أحمد رباص يجب في البداية أن نعلم أن غوتفريد فيلهيلم لايبنتز (1646-1716) كان تلميذا وخصما لديكارت في آن واحد. قبل منطق “خطاب في المنهج” ، لكنه أضاف إلى مبدأ التناقض مبدأ العلة الكافية. إنه مبدأ عام في المنطق بمقتضاه لا تُعد القضية صادقة إلا إذا كان يمكن صياغة العلة الكافية بالنسبة لها، فالعلة الكافية قضية أو مجموعة قضايا معروف أنها صادقة، منها يمكن اشتقاق النتيجة منطقاً، ويمكن التدليل على صحة العلة بالتجربة، أو يمكن اشتقاقها من صدق قضايا أُخرى، وهذا المبدأ يُميز ملمحاً جوهريا للتفكير السليم منطقياً وهو البرهان. يمكن القول إن لايبنتز كان أول من صاغ هذا المبدأ ضمن المونادلوجيا التي تعنى بعلم الجواهر الروحية، برغم وروده في مذاهب سابقة عديدة للمنطق( عند ليوكيبوس وأرسطو مثلاً )، وكان هذا المبدأ موضوع رسالة شوبنهور( في الجذر التربيعي ) عام 1813م، وهو بطبيعته مبدأ عام للغاية له مجال واسع في التطبيق. بمقتضاه ليس كل ما هو ممكن في الرياضيات آنيا وواقعيا. من أجل أن يوجد شيء لا يكفي ألا يقتضي تناقضا، بل يتحقق فقط عندما يكون لديه علة كافية لوجوده، أي عندما يفترض وجود تلاؤم ونظام معينين. لم يضرب لايبنتز صفحا عن الفلسفة القديمة طالما أنه سعى جاهدا إلى التوفيق بين الحقائق الجزئية التي تحتويها الأنساق الفلسفية المختلفة واكتشاف ما هو أفضل فيها والاستفادة منها. وفي هذا السياق يقول: “اصطدمت بنسق جديد. يبدو أن هذا النسق يجمع بين أفلاطون وديمقريطس، بين أرسطو وديكارت، بين السكولائيين والمعاصرين، بين اللاهوت والأخلاق مع العقل، ويبدو أنه يأخذ الأفضل من جميع الجوانب، وبعد ذلك يذهب أبعد مما ذهب إليه من ذي قبل […]. من خلال الإشارة إلى آثار الحقيقة لدى القدماء، يمكن سحب الذهب من الوحل، الماس من المنجم والنور من الظلام، وسنكون فعلا أمام فلسفة خالدة.” الفلسفة الديكارتية، وفقا للايبنتز، هي بيت الحقيقة، ويصعب أولا على الباحث الاقتراب من هذه الأخيرة دون المرور من هنا ؛ لكنه سيحرم نفسه من المعرفة الحقيقية للأشياء عندما يتوقف عند هذا الحد. كان لايبنتز في البداية مفتونا بالطريقة التي فسر بها الديكارتيون الطبيعة ميكانيكيا، وذهب إلى حد رفض الاعتراف بالجاذبية النيوتونية؛ لأنها بدت له كخاصية غامضة. لكن دراسة أوثق لعلم الميكانيكا جعلته يفهم أنه لم يكن التفسير الأخير للأشياء، وأنه لا يوجد جوهران لهما طبيعة غير قابلة للاختزال، وأن الامتداد ليس هو جوهر الأشياء المادية. في الواقع، إذا كان هناك امتداد فقط في الأجسام، فستكون غير مبالية بالحركة. ويترتب على ذلك أن أصغر جسم سيمنح أكبر جسم في حالة راحة صادفه نفس السرعة التي حصل عليها، دون أن يفقد أي شيء من تلقاء نفسه. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن أن تكون المادة جوهرا ضمنيا، لأن المادة قابلة للقسمة إلى أبعد الحدود، وأصغر جسيمات يمكن العثور عليها تتكون دائما من أجزاء. أخيرا، القبول بأن العالم هو امتداد فقط يعني الاعتراف بسلبية الجواهر. لكن الوجود فعل. الجوهر قوة نشطة. إنه يحتوي وينطوي على الجهد؛ يحدد نفسه للفعل ولا يحتاج إلى مساعدة. وبما أن الذرات الفيزيائية ليست غير قابلة للتجزيئ سوى في الظاهر فإن تقسيم الامتداد، وصولا إلى حدوده الأخيرة، يختزل المادة إلى نقط رياضية لا وجود لها. الكائن الحقيقي هو “ذرة جوهر”، مبدأ غير مادي، قوة. كل هذه القوى، كل هذه الذرات الموجودة بشكل منفصل، أطلق عليها لايبنتز اسم المونادات. ما هي إذن هذه الوحدات الأخيرة؟ لنقرأ ما كتبه في هذا الشأن: “القوة، كما تقول، نحن نعرفها فقط من خلال آثارها وليس كما هي في حد ذاتها. أجيب أن الأمر سيكون كذلك لو لم يكن لدينا روح ولم نكن نعرفها؛ لكن روحنا المعروفة لنا لها تصوراتها وشهياتها، وطبيعتها موجودة فيها. ” المونادات هي بالتالي جواهر مماثلة للنفوس. إنها بسيطة لأنها غير مادية ولا يمكنها أن تفسد بشكل طبيعي؛ يمكن أن تبدأ فقط عن طريق الخلق، وتنتهي فقط بالإبادة. ويترتب على ذلك أيضا أنه لا يمكن تغييرها، وإلا فستكون قابلة للقسمة إلى أجزاء، وهي ليست كذلك. ليس لديها، لاستخدام تعبير لايبنتز، “نوافذ يمكن من خلالها الدخول أو الخروج”. ما يشكل المونادا هو تصور، تمثل التعدد ضمن الوحدة. كل مونادا هي مرآة الكون. إنها تمثل كل شيء، ولكن بطريقة أكثر أو أقل وضوحا. يجب، في الواقع، عدم الخلط بين الإحساس والإدراك، الذي يفترض الوعي. هناك في داخلنا ما لا نهاية له من الإحساسات الصغيرة التي لسنا على علم بها. كان لايبنتز يقول: “عندما أذهب في نزهة على شاطئ البحر، أسمع هدير الأمواج، لكنني لا أميز بين ألف صوت خافت لكل واحدة من الأمواج.” وفقا لهذا التصور تدرك المونادا الكون بأسره، لكنها لا تدرك بوضوح سوى الجزء المختزل إلى ما لا نهاية لهذا الكون والذي يتعلق بالجسم الذي تنتمي إليه. جسدنا، مثلا، هو الجزء من الكون الذي تدركه مونادانا، أي أن روحنا، قبل المونادات الآخريات، وهذه لا يتم إدراكها إلا من خلال الجسد ونسبتها إلى هذا الجسد. لذلك عندما أكون في غرفتي، فإن الشيء الذي يتماثل أمامي أولاً هو جسدي؛ ثم، أمام هذا الجسد، طاولة ؛ ومن حوله، أثاث، جدران ، نافذة، إلخ. تتمتع المونادا أيضا بشهية، أي بمبدأ الحركة أو التغيير الذي يميل إلى جعلها تنتقل من الإدراك الأقل وضوحا إلى الإدراك الأكثر وضوحا. ما يثير في الفرد الحاجة إلى التغيير هو أن تطوره الحالي لا يساوي أبدا ما تختزنه طاقته من إمكانات. عدد المونادات غير محدود. في الحقيقة، لا يوجد سبب كاف ليكون خلاف ذلك. اللانهائي هو الوحيد الذي يستحق قوة الله، خالق الكون. كل شيء ممتلئ. الفراغ هو العدم. لا شيء، عدم وجود، لا يمكن تصوره. علاوة على ذلك، في هذا اللانهاية من المونادات، لا يوجد منها اثنتان متشابهتان. إذا كان المكان قد خلق كائنين متطابقين، فلماذا وضع أحدهم هنا وليس هناك؟ ما السبب في خلقهما؟ إن مبدأ اللامتميزات، الذي نادى به لايبنتز في هذه المناسبة، هو نتيجة طبيعية لمبدأ العلة الكافية. بفضل مبدإ الاستمرارية، وهو نتيجة طبيعية أخرى لمبدأ العلة الكافية، تتطور الطبيعة أيضا من خلال سلسلة من الإبداعات المتتالية التي تقف وتتداخل مع بعضها البعض. لا يوجد حل للاستمرارية في درجات الكمال أكثر من الفضاء. يملك الكائن الأدنى من القوة ما تم تطويره وتحيينه لدى الكائن الأعلى. هناك تسلسل هرمي من الموانادات. في الأعلى، المونادا الكاملة، الله ، وفي الأدنى، موناادات بعدد لا حصر له وأقل كمالا بشكل متدرج. الذكاء هو فقط في حالة كمون عند الموانادات السفلى، في حين يتحول بدرجات غير محسوسة في الموانادات العليا إلى وعي واضح أو إدراك. عند الله، كل شيء راهن، الذكاء ذو سيادة. وإذا كانت المونادات عبارة عن جواهر منعزلة وبدون تأثير وتأثر متبادلين، لنا أن نتساءل: كيف تتحد لتشكيل عالم منسجم؟ وعلى وجه الخصوص، أي اتحاد يوجد بين مونادا الروح والمونادا التي تشكل الجسد؟. خلاصة القول أن مبادئ الموناد قادت ليبنتز نحو التفسير المتناسق للطبيعة، كما بين النفس والجسم، إذ تخضع الأولى لقوانين خاصةٍ والجسم له أيضاً قوانينه، ويعتبر أن الجسم والنفس يلتقيان لسببٍ واحد هو التناسق الأولي بين جميع الجواهر باعتبارها كلها تصورات لعالم واحد.