكائنات دون السقوط في مأزق الفن المعاصر الذي سطح الإبداع وأفرغه من معانيه الإنسانية العميقة. الكتابة والتصوير يخيل إلي، أحيانا، وأنا أحاول مقاربة العلاقة القائمة بين الكتابة والتصوير، كممارستين إبداعيتين تنطلقان من ذات واحدة، أنني لا أقوم، في الحقيقة، سوى بإعادة استحضار زمن آخر سابق، ذلك الزمن الذي لم يكن فيه التشكيك في التعاطي مع هذين الحقلين الجماليين أو سواهما بالنسبة للمبدع الواحد، يثير أي غرابة أو استنكار، مادامت الغاية من وراء تجريب هذه الثنائية التعبيرية هي تحقيق نوع من الإشباع الجمالي، وفهم كل ما هو ميتافيزيقي ومتعال بطريقة جيدة ومتجاورة. من هذا المنظور، كان قدماء الفلاسفة منشغلين بوضع اليد على مفهوم التذوق الفني ومدى تحققه في مختلف التعبيرات الجمالية، التي كان قد أسس لها إنسان تلك المراحل السحيقة، وعلاقة ذلك بالعالم الدنيوي المحسوس أو بالعالم المطلق، أكثر من اهتمامهم بما يمكن اعتباره إشكالات جانبية، من قبيل الدعوة إلى التخصص، إن في الكوميديا أو التاريخ أو المأساة والتراجيديا، أو الموسيقى والرقص والشعر والغناء والنحت والتصوير وما إلى ذلك، مما كان يعتبره أفلاطون إلهاما مستمدا من ربات الفنون. ولعل هذا الأمر، خاصة حين يتم الحديث عن المزاوجة بين كتابة الشعر والتصوير، هو ما جعل أرسطو يؤكد بشأنه على ضرورة تمثل الرسم باعتباره شكلا شعريا، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى فنون النحت والرقص والموسيقى، قبل أن يؤكد غيره على كون الشعر ينبغي اعتباره رسما ناطقا مقابل الرسم الذي يعتبر شعرا صامتا، وهو ما يبيح إمكانية تعاطي الممارستين معا، إذا ما تحصل للمعني بذلك قدرٌ من الإجادة والميول الواعي بشرط الإبداع. وإذن، نحن أمام تمثل متقدم ما فتئت البشرية، مع تواتر الاختراعات وتقدم الصناعات وانحسار الجغرافيات، تجتهد في إعادة تمثله، كاكتشاف جديد، بعدما أرست حدودا وقوانين باعدت بين الأجناس، فيما يشبه البلقنة الفنية، تحت طائلة ما سمي ب»التخصص» و»صفاء الأجناس». وأنا أفكر في هذا الأمر، تحضرني أسئلة كثيرة بخصوص العلاقة التي يمكن أن تتأسس من رحم هذه العلاقة، على الأقل بين الشعري والتصويري، حتى لا أقول الكتابة والتشكيل بصفة عامة. فإذا كان الشعر ينشئ عوالمه ودواله في بحر اللغة، والتصوير يسخر كيمياء اللون والخط والمادة والفراغ والكتلة والضوء والعتمة… في صناعة أشكاله وتثبيت وجوده، فما هي أوجه القرابة بينهما؟ هل يتعلق الأمر بانصهار أفقهما الجمالي المشترك، أم أنهما يشكلان قارتين منفصلتين تتقابلان وتتجاوران على خلفية تخييلية مشتركة؟ ما هي حدود الشعري والتصويري، بغض النظر عن شرط الآلات التقنية والجمالية المسخرة لتحقيق كل واحد منهما؟ هل ما تزال الضرورة قائمة للفصل بينهما تحت ذريعة صفاء النوع، أم أن في الأمر غير قليل من ابتسار للخيال واختزال لإمكانات الذات المبدعة، لا سيما أننا نعيش في عالم بات بإمكان أي واحد منا استدعاءه إلى حاسوبه الشخصي أينما شاء ووقتما شاء؟ ثم، ألا يمكن اعتبار الحديث عن مثل هذه الإشكالات في عالمنا اليوم، أي تنويع المقاربات الإبداعية لدى الذات المبدعة الواحدة، نوعا من الحنين إلى روح ذلك المبدع الموسوعي الذي كان يجسده عقل وخيال البشرية الأول: أي الفيلسوف، الفنان، الشاعر، الموسيقي، النحات، الفلكي، الرياضي… وسواه؟ وحتى لا نبتعد كثيرا عن الشعري والتصويري، أظن أننا بحاجة اليوم إلى إعادة تمثل كلتا الأداتين التعبيريتين بغير قليل من الأريحية المبدعة، وفق مشتركهما وشرطهما التخييلي، ووفق ما يجسر المسافة النفسية المتخيلة بينهما، بما يجعلنا نكتب قصيدة تستثمر اللون المعبر والحركة العفوية وثنائية الضوء والعتمة وتدبير السطح، بما هو خزان لممكنات الفراغ والامتلاء، مقابل إنجاز لوحة تستدعي كيمياء اللغة الغميسة وتجاور تضاد مفرداتها، بناء على الإيقاعات التي تمنحنا إياها لغة الشعر، مادام العمل الفني، والشعر عمل فني، حسب ريجيس دوبري «ليس تركيب أشكال، وتنظيم مساحات، وتنسيق ألوان فقط، لكنه تنقيح للذاكرة بالأساس». إن الشعر، كما التصوير، صناعة إنسانية نبيلة. ورغم أن كلا منهما يستندان على خلفية معرفية وجمالية وعلى تاريخ شخصي يتأسس على المكابدات والمشاهدات والإنصات العميق لروح العصر، في أفق تكريس رؤية خاصة للعالم وللإنسان، فهما يبقيان، مع ذلك، بحاجة إلى مزيد من الحرية والخبرة والتجربة. وقد يحدث أن يغمرنا، من حين لآخر، إحساس بأننا دون مستوى التعبير عن مشاعرنا وقلقنا وعن رؤانا، بما يكفي من العمق والوضوح والجمالية، إما لأننا نكون عرضة لقصور في تمثل الأشياء والعالم، أو لكون آلاتنا التعبيرية تصطدم أحيانا، لهذا السبب أو ذاك، بقصور ممكناتها. وفي لحظة الانحباس هذه، نحاول أن نعطي لباقي حواسنا فرصة التعبير عن مقدراتها؛ نلمس، نشم، نرى أو ننصت، نقوم بكل ذلك، لإعادة ترتيب شتاتنا وفق إيقاعات مختلفة ومنتجة. شخصيا، أصاب، من حين لآخر، بمثل هذا الفراغ أو العسر. ولحسن حظي أنني أزعم الإقامة فوق سريرين: سرير الشعر وسرير التصوير، وأحاول – قدر الخبرة والمعرفة والاجتهاد – أن أنتج فيهما بروح تجريبية متسائلة، باحثة ومتعلمة. بهذا المعنى، أقوم بمعالجة ذائقتي الفنية وأضاعف خلاياها، كما أحاول، قدر الإمكان، فهم الجمال وتمثلَ فعل مسايرة مختلف النداءات التي تعطي للذات معنى إضافيا، دون الاقتصار على تطويع آلة واحدة قد تصاب بالصدأ كلما أهملنا صقل معدنها. للغة آلامها ومكابداتها الخاصة بها أحيانا، حينما نحس، في لحظات معينة، أمام جبروتها أو قدسيتها على السواء، بضآلتنا وعجزنا؛ أي حين نستشعر عدم تقبلها لبعض جرأتنا الزائدة عن المألوف والسائد والمتواضع عليه، سواء كجماعات أو كأفراد ينتمون إلى جذر لغوي أو عقائدي أو طقوسي صارم ومنغلق. كما للتصوير كذلك لحظات بياضه المربكة والقاهرة، التي تجعلنا وجها لوجه أمام عدد من الأحاسيس الجبارة، التي تتراوح بين عسر التعبير بوضوح عن أفكارنا وقناعاتنا ورؤانا من جهة، وكيفية تحويل كل ذلك إلى ألوان وعلامات وخطوط ومواد فوق سطح بياض آخر هو نفسه سند القصيدة من جهة أخرى. وأظن أن خبراتنا المكتسبة وإنصاتنا العميق المتأني لكل ما يحيط بنا، بقناعة تجريبية متواضعة وبروح متعلمة ومؤمنة بحدودها، هو ما يجعلنا قادرين على تمثل تلك اللحظة الرفيعة الفاصلة بين شحنة الامتلاء وهالة الفراغ، بما هما حالتان وجوديتان إبداعيتان تمنحاننا القدرة الواثقة على التنقل بين أداتين تعبيريتين أو أكثر برشاقة كبيرة وثقة منتجة، بخلفية مد القنوات وتبييء الرؤى والتصورات والأفكار، بما يمكن تخيله سباحة حرة، واعية وناضجة في ماء واحد، هو ماء الإبداع. ومما لا شك فيه أن تنويع الممارسات الإبداعية، مع ما يقتضيه ذلك من تحصيل لنسبة مقبولة من الإجادة ومن الفنية، أمر ضروري وملح – وهو بالتأكيد ما لا يتحقق لكثير من المحاولين، هكذا بمجرد ثبوت نية المحاولة – إلا أن ذلك لا يمنع من تجريب هذه الارتماءات الخطرة والجميلة، كلما لمس المبدع في نفسه إمكانية التجريب، طمعا في الإضافة والتوفق وتنويع أداة الخلق والإبداع. شخصيا، لا أدعي ولم يسبق لي أن ادعيت الوصول أو التمكن الواثق. كل ما أقوم به هو محاولة تجريب الإمكانات التي تتيحها لي آلتا كتابة الشعر والتصوير في نفس الوقت، وفق قناعات شخصية تستجيب لذائقتي الإبداعية ولاجتهاداتي الواعية بنقصانها، وخبرتي المتواضعة في مجاهل كلتا الممارستين. أقول هذا، على الأقل فيما يرتبط بمحاولتي الشخصية للمزاوَجة بين كتابة الشعر والتصوير، وأنا أستحضر صوت مفتي الديار المصرية في مطلع القرن العشرين، الشيخ محمد عبده وهو يجيب عن سؤال من يعتبر التصوير ممارسة محرمة، حيث يقول إن «الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى»، وهو رأي – بغض النظر عن تجربة الكاليغرافيا فيما يتعلق بحاسة النظر – فيه كثير من العمق والحصافة والتمثل السخي للعلاقة التي يمكن أن ينشئها المبدع – متعدد المواهب – في ذاته المفردة، بعيدا عن تلك الاشتراطات العقيمة التي تقلص من حدود استفادة كل الأجناس الإبداعية من بعضها البعض، فيما يمكن أن يصبح عنصر إغناء وتطويرا للذات المبدعة. لقد كان مأزق الامتلاء الفارغ وما يزال أحد أعداء المبدع المجدد، كما ظل طموح إخصاب ذهنه وشحنه، بما يمكن أن ينتج ويبدع ويضيف، أحد أكبر همومه اليومية على الدوام. لذلك، سواء تعلق الأمر بالشعر أو بالتصوير أو سواهما، ينبغي تمثل هذا الأمر كما لو كان صراعا يوميا من أجل تنقيح الذاكرة وتشحيم مواسيرها لإبداع الأفضل. وما الأدوات التي نوظفها في مثل هذا الصراع الإبداعي الضروس سوى آلةٍ ووسيطٍ نسخرهما لتحريك ماء الخيال، بما يعكس انفعالاتنا المنتجة ويفرغ مكنون أحاسيسنا فوق هذا السند أو ذاك. إننا لا نقوم، في نهاية الأمر، سوى باقتراح نظرتنا للعالم وإحساسنا به، كل بطريقته الخاصة وفي المجال/ المجالات التي يتقنها، وهو ما أعتبره لحظة تواصل بين نظرتين مختلفتين، وبين متخيلين متباينين، أي بين الذي يبدع والذي يستقبل هذا الإبداع. الإبداع لحظة نادرة، بكل تأكيد، لكنها تنتمي للبشرية جمعاء وليست مقتصرة على الذات المبدعة وحدها، بما أنها تطمح إلى استدعاء طرف ثان للوقوف على حدود لحظة انفعال ودهشة مشتركة. وتلك، في اعتقادي، إحدى وظائف الإبداع الأساسية، كيفما كانت طبيعته أو جنسه أو مسماه. وما محاولة تنويع الأداة وتجريب استدعاء ما يبدو مختلفا، في ذات مبدعة واحدة، سوى محاولةِ اجتهاد نبيلة للكشف عن إمكاناتنا غير المستثمرة، وهي إلى ذلك، خيار إبداعي آخر لإخصاب الذاكرة وعدم الاستسلام لانحسار الذائقة الفنية. كيمياء الألوان وسيمياء الكلمات لقد اعتبر التشكيل كتابة صامتة، واعتبرت الكتابة تشكيلا ناطقا، الأول يُكتَبُ لكي تلتقطه العين، والثانية تُشكَّلُ لكي تتشنف بها الأذن، وتتأسس نظرية التوازي أو البراغون Paragone في استتيقا عصر النهضة على هذه الموازنة بين الشعر والتصوير، انطلاقا من قولة لسيمونيدس Simonide مؤداها أن الشعر تصوير ناطق، والتصوير شعر صامت، واستنادا إلى اعتبار أن التصوير يوازي الشعر ويناظره Ut pictura poesis على حد قول هوراس، لأن «التصوير هو شعر أبكم والشعر هو تصوير أعمى، وكلاهما يسعى إلى محاكاة الطبيعة بحسب ما أوتي من وسائل»؛ يحاكيها التصوير الفني عن طريق الأشكال والألوان والكتل ومفعول الظلال وعناصر المادة الفيزيقية البكماء، فيما يحاكيها الشعر عن طريق الكلمات وعبر جرسها الموسيقي وإيقاعاتها الداخلية وأنحاء نظمها وتمفصلها ومفعولها الاستعاري وإيحاءاتها النابضة بالمعنى، ضداً على جماليات الكواتروشنطو وما سلفها من التنظيرات الإستتيقية الوسيطية التي كانت تفصل بين التصوير والكتابة الأدبية، وتعقد بينهما علاقة تراتبية، من منطلق اعتبار أن الأدب هو من الفنون الحرة أو الليبرالية، في مقابل النظر إلى التصوير كمجرد صنعة أو فن من الفنون الآلية أو الميكانيكية. ضدا على هذا تبلورت نظرية التناظر أو البراغونا، مؤكدة على أن التصوير هو نظير الأدب، وتحديداً نظير الشعر الذي يعده أرسطو تاج الفنون وأرقى صور التعبير الآدمي. وعلى هذا المنوال اعتبر ليوناردو دافنشي أن التصوير يقع من الشعر موقع النظير ويعتبر صنوه الأثير، وبينهما تضايف وتوالف يسمو بالماهية الإنسانية؛ «فإذا كان الشعر يتناول الفلسفة الأخلاقية، فإن التصوير في نظره يستلهم الفلسفة الطبيعية؛ فالأول يصف أفعال الروح، في حين أن الثاني يمعن النظر في الروح من خلال القبض على حركات الجسد». وذهب دافنشي وغيره بالتناظر بين الشعر والتصوير إلى أبعد الحدود، فاعتبر الشعر والكتابة إجمالا تعبيراً أو تشكيلاً زمانياً يتغيا الإفصاح عن وجيب الروح والتياعات الذات، فيما اعتبر التصوير والتشكيل عموما تعبيراً إستتيقياً بصرياً يصل بين المكانية والزمانية في صعيد واحد. وعلى هذا النحو لم يكن التشكيل يستمد قيمته من ذاته، ومن خصوصياته أو من نغمته الفريدة، بل من توازيه وتماثله مع الشعر ومع الكتابة إجمالا، مما يعني أن ماهيته لا تكمن في ذاته، بل تستخلص بالمقايسة مع سواه من الفنون، وخاصة مع الشعر لسموه ورفعة شأنه. والانعطافة المفصلية التي أفضت إليها الحداثة الإستتيقية جعلت التشكيل ينحو في اتجاه الوعي باستقلاله كحقل جمالي مخصوص، «وبالتالي القطع، كما يقول بيير بورديو، مع علاقة المماثلة المستلبة بينه وبين الشعر، والمطالبة بالإقرار بخصوصيته». ومن ثمة لم يعد عمل التشكيلي يُحدَّد في توازٍ مع عمل الشاعر، بل أضحى مشدوداً إلى سجل جمالي مغاير له إوالياته ومميزاته. كما فقدت «مسألة الفصل بين الفنون أو تراتبيتها المفترضة كل قيمة متخيلة» على حد تعبير جيل دولوز. لهذا فحين نتحدث عن التشكيليين الكتاب أو عن التشكيليين الشعراء، فنحن لا نقصد، البتة، الفنانين الذين جعلوا من التشكيل نظير الشعر أو معادلاً بصرياً للكتابة، إنما نقصد، بالأحرى، فنانين مغاربة معاصرين اشتغلوا بالتشكيل والكتابة وكلفوا بهما معا، بوصفهما سجلين جماليين متمايزين، لكل منهما بلاغته الخاصة، وميثاقه الهيرمينوطيقي المائز. فهم تشكيليون وكتاب في آن واحد، أو يعلنون انتسابهم العضوي وعلاقتهم الجينيالوجية، بكل من سلالة الكتابة وسلالة التشكيل سواء بسواء: الكتابة كحقل لتوليد المعنى اعتماداً على علامات اللسان وعلى نسقه السيميائي المرجعي، والتشكيل كأفق جمالي بصري لتوليد الأشكال اعتماداً على الألوان والخطوط والأحجام، واستنادا إلى شعريات الضوء والظل والحركة والفراغ وسائر الأسانيد المادية التي تشغل حيزاً دالاً في الفضاء الإبداعي. ها هنا لا تغدو العلاقة بين الكتابة والتصوير علاقة تناظر وتواز وتعامد، بل علاقة تجاوز وتصادٍ؛ ماداما مجالين لاستغوار معنى الكينونة، ولمساءلة الذات في علاقتها بالعالم والآخر. البجوقي : همي أن أجعل من المنفى موضوع نقاش قال ل"لمساء" إن قرار مغادرته المغرب لم يكن فقط بسبب الخوف من بطش النظام، بل كذلك بسبب الصراع داخل الاتحاد الاشتراكي عبد الحميد البجوقي، من مواليد 1961 بمرتيل/تطوان، درس الحقوق في جامعة محمد الخامس بالرباط، وبعدها في جامعة كومبلوتينسي بمدريد، ناضل في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وغادره بعد انتفاضة 1984. صدر في حقه حكم غيابي ب30 سنة سجنا، وعاش 16 سنة من الاغتراب بإسبانيا. وهو مؤسس ورئيس جمعية العمال والمهاجرين المغاربة بإسبانيا، شغل منصب ممثل إسبانيا في المجلس الأوروبي بلجنة مكافحة العنصرية بين سنتي 2008 و2013. كما أنه مؤسس ومنسق المنبر المدني لمغاربة أوروبا، وكاتب رأي في جريدة "إلموندو" وبعدها في جريدة "الباييس"، ومؤسس وعضو مجلس إدارة مجلة "دفاتر الشمال" الثقافية الصادرة في تطوان، ومؤسس ومدير جريدة "الملاحظ" الورقية الصادرة في تطوان، وعضو مؤسس لمنبر المنظمات غير الحكومية الأورومتوسطية، صدرت له مجموعة من الكتب بالعربية والإسبانية، أهمها: رأي آخر في الاختلاف، الانتقال السياسي في المغرب باللغة الإسبانية، منشورات فوسا، من الحركة الوطنية إلى الحركة الديموقراطية، منشورات البيادر، الملكية والأحزاب في المغرب، زمن الهجرة وسياسة الخداع منشورات أوبسرفادور ميديا. كما صدرت له في الصحف العربية والمغربية مقالات في الرأي أغلبها حول الهجرة، والوضع السياسي في المغرب، والعلاقات المغربية الإسبانية. إضافة إلى روايتين: "عيون المنفى" وحكايات المنفى "عبسليمو النصراني". – هل يمكنك أن تحدثنا عن تفاصيل هروبك الأول من المغرب، بعيدا عن عيون الأجهزة الأمنية المغربية؟ علمت بانتفاضة يناير 84 وأنا أهيئ امتحانات نصف السنة في العاصمة الرباط، كنت حينها طالبا بكلية الحقوق. كما علمت حينها أن قوات الأمن داهمت منزل الوالدة في تطوان وزارت منازل عائلتي بحثا عني، فغادرت الرباط بحثا عن مكان آمن في انتظار استطلاع المزيد من الأخبار والتفكير فيما عساني أفعل، وقد قضيت ما يزيد عن الشهر متنقلا بين سلا والبيضاء وآسفي، إلى أن قررت مغادرة المغرب في شهر فبراير من سنة 1984، بعد أن تأكد لي أن المتابعة قائمة في حقي، رغم أنني لم أكن أثناء الانتفاضة في تطوان، وأن الأمر يتعلق باستغلال ما جرى للتخلص من النشطاء السياسيين ومناضلي اليسار الاتحادي آنذاك. كانت عيون الأجهزة الأمنية في كل مكان، ولم يكن من السهل تنسيق عملية المغادرة عبر الحدود البرية دون مخاطر، سواء علي أو على الذين ساعدوني في الوصول إلى الضفة الأخرى، لكن الحظ حالفنا واستطعت المغادرة عبر قارب صغير امتطيته في أحد صباحات فبراير 1984. كان هدفي أن أصل إلى إسبانيا والمكوث فيها مدة من الزمن في انتظار الأحكام القضائية، متمنيا أن لا تتجاوز بعض السنوات، وقررت في حالة ما كان الأمر كذلك أن أعود لقضائها في المغرب، لكن نصيبي منها كان 30 سنة سجنا غيابيا، وهذا ما عجل بقراري طلب اللجوء السياسي والاستقرار في مدريد. كانت الشهور الأولى في مدريد صعبة، كانت جحيما لا يطاق، رغم أنني حظيت بدعم بعض أفراد العائلة وبعض الأصدقاء الإسبان، وكان علي أن أحسم أمري في الاستقرار أو العودة أو المغادرة إلى بلد أوروبي آخر، وبعد توصلي بخبر صدور الأحكام حاولت الاتصال ببعض القياديين في الحزب طلبا لشهادة تثبت انتمائي للحزب، ونسخة من الحكم الذي صدر في حقي، طلبتها مني مفوضية اللاجئين لتعزيز طلبي كلاجئ سياسي، وكانت صدمتي أن الأطراف التي اتصلت بها نصحتني بالعدول عن طلب اللجوء والعودة إلى الوطن وتسليم نفسي للقضاء واستئناف الحكم، وقد وعدتني بتنصيب محام للدفاع عني. ومن المفارقات أن مناضلا من الحزب الشيوعي اللبناني التقيته في قسم مساعدة اللاجئين بالصليب الأحمر وحكيت له قصتي فمدّني بعد يومين بشهادة من الحزب الشيوعي اللبناني، كما تمكن بعض الأصدقاء في تطوان من الحصول على نسخة من الحكم أرسلوها لي إلى مدريد عبر مدينة سبتة.. على كل حال، مرارة العلاقة والتواصل مع الرفاق أحيانا أشدُّ من مرارة الاغتراب والتشرد. – لماذا لم تتخذ قرارا بالمكوث في المغرب كما اتخذه بعض المناضلين من مجايليك الذين زج بهم في السجون؟هل كان هروبك ضروريا، أم كانت هناك اختيارات أخرى، في فترة كان المغرب يحتاج فيها إلى نضالات حقيقية من داخله؟ قرار مغادرتي المغرب تحكمت فيها أسباب لم تكن لها علاقة فقط بالخوف من بطش النظام، بل كان للصراع داخل الاتحاد الاشتراكي كذلك دور في اتخاذ قرار المغادرة، الذي لم يكن سهلا واتخذته كغيري من اللاجئين بألم ومرارة. شعوري حينها بغياب الدعم من طرف القيادة الحزبية، وأعني بها قيادة التيار، الذي كنت أناضل في صفوفه، وكذا الخوف من القيادة التي كنا نسميها آنذاك إصلاحية، ومن تعامل بعض عناصرها في الشمال وتطوان بالخصوص مع الأجهزة، وتعاونها معها في رصدنا بهدف التخلص منا، كان له دور كبير في الشعور بمواجهة مصير مخيف دون تغطية ولو معنوية. وقد علمنا حينها أن بعض القياديين في الحزب، الذي كنت أنتمي إليه بتطوان، سلم لائحة بأسماء مناضلي اليسار، الذي كان يُعرف آنذاك بخط رفاق الشهداء، للأجهزة الأمنية قصد التخلص منا، وبالتالي لم يكن أمامي سوى البحث عن طريقة للمغادرة، مستغلا انتمائي إلى منطقة حدودية خبرتها في طفولتي. وكان عوني وسندي الوحيد عائلتي الصغيرة (إخواني وأخواتي) وصديق لن أنسى فضله علي ما حييت. – من خلال رحلتك الطويلة وغيابك عن بلدك المغرب، ما هي المكتسبات النضالية التي حققتها جراء إقامتك بالمهجر؟ تأخرت ما يزيد عن خمسة أشهر لأضع طلبي باللجوء أمام مفوضية اللاجئين بمدريد، أملا في أن تكون الأحكام مخففة والعودة إلى المغرب، لكن صدور الأحكام التي كانت قاسية جعلتني أحسم بالاستقرار في إسبانيا، ولم يكن أمامي بدّ من طلب اللجوء السياسي، رغم أنني لم أشعر يوما طيلة ال 16 سنة التي قضيتها في المنفى بالاستقرار. ورغم ذلك واصلنا نشاطنا الحقوقي والسياسي في إسبانيا وبعدها في أوروبا دائما، في علاقة بالمغرب وبنضالات الشعب المغربي في الداخل، وكان شعورنا أننا ملزمون بدعم هذه النضالات والانخراط في التعريف بواقع الحريات في المغرب والدفاع عن المهاجرين المغاربة المقيمين في إسبانيا، وقد حققنا العديد من المكاسب، منها فضح خروقات النظام المغربي آنذاك لحقوق الإنسان، ودعم المعتقلين السياسيين، وفضح المعتقلات السرية من قلعة مكونة وتزمامارت وغيرها. ولم تنقطع محاولاتنا للتنسيق مع بعض القيادات اليسارية والمنظمات الحقوقية في الداخل والخارج، إذ ساهمنا بشكل قوي في تأسيس إطار للمعارضين المغاربة في أوروبا، كان يضم في بدايته كلا من المناضل عبد المومن الديوري والمناضل أبراهام السرفاتي وعبد السلام الغازي وغيرهم، ولاحقا بعد تعثر هذا المشروع انتهينا إلى تأسيس ما عرف آنذاك بحركة الاشتراكيين الديمقراطيين المغاربة، حاولنا من خلالها المشاركة في النقاش الذي كان قائما عن وحدة اليسار الديمقراطي، والذي انتهى آنذاك بتأسيس اليسار الموحد، ونظمنا لقاءات ومشاورات في الخارج حضرته أطراف من المغرب، وكان آخرها بقرطبة سنة 1999. على مستوى الهجرة، ساهمنا في تأسيس جمعيات كانت فاعلة في الدفاع عن المهاجرين المغاربة بإسبانيا، منها جمعية العمال والمهاجرين المغاربة بإسبانيا، التي توسعت بشكل لافت في التسعينيات من القرن الماضي وكان لها دور كبير في تحقيق مكاسب لصالح المهاجرين بشكل عام. كما ساهمنا في تنسيق وتشبيك العمل بين الجمعيات الديمقراطية في أوروبا والحضور بشكل وازن في المنتديات الدولية المتعلقة بالهجرة وحقوق الإنسان، وشاركت شخصيا في مبادرات حقوقية متميزة، أذكر منها اللجنة الدولية لمراقبة حقوق الإنسان في شياباس سنة 1998، وكنت المغربي الوحيد الذي كان يشارك في الوفد، الذي سمح له بزيارة منطقة النزاع في المكسيك واللقاء بأطرافه من الدولة الفدرالية والمؤيدين لانتفاضة شياباس الشهيرة. على مستوى آخر، انخرطت بشكل نشيط في النقابة الاشتراكية الإسبانية وتحملت مسؤولية تنسيق قسم الهجرة بالنقابة وطنيا، وقد أتاحت لي التجربة الدفاع عن قضايا تهم الشعب المغربي والتعريف بواقع حقوق الإنسان في المغرب، كما كان الأمر بعد تعييني ممثلا لإسبانيا في اللجنة الأوروبية لمحاربة العنصرية واللاتسامح التابعة للمجلس الأوروبي، وكذلك الدور المميز الذي قمنا به في تأسيس منبر المنظمات غير الحكومية في المتوسط، الذي تحملت فيه مسؤولية الكتابة العامة لمدة سنتين قبل مغادرته.. وأخرى لا يسع المجال لحصرها.. – ما الفرق، في نظرك، بين المهجر والمنفى معنى واصطلاحا؟ تقديري أن الفرق يكمن في ذات الكاتب المنفي المُبعد قسرا عن وطنه والمهاجر المُبتعِد ربما اضطراريا لكن بعد تفكير وتحديد لوجهة رحلته. أسباب المغادرة وظروفها، في تقديري، لها دور في تصنيف هذا الأدب وإبراز اختلافه عما عُرف بأدب المهجر. فكرة المنفى، على عكس المهجر، تشدد دائما على غياب الوطن وعلى النسيج الثقافي الذي يشكل الذات الفردية في علاقتها بالذات الجمعية، سواء الأصلية أو المُضيفة، إذ يعيش المنفي تمزقا لاإراديا مفروضا لا ينتهي بعودته إلى مكانه الأصلي. أدب المنفى يختلف حتما عن أدب المهجر في كونه يكرس شعورا لدى المنفي بحالة من الانشطار بين الحنين الهوسي إلى المكان الأول، وعدم القدرة على العودة إليه، ويقول الباحث العراقي عبد الله إبراهيم إن «هذا الوضع ينتج إحساسا بالشقاء لا يدركه إلا المنفيون الذين فارقوا أوطانهم ومكثوا طويلا مبعدين عنها، فاقتلعوا من جذورهم الأصلية وأخفقوا في مد جذورهم في الأمكنة البديلة، وغالبا ما يُخيم على المنفي حس تراجيدي لمصيره وشعور مستمر بالتمزق والتصدع والحنين إلى المكان الأول». المنفى على عكس المهجر ليس مكانا غريبا فحسب، وإنما هو مكان تتعذر فيه ممارسة الانتماء، وأدب المنفى يختلف عن أدب المهجر اختلافا واضحا كون الأخير حبس نفسه في الدلالة الجغرافية، فيما انفتح الأول على سائر القضايا المتصلة بموقع المنفى في المكان الذي استقر فيه دون أن تغيب عنه قضايا العالم الذي اضطر إلى مغادرته. تقديري أن هذه العناصر تكفي، على الأقل، لتنشيط جدل ثقافي حول وجود هذا الجنس الأدبي من عدمه، وحول محتوياته الدلالية. كما أن سياقات ميلاد هذا الجنس من الأدب في المغرب تختلف عن تلك التي يتحدث عنها إدوارد سعيد وعبد الرحمن منيف وعبد الله إبراهيم وغيرهم من الأدباء المنفيين، سياقات تختلف باختلاف أسباب النفي وبمسبباتها دون أن تؤثر على نتائجها، وأدعو بالمناسبة الباحثين والنقاد المغاربة إلى الخوض في هذا الموضوع بما يستحق من التحليل والدراسة. – وما هي خصائص أدب المنفى؟ كما سبق أن أشرت، أعتقد أن تصنيف هذا الأدب هو مثار سجال ونقاش بين النقاد، وتقديري أن الاختلاف قائم بين أدب المهجر وأدب الرحلة وأدب المنفى، ومن خصائص هذا الأخير أنه أدب اعتراف، مما يجعله دائما محط شبهة وموضوع ارتياب، لأن الجمهور لم يتعود على قبول الحقائق السردية الواقعية، وغالبا ما يرى في جرأة الكاتب على كشف المستور سلوكا غير مقبول. ومن العناصر المميزة لأدب المنفى أن الكاتب يختار السرد كملاذ للكتابة، وغالبا ما يرتبط برغبته في البوح والتوثيق لتجارب تجمع بين الألم والحب والسعادة والحياة، ويتوهم الكاتب أن مهمته أن ينقل للعالم تجارب المغتربين والمنفيين، وأحاسيسهم ومشاعر التمزق وقلق الانتماء الذي يلاحقهم حتى بعد عودتهم، وهي عودة تظل دائما افتراضية كما يظل الانتماء متعددا ومثيرا للقلق والشعور الأبدي بالفقد. الخلاصة فيما يتعلق بمفهوم وخصائص أدب المنفى، أن هذا الأدب خضع خلال الربع الأخير من القرن العشرين لتحولات عديدة، وغادر معناه اللغوي الذي ارتبط بالوطن وما يرتبط به من مشاعر، إلى التعبير عن قدرة هائلة على محاكاة المنفي لمن يعيش معهم دون أن يفقد إحساسه بأنه منبوذ، وتطوير هذه المشاعر المتناقضة أحيانا بإتقان المنفي لمهارات البقاء والتعايش في مكانه الجديد مع الحرص الدائم على تجنب خطر الإحساس بأنه حقق درجة أكبر مما ينبغي من الراحة والاستقرار. – كيف انتقلت من المجال الحقوقي إلى مجال الكتابة الإبداعية؟ لا أدري إن كان الأمر يتعلق بالانتقال من مجال إلى مجال، أو أن هناك سرّاً ما في توجهي نحو الكتابة والسرد، بكل صراحة أعتقد أنني اخترت، ربما بدون وعي، التعبير عن نفس الهموم والدفاع عن نفس القضايا الحقوقية المتعلقة بالهوية وبالحرية وبالاختلاف والتعايش وحرية المعتقد والمساواة من خلال السرد والرواية. ربما كانت الكتابة كذلك ملاذا للبوح والتنفيس والتعبير بمزيد من الجرأة بعيدا عن إكراهات وفرامل الخطاب الحقوقي والسياسي. الواقع أنني بقدر ما خُضت التجربة بتهيُّب وحذر بقدر ما استمتعت بها، وقد قررت بعد تردد نشر روايتي الأولى دون التفكير في أن الأمر يتعلق بأدب منفى، أو أنني بصدد المشاركة في تشكُّل جنس أدبي، أو أن رواياتي ستجد هذا التجاوب وستخلق هذا الجدل. -صدرت لك روايتان هما «عيون المنفى» و»حكايات المنفى عبسليمو النصراني»، لماذا تعمدت اختيار نفس الموضوع في كلتا الروايتين، بسياقهما ودلالتهما المتشابهين، وكأننا نقرأ رواية واحدة في جزأين؟ بصراحة لم تراودني فكرة كتابة الرواية إلا بعد سنوات من عودتي إلى المغرب، وقد تهيبت كثيرا من الموضوع لما يحمله من مخاطر المغامرة في مجال كان دائما بعيدا عن اهتماماتي. نعم، كنت ولا أزال قارئا نهما للروايات، لكنني لم أتصور أبدا بأنني سأخوض في يوم ما غمار الكتابة الأدبية، ووجدت نفسي منساقا نحو رغبة في البوح وإطلاق عنان خيالي، الذي تغذى لمدة طويلة من تجربتي الخاصة ومن تجارب أخرى عايشتها أو سمعتُ عنها، وبدا لي لأول وهلة أن السرد قد يكون مبررا لإعادة بعث تجربة المنفى ومناقشة أسباب النفي ومساءلة من كان سببا في ذلك. ربما كنت أبحث عن صيغة أخرى للإنصاف والمصالحة لم تعتمدها الدولة في مقاربتها الرسمية، والتي تجاهلت ملف المنفيين الذين لم يجدوا نصيبهم في النقاش ولا حتى الاهتمام بملفات المنفيين ضحايا سنوات الرصاص إلا من رحم ربك.. وجدت نفسي أثناء كتابتي الرواية الأولى «عيون المنفى» تائها في التعبير والبوح السردي عن آلام النفي ونقائص حياة المنفي ومعاناته، التي لا تخرج عادة عن الحلم بوطن بديل، بوطن جميل مفقود رسمت حدوده في مخيلتي، ونقلت ببراءة ما صاحبني من مشاعر الإحساس بالذات خارج حدود الوطن. ولاشك في أن هذه العناصر كانت وراء تأكيد أغلب النقاد على أن الرواية الأولى نوع من السيرة الذاتية. بعد انتهائي من كتابة هذه الرواية ترددت كثيرا في نشرها إلا بعد أن ألح علي بعض الأصدقاء بضرورة نشرها، وكانت مفاجأتي أنها لاقت إقبالا كبيرا بعد أن نفدت أعدادها في السوق، واستسلمت لدعوة أصدقائي بإصدار رواية ثانية، وحينها بدا لي أنه من الأفضل أن أواصل الكتابة في نفس الموضوع لعلني أستطيع إنجاز ثلاثية أنقل من خلالها خلفيات وتجارب افتراضية تمتح من واقع المنفى في علاقته بالوطن. وزاد اهتمامي بهذا المشروع بعد صدور الرواية الثانية «حكايات المنفى عبسليمو النصراني».