محمد أبوغيور تراث كل أمة يعني تجربتها الفكرية ضمن إطارها الزمني، في جوانب المعرفة المختلفة : الأدبية، والعلمية، وهي تجربة ذات جذور قومية وأبعاد إنسانية، يجذر بنا أن نقف منها موقف المحلل الموازن بحثا عن أصالتها المتمثلة في جودتها ونوعيتها أي في "كيفها" القومي-الإنساني ومدى استبصارها لقيم ومثل واقعها الذي نشأت فيه، وعبرت عنه (كلا) إنسانيا له القدرة الإيجابية على التفاعل بتجارب الأمم الأخرى والتأثير فيها، لذلك فإن من السهولة بمكان أن يعجب المرء بتراثه، بيد أنه من الصعوبة جدا تحديد المشاركة في الرؤية الحضارية التي خلقها ذلك التراث، أو بعبارة أخرى إن خلق التصور الجدلي القائم على التفاعل بين الفكر والواقع من خلال حركية التراث القومي يعد من أهم مهمات البحث العلمي في الثقافة العربية المعاصرة. فتجسيد الجوهر في الماضي عن طريق الفهم الواعي والمعاناة يعني بالضرورة تحقيق المعاصرة الثقافية ذات البعد الحضاري الواضح والمؤثر في أحداث التاريخ القومي والإنساني حين تصير التجربة التراثية الواعية تجربة مبدعة لشعب من الشعوب، وانعكاسا حقيقيا للواقع الذي خلق المبدع وإبداعه، علما أن التراث ليس تقليدا ثقافيا وأن الاتصال الحضاري الجديد المتمثل بالفكر الجديد ليس نكرانا لذات الأمة أو تجريدها من خصوصيتها القومية وروحها الجمالي الفني.. فالإفصاح عن حس الشعب والأمة كشف هذه الحقيقة ببعديها : الذاتي والموضوعي.. والوقوف على قيمها الجمالية والإبداعية وأخيرا الاهتداء إلى تحليل أسلوبها وقدرته الخاصة على الإقناع والتغيير الاجتماعي وبعث الحركة والجدة في وجدان الجماهير العربية وضمير الأمة من خلال أثرها وتأثيرها في السلوك الاجتماعي للأمة، تؤلف المنهج الثقافي العربي المعاصر في فهم التراث فهما حضاريا متطورا، متجددا، معبرا عن روح العصر وأنماط الحياة الفكرية بمظاهرها العلمية والفنية والأدبية. لاشك أن الثقافة العربية-المعاصرة، بمعناها التاريخي والاجتماعي خلاصة تجارب عريقة وناضجة للتراث العربي، تمثل تطور الفكر العربي في مدى تفاعله بأحداث واقعه وعصوره المختلفة والمتباينة تاريخا وحضارة ومزاجا وموقفا. فللتراث العربي مصدران رئيسيان هما : "التراث الصحراوي وثقافة الاستقرار الحضاري، وهما مصدران قديمان، عريقان، قدم الإنسان العربي نفسه، فمن الصحراء استخلص العرب (أنموذجا) من الخصائص التي تمثل القيمة الإنسانية العظيمة للتعامل مع الحياة الاجتماعية على مستوى الفرد أو القبيلة أو المجتمع (كلا تاريخيا) بالإضافة إلى عشق الحرية وتقديسها والشعور بالمسؤولية والعدالة العفوية، والثقة العالية في مواجهة التحدي. تؤلف هذه الدلالات والقيم الاجتماعية رصيد العرب الثقافي المتمثل بتجربتهم الشعرية الرائعة والناضجة، التي سجلت حياهم بكل جزئياتها ودقائقها، قبل (الإسلام) تسجيلا واقعيا غنائيا بعيدا عن التكلف والمغامرات الخيالية، فالقانون القبلي كان قانون شرف وأخلاق" قبل أن يكون مجموعة من القواعد المنظمة، أي أن السلطة القبلية كانت تمارس وجودها الاجتماعي والسياسي والثقافي والاجتماعي من خلال قوة أخلاقية بالدرجة الأولى وكما يظهر ذلك في دواوين شعرائها وخطب خطبائها، وأمثال مفكريها وأحكام مصلحيها وقادتها. أما مصدر الاستقرار الحضاري بعد (الإسلام) فقد استمد العرب منه روح المنهج العلمي في تطوير ثقافتهم وإغنائها مع بقاء القيم الأخلاقية الأصيلة مؤثرة فعالة في بناء الثقافة العربية الجديدة.. فالوثائق الأدبية المعبرة عن روح تاريخ الأمة في صراعها وقدرتها على مواجهة التحدي كالقصص والأمثال والحكايات والروايات تعد "من أصلح الوسائل لتصحيح مزاج الأمة النفسي، فمن شهادتها يعمل سلوك الأمة في مختلف أحوال حياتها ودرجة قيمها ولا ريب في أن أخلاق الشعب تظهر من خلال جميع ما ينتج، ولكنه يجب أن يبحث عن هذه الأخلاق في آثاره الأدبية خاصة…".[1] فالثقافة العربية الأدبية، بهذا المفهوم، فيها الأمثلة الكثيرة المعروفة والوثائق الأصيلة التي تحدد موقف الإنسان من المجتمع من الحياة العامة عن طريق شعر الحكمة وتمجيد البطولة والفروسية العربية ذات الأخلاق الإنسانية الرفيعة، لدرجة صارت فيها أمثال تلك النماذج الشعرية والأدبية صورة ثقافية حية جديرة بالتقليد والمحاكاة… "فالتقليد يظل باقيا مهما تعرض إلى الانحلال، ولاشك في أن التجديد ينبعث منه حتى ولو رفضه…"[2] وهذا ما يفسر فعلا أصالة الثقافة العربية التي استمدت من منابعها الصحراوية الأولى جذور قوتها.. وأصالة قيمها الاجتماعية.. فالعربي الذي يتميز بالكرم الواضح والبسالة الواضحة والأخلاق والقدرة على التحسب والتحدي، صار، بتأثير هذه القيم، ومن خلال ديوانه الشعري الحر وتجربته الأدبية المبكرة.. شخصية إنسانية بالغة التأثير.. استطاع بفضلها أن يكون صوتا ثقافيا إنسانيا مؤثرا في ثقافات الأمم والمجتمعات الأجنبية وخاصة الأوروبية منها. وهذا المفهوم هو الذي دفع بمفكر كبير "كغوستاف لوبون" إلى التوكيد على حقيقة الوجود العربي العلمي والثقافي محددا، أهميته في رفد الثقافات الأوروبية بمصدر القوة والنماء بقوله : "وإذا قابلنا بين العرب والأمم الأوروبية، بدلا من مقارنتهم بالأمم التي غابت عن مسرح العالم، أمكننا أن نقول أنهم أرقى من جميع أمم الغرب التي عاشت قبل عصر النهضة أخلاقا وثقافة.. فلم تعرف جامعات القرون الوسطى في قرون كثيرة مصدرا غير مؤلفاتهم ومناهجهم، وكانت أخلاقهم أفضل من أخلاق أجدادنا بمراحل".[3] إذا كانت الحضارة نظاما اجتماعيا يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي من خلال موارده الطبيعية ونظمه السياسية وتقاليده الخلقية ومتابعته لعلومه وفنونه، حيث تبدأ الحضارة بالعمل، فتحرر في نفس الإنسان "دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.. فإن مصدر التراث العربي بعد الاستقرار الحضاري، كان قائما على البحث عن روح التطلع والإبداع والابتكار في حياة الثقافة العربية كلا حضاريا متطورا، مصورا عناصر ثقافة الأمة كافة، فالحضارة بهذا المفهوم، هي معيار تطور المجتمع، وهي المكان الذي تنطلق منه حركة التاريخ، وكل حضارة لا تحيا بالتاريخ هي حضارة فانية أو متأخرة.. فتاريخ الثقافة العربية، هو في الواقع، تاريخ الفكر العربي كما يتجلى في روائعه الأدبية الخالدة ومظاهره الفنية المتعددة وعلومه المختلفة.. فصرخات زهير بن أبي سلمى في الدفاع عن قيم السلم والوئام والتمسك بقدسية الأرض والإخاء بين أبناء العروبة قبل الإسلام.. وأصداء إباء النفس في شاعرية عنترة العبسي.. والتأملات الفلسفية في شعر طرفة ابن العبد.. وبذور التمرد الاجتماعي على بعض القيم البدوية والقبلية الصارمة في شعر صعاليك العرب من أمثال عروة بن الورد والشنفرى وتأبط شرا، والسليك بن السلكة.. والدفاع عن قيمة الإسلام وثورته ومثله العليا الجديدة في إسلاميات حسان بن ثابت الأنصاري.. ونزعة التمرد والسخرية في شعر الخطيئة.. وعزة النفس وتمجيدا لذات الرفيعة في شعر الفرزدق وأدب الاحتجاج والجدل في الشعر السياسي في العصر الأموي.. وحكمة العقل والوجدان في شعر أبي تمام.. وصرخة الألم وعنفوان الذات وتقديس البطولة في شعر المتنبي، والإحساس العميق بالعروبة في شعر الشريف الرضي وحنين الغربة والانتقام والثأر من الأعداء في روميات أبي فراس الحمداني.. والحب الصوفي والعشق الإلهي في شعر ابن الفارض.. وثورة المعري الفكرية وسخريته بالتقاليد البالية، وارتفاعه بالإنسان العربي صورة أصيلة من صور الكفاح وبناء المجد الحضاري وتحرره من رواسب الشك والتخلف وتراكم تناقضات العصر.. بالإضافة إلى الابتكار العلمي في مجال الفلسفة والعلوم واللغة والمنطق والطب والرياضيات والفنون والإنسانيات الأخرى، ما هي إلا نواة الثقافة العربية في حركتها التاريخية المستمرة ذات التأثير الفعال في حياة الفرد والمجتمع. فالإنسان هو مادة التاريخ وهو الذي يتحرك في التاريخ بكل سماته الحضارية التي تشمل الثقافة والأخلاق والقانون والدين والفن.. فلا وجود لحضارة بدون مظهر ثقافي لها، ومن هنا يبرز دور المؤرخ الذي يفترض فيه أن يعبر عن روح الأمة من خلال منهجه العلمي وفهمه للأحداث واستنباطه لواقعها، الذي لا يقف عند حدود الماضي فحسب بل يتحرك بقوة في بعث الماضي لفهم الحاضر فهما عصريا جديرا بالبقاء والديمومة المستقبلية في بحثه عن حقيقة الأحداث ومضامينها القومية والإنسانية وتأثيراتها الاجتماعية في سلوك الفرد والمجتمع.. فالمؤرخ يلمح معنى الماضي في الحاضر، وبما أن الحاضر يتغير فالمعنى الذي يراه المؤرخ في الماضي يتغير كذلك.. أي أن الماضي والحاضر مظهران متطوران لحركة اجتماعية واحدة.. تتفاعل فيها شخصية المؤرخ في الحاضر بوقائع الماضي "إن الماضي الذي يدرسه المؤرخ ليس ماضيا ميتا بل هو ماضي بمعنى ما زال يحيى في الحاضر.."[4] باعتبار أن التاريخ عملية انتقاء نابعة من البحث في اتجاهات علة الواقع في مدى ارتباطه بالتغير الثقافي الاجتماعي للبنية الاجتماعية الواحدة المؤلفة من الفرد –الذات أو الجزء- والمجتمع –مجموع الذوات أو الكل- فسلوك الفرد الاجتماعي يؤلف مع غيره من أنواع السلوك الأخرى وأنماط التفكير والثقافة، السلوك الاجتماعي العام للكل الثقافي ومن هنا كانت الرابطة بين حركة الثقافة وحركة المجتمع الأخلاقية والفنية والجمالية وثيقة وعميقة الجذور في حياة الإنسان وتطلعه الحضاري. فالتغير الثقافي، في ضوء هذا الفهم، يتفاعل مع التغير في المفهومات الاجتماعية الذي يعد وجها بارزا من وجوه حركة التاريخ في الثقافة والحضارة. فالبيئة الثقافية هي التي تمد الإنسان بنظراته المختلفة العقلية والفكرية وهي التي تحدد قيمة رصيده الثقافي قوميا وعالميا، وهنا يبرز عنصر "الابتكار والإبداع والخلق" بروزا ثقافيا، ذا قدرة وأهمية في تعيين عوامل التغير الاجتماعية القائمة على استيعاب ناضج لأنماط المعتقدات والأفكار التي تولد، في العادة، من أجل غرض اجتماعي حيث يبدأ التفاعل الحقيقي بين "التغير الثقافي والتغير الاجتماعي" نظرا لارتباطهما الوثيق بفكر الإنسان وانعكاساته في سلوكه، وأنماط حياته وأساليب تفكيره وأنواع تقاليده وقوة مصادر تراثه وأعرافه، أي في جوهر حرية قيمه الاجتماعية المختلفة.. كل ذلك من خلال لغة الثقافة التي تعد بحق الصوت الناطق لفكر الأمة والشعب، فإذا علمنا أن اللغة بمعناها الحضاري العام هي نشاط اجتماعي مكتسب أو سلوك اجتماعي متطور يخلقه الفرد والمجتمع على حد سوا، أدركنا العلاقة الوثيقة القائمة بين الثقافة باعتبارها المظهر المعنوي والفكري للمجتمع والنشاط الاجتماعي باعتباره أسلوب الاتصال المباشر بواقع المجتمع وأحداثه، فانتشار الثقافة هو العامل الفعال في التطور الاجتماعي "وإن ثقافة كل مرحلة اجتماعية تؤلف كلا متداخلا ومتماسكا، ولذلك فإن أية ناحية من نواحي الحياة العامة أو التبدلات التي تجري فيها لا يمكن دراستها إلا باعتبار أنها جزء من الكيان الاجتماعي الكلي والنشاط الاجتماعي العام.." لذلك فإن للبيئة بظواهرها الجغرافية والمكانية والمناخية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، أثرا في خلق نوع الثقافة بمعناها الاجتماعي، ولها الأثر نفسه، في قوته ودلالته، في تطوير المجتمع وفهم ظواهره المختلفة فهما حضاريا وعلميا.. وفي هذا المجال، يعد ابن خلدون أول مفكر اجتماعي في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية استطاع أن يربط بين واقع البيئة والواقع الثقافي في فهمه لحركة المجتمع، وقد هداه هذا الاتجاه إلى إدراك ظاهرة التغير الاجتماعي وفهم مادة فن الوصف الاجتماعي وموضوع علم الاجتماعي واستيعابه للفكر الإنساني وأثره في المجتمع أو بعبارة أخرى، أن الربط بين البيئة والسلوك الاجتماعي هو ربط بين علم الاجتماع والمعرفة، وهنا يظهر أثر الثقافة في تطور المجتمع وانتقاله من عصر حضاري إلى آخر، أو من مظهر اجتماعي معين وفق قيم ومثل معينة إلى مظهر اجتماعي آخر مغاير في قيمه ومثله للأول نظرا لاختلاف البيئة وما يحمله ذلك الاختلاف من تأثير بين واضح في ثقافته التي تحمل قيمه الأخلاقية وتعبر عنها، فالبداوة، وشبه الاستقرار، والاستقرار المكاني هي مظاهر حضارية ذات دلالات اجتماعية مختلفة مرتبطة بقيم أخلاقية تعبر عنها ثقافة كل مرحلة وتمدها بالديمومة والحياة والاستمرارية، وبذلك فإن التغير الاجتماعي يرتبط بالبيئة التي تنعكس قيمها في ثقافتها العامة، فالثقافة لا تضم في مفهومها الأفكار فحسب، وإنما تضم أسلوب الحياة في مجتمع معين وتخص السلوك الاجتماعي. إن ثقافة أي مجتمع من المجتمعات هي انعكاس للواقع الموضوعي لذلك المجتمع بكل ما فيه من ماديات ومعنويات، فالثقافة "مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه، فهي على هذا، المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته..". وحين تتكون ثقافة مجتمع ما بهذا الشكل فإنها تخلق تاريخه حيث تولد العلاقة بين الثقافة والتاريخ، فليس ثمة تاريخ بلا ثقافة، والشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتما تاريخه. فالثقافة العربية المعاصرة باعتبارها حركة تاريخية حضارية متأثرة ومؤثرة بالتغير الاجتماعي الذي تمر به الأمة العربية، علما أن ثقافة الفرد لا يمكن أن تنفصل عن ثقافة المجتمع كله، ولعل من أبرز سمات ثقافتنا المعاصرة تأكيدها على وحدة الشعب العربي من خلال دأبها المتواصل على خلق الإبداع وتحقيق الابتكار دون التفريط بخصوصيتها القومية القائمة على إحياء ثقافة جديدة مرتبطة بجذورها العربية والإسلامية العريقة. فلاشك أن وحدة الشعب الذي يعيش معا ويتكلم لغة واحدة هي نوع من وحدة الثقافة لأن التكلم بلغة واحدة معناه التفكير والشعور والانفعال بطريقة مختلفة عن شعب يستخدم لغة مختلفة.. فإذا أضفنا إلى هذه الحقيقة كون التاريخ العربي هو تجربة حضارية عربية لواقع الفكر العربي في مراحل تطوره وعصوره المختلفة، أدركنا أن وحدة الثقافة العربية المعاصرة ذات جذور نفسية واجتماعية ودينية قديمة مرتبطة بحياة الإنسان العربي وإننا يجب أن ننظر إليها على أنها وحدة متكاملة لا تقبل التجزئة أو الانشطار، حين ينظر إليها بروافدها ومنابعها ومصادرها المختلفة، نظرة تطلع وطموح نابعة من واقع الشعب العربي في صراعه مع عدوه وفي تحديه لعدوه من جهة، وفي قدرته على الانفتاح والأخذ بسبل التجديد والمعاصرة التي تزخر بها الحركات الثقافية العالمية ذات الروح الإنساني من جهة أخرى، إن ثمة علاقة وثيقة بين الشخصية باعتباره مظهرا اجتماعيا، والثقافة باعتبارها مظهرا حضاريا، فالثقافة هي المسؤولة عن الشكل الرئيسي للشخصية في أي مجتمع.. لأننا لا يمكن أن نتصور شخصية الفرد منعزلة عن شخصية المجتمع، فالأحداث الاجتماعية يقررها بلا ريب وعي المواطنين –أي شخصيات المجتمع- وإرادتهم التي تظهر في سلوكهم الاجتماعي المنعكس في ثقافتهم حين ينظمون قصيدة غنائية، أو يؤلفون ملحمة بطولية، أو يرسمون لوحة زيتية أو يكتبون رواية تاريخية، أو يبتكرون قانونا علميا أو يكتشفون علاجا طبيا. فالبحث في دوافع خلق الحدث تعد من مستلزمات الدراسة الاجتماعية والتغير الاجتماعي. إن الثقافة بمعناها العام هي دافع مهم من دوافع الحدث الاجتماعي في مدى ارتباطه بالأشكال السياسية والاقتصادية والدينية والنفسية القائمة. فالبحث في أفكار الناس وآرائهم وأفعالهم الواعية –كما تظهر في ثقافة عصرهم ومجتمعهم- يجعل مهمة فهم التغيير الاجتماعي حركة واعية إلى الحد الذي يستطيع فيه الفكر أو مصادر الثقافة تحديد بعض المشكلات الاجتماعية من خلال التفاعل والتبادل والابتكار بين أبعاد الحياة : المادية والروحية، أو إذا شئنا، بين منظور الثقافة الحسي المرئي ومنظورها المثالي المعنوي، في مختلف مجالات الواقع واستجاباته المتفاوتة للطبيعة والحياة، كالفن والعلم والدين والآداب والفلسفة والجمال والأخلاق والمثل العليا. إن التغيير الاجتماعي عنصر مهم من عناصر تكوين خصوصية الحياة الإنسانية حين تضج الحياة بالتفصيلات إذ تتسرب آثاره حينئذ إلى جزئياتها ووحداتها الزمنية المنظمة، فكل وحدة من وحدات الزمن تتضمن فعاليات ونشاطات مختلفة، ومن مجموع هذه التفاعلات والفعاليات المتداخلة فيما بينها، يولد التغيير الاجتماعي في سلوك الفرد وأخيرا في سلوك المجتمع. إن التغيير الاجتماعي يعني البناء أو الهيكل التأسيسي للنظام الاجتماعي في مدى تفاعله بأحداث الإنسان الخاصة والعامة، أو بعبارة أخرى في قدرته الفكرية على تحديد موقعه من الحياة والكون واتخاذه موقفا إيجابيا من تلك الأحداث وبذلك تكون الأفكار القوة الدافعة في حياة الشعوب والأفراد، حين تولد تلك الأفكار من إدراك الإنسان لذاته في واقع مجتمعه أو بيئته أو العالم الذي يحيط به. ولما كانت الأفكار بما تحمله من تأثير مباشر في شخصية الفرد وسلوكه الاجتماعي هي روح الثقافة في كل عصر من عصور التاريخ والحضارة، صار التغيير الاجتماعي جانبا ثقافيا له أهميته النفسية والفكرية في حركة المجتمع بصورة خاصة والتطور الحضاري لذلك المجتمع بصورة عامة.. فأنت قد تقرأ مثلا قصيدة ما لشاعر عربي محدث يمزج فيها نضاله الاجتماعي والطبقي والإنساني والقومي وهو مزيج يوحي به الفكر الذي يؤمن به الشاعر إنسانا وفنانا من وجهة نظر التحليل الأدبي والنقدي.. ولكنه سلوك اجتماعي يفرضه الإيمان بالمبدأ والعقيدة السياسية من وجهة نظر التحليل الاجتماعي للشعر باعتباره مصدرا مهما من مصادر الثقافية العربية، فالإنسان لن تكون له قيمة حقيقية بوصفه شخصية إنسانية إلا من خلال كفاحه لن يكون ذا خلق وخلال حسنة. وبذلك تكون القيمة الفنية في التجربة الشعرية مثلا، باعتبارها ضربا من الثقافة، ذات ارتباط بالمعيار النقدي والاجتماعي الأخلاقي في الوقوف على الجوانب الجمالية والإبداعية فيها. وهنا يرتبط العنصر الثقافي بالعنصر الاجتماعي ارتباطا عضويا يؤلف مع الاستعدادات العقلية الأخرى عند الأفراد جوهر الحضارة التي يفترض فيها أن تكون ذات وجه إنساني ومنها الحضارة العربية المتمثلة في سلوكها الاجتماعي وحركتها الثقافية ذات الجذور التاريخية العريقة التي أثرت في خريطة العالم وتأثرت به إلى الحد الذي لم يفقدها معه خصوصيتها القومية وأصالتها الفكرية. إن تاريخ ثقافات الشعوب الإنسانية هو تاريخ التغييرات الاجتماعية التي حدثت فيها في حقبة من حقب التاريخ، بتأثير عوامل سياسية ودينية واقتصادية لذلك يبدو أن استيعاب ثقافة شعب ما من الشعوب، يجب ألا ينفصل عن فهم التغيير الاجتماعي الذي أحدثها وتأثر بها ضمن حركة تاريخ العالم -كلا إنسانيا- فأنت لن تستطيع فهم تاريخ بلد ما –كما يقول المؤرخ البريطاني أرلوند توينبي- "إذا أنت فصلت أراضيه عن خريطة العالم وضربت صفعا عن كل ما نشأ خارج حدود هذا البلد بعينه..". فالفكر الخلاق القائم على الأصالة والإبداع والمؤمن بوجود الفرد عضوا فعالا في حركة المجتمع هو الوسيط المشروع بين الثقافة والتغيير الاجتماعي أو بعبارة أخرى هو عامل الارتباط الطبيعي بين المبدع وسلوكه الاجتماعي، بين الفكر وانعكاساته في الواقع، بين الثقافة بإطارها القومي والثقافي بإطارها الحضاري الإنساني الشامل. المراجع: 1-غوستاف لوبون (فلسفة التاريخ 2-جاك بيرك -العرب تاريخ ومستقبل