من حيث تدفقت مياه الدستور المغربي الجديد، أطلق قادة الجماعات والأحزاب السياسية الداعمة والمدعمة صراخهم ليحلق بعيدا في الأعالي ويملأ الساحات دويه المثير، ويشق الطريق ليرسم تضاريس أوطان من الشهوة والحظوة والتوظيفات المباشرة، والاستثمارات العطرة، وملامح شعب مسالم يمد قبضته لمزارع الأحلام المجهضة، ويحدق في رهبة الفراغ. كأنما خرجت هذه الأحزاب من غرفة نومها المؤثثة تحادث الذي لا يأتي وتكتب خرائط ذكية من مقاعد برلمانية ملونة بطعم السحر وحكومة مزركشة تهتدي بغوايات الريع المتقلب والعطايا المتلألئة، والمواقع والمناصب والمكاسب المستحيلة، يشع ألقها المتوهج من البعيد ويلهث إليها الجميع في ركض الهذيان عن طريق التوسل أو التسول والانبطاح والرقص المخلل على إيقاعات الولاء وطقوس السيد والعبد والعابد والمعبود. وابتكر السياسيون في محاولة للاقتراب من مفاتن الدستور الجديد ومضاجعة نسائمه الشهوانية مفهوما لا يخلو من ظلال التباسات ودلالات ضبابية خادعة، يتنفسون عبرها عبق الوقوف على حافات الامتيازات التي يفترض أن الدستور يحفل بها، والكنوز المحتمل أن يكشف أسرارها ويضع يديه على خراجها الشريد. هذا المفهوم هو:"التنزيل" فالجميع يوظفه بمناسبة وغير مناسبة، الحكومة التي ضاعت منها أوزارها وفقدت كل توازن لها، تدعي أن غايتها الأولى والأخيرة هي تنزيل الدستور الجديد، وحياتها بحياته، وكل الجماعات والقبائل السياسية تقول بصوتها الواحد إن هدفها الأسمى هو تنزيل الدستور، و الأحلاف أو التواطؤات الحزبية ترفع عقيرة فوضاها لتقول إنما خلقت لتتولى تنزيل الدستور، وكل الأبواب والأحضان المفتوحة مشرعة لتنزيل واحتضان الدستور، وهو ما حول التنزيل إلى متعة سائبة وإلى شجرة تتولى ستر الحقائق وحجب الغابة التي يرتعد لها قلوب الجبناء ويخشى رعبها العابرون. فماذا يعني التنزيل، وأي دلالات ترسو على سواحله، وماذا يعني توظيفه في هذا السياق بالذات، وما هي الخلفيات أو البواعث الكامنة وراء هذا التوظيف؟.إن اعتماده، بكل تأكيد، لا يخلو من دلالات وأبعاد ومن "حكمة" يجري لمستقرها، وواضح أن التوظيف يتجاوز الدلالة اللغوية البسيطة ليعانق الدلالة السياسية والثقافية والدينية ليحيا المفهوم تحت ظلالها جميعها، وتحتمي هي بجداره لتمنحه المعنى التائه الذي تلهث وراءه القبائل والأحزاب السياسية المنبهرة بفتوحات الدستور الجديد ، النص الرباني الذي يمد جناحيه ليغمر ناصية الأجواء. إن إحدى الإشارات التي يتضمنها لفظ التنزيل، تحيل إلى الوضع العلائقي المفترض بين "موقعين" أو "مكانين" أو "قطبين" هما "الأعلى" و"الأسفل"، "الفوق" و"التحت"، فالتنزيل يدل على "حركة" تتجه دائما من الأعلى إلى الأسفل، يكون فيها "الفوق" مصدر أو منبع وموئل الحركة وراعيها، ويقوم "التحت" كمصب أو نقطة وصول ونهاية خط سير واتجاه الحركة، ويعني هذا بالنسبة لموضوعنا أن الدستور يأخذ موقعه في الأعلى، والعلو أو السمو له أولويته الدلالية هنا، وحركته يجب أن تتجه نحو الأسفل، الأسفل الذي يظل مجرد وفاض أو وعاء للاستقبال، مع ما يفرضه هذا الوضع من دور سلبي ينهض به هذا الأسفل في مقابل الدور الإيجابي للأعلى صانع وخالق وموجه خط انحدار الحركة وهبوطها. هذا وجه أول من الدلالة، أما الوجه الآخر الملازم لها فيتصل بطبيعة الحركة ذاتها، إنها حركة هبوط ونزول وانحدار وسقوط أو وقوع، وطبيعي أن يكون عامل السرعة فاعلا قويا في هذه الحال، إذ إن أي حركة من هذا القبيل توجهها أو تقودها سرعة فائقة قد تنشأ مثلا بفعل الجاذبية أو ما شابه ذلك، لكن دلالة التنزيل تلغي هذا الاحتمال، وتحاصر الحركة ضمن سياق خاص، وطبيعة خاصة، فالحركة هنا محكومة بالمهل أي الهبوط أو النزول في مهلة، وبالتدرج أو النزول ببطء، وربما هذا البعد مقصود لذاته لأن حركة بهذه المواصفات تقي الدستور من قوة الارتطام بالأسفل/ الأرض، ومن الانكسار أو التشظي الذي قد يحوله إلى شقاوة من غبار. والتذرع بلفظة التنزيل تعني هبوط أو نزول النص/ الدستور على مهل وببطء كبير، وبالتدرج والتقسيط والتقطير والتحكم والتوجيه الذي لا يتيح أو يهيء له فرصة النزول أو الوقوع بسرعة أو على عجل.ومن هنا ندرك بالضبط لماذا تم اختيار لفظة التنزيل ولم يتم اختيار لفظة "الإنزال"، لأن الإنزال هو حركة من الأعلى إلى الأسفل كذلك لكن السرعة هي سمتها الكبرى، فهو يعني النزول أو الهبوط على وجه الدفعة ( دفعة واحدة) أو على وجه الجملة (جملة واحدة)، وبذلك يتضح المراد في أن اختيار التنزيل يحمل معنى استثمار وتوظيف حركة الدستور لسياقات تحد من فعاليته وسرعة تطبيقه أو تنفيذ بنوده، وإخضاعه لعمليات تدرج انتقائية في النهائية تخدم مصلحة الأعلى وتسير بسيره، والأسفل في هذه الحال لا يستحق أن يتدبر أو يتمتع بقوة النص أو تطبيقاته أو آثار وقوعه لأنه ليس مؤهلا لذلك، و من هنا يسوقنا الجوهر الدلالي نحو المطلوب أي الإقرار بالمقام العلوي الشامخ للنص/ الدستور، وإرادة التحكم في طبيعة حركة هبوطه أو نزوله ربما بهدف تعطيل تطبيقه. تضاف إلى هذا الوجه الدلالي طاقة الدلالة الدينية الكامنة في التنزيل، وهي إحدى التلوينات الطارئة على الدلالة اللغوية الأصلية، وضمن هذا الإطار تفرض سياقات العلاقة بين الأعلى والأسفل نفسها بقوة، إلا أن الجديد هنا هو ظهور عنصر آخر مضاف يؤثر في الدلالة ويغذيها بمعنى ما، ويدخل رواق العلاقة بين القطبين، وهو ما يمكن أن نسميه الوسيط، فالتنزيل في القاموس الديني حركة هبوط من الأعلى إلى الأسفل، لكن بواسطة وسيط أو أكثر، وفي تعريف الفقهاء ما يجلو هذه العلاقات، فالتنزيل هو ظهور أو نزول النص الديني المقدس بحسب الحاجة، بواسطة "ملك" يقوم بهمة وضعه في قلب ومتناول وسيط آخر" النبي" يتلقاه ويقوم بإظهاره وتبليغ حقائقه. فالتنزيل إذن عملية مشروطة باحتياجات أو اشتراطات ظرفية وخاصة، قد تعود في جانب منها إلى الوسطاء، ولكنها أساسا متصلة اتصالا وثيقا بالأسفل أي المتلقي النهائي المستهدف الفعلي والحقيقي من عملية التنزيل، وفي مجرى العملية كلها ما يفيد أن هذا المتلقي النهائي لا يطيق التنزيل أو الإنزال بصفة مباشرة بعيدا عن الوسيط، لأنه بحاجة إلى هذا الوسيط ليأخذ بيديه وينهض بمهمات تحديد الحقائق التي تتم الإشارة إليها عبر النص، وترجيح سياق الكيفيات التي ينبغي أن يتم عبر متغيراتها فهمه أو القبض على مفاتيحه. وتبدو الصورة واضحة في المشهد السياسي المغربي، فالجهة المانحة للدستور أو التي وضعته تتولى تنزيله عبر الأحزاب والقبائل السياسية كوسطاء (الأرواح الأمينة) قبل أن يبلغ الأسفل منتهاه (الشعب)، هذا الشعب الذي ليس بوسعه احتمال صدمة الإنزال إما لقصور فيه أو غفلة أو جهل، لذلك يتولى الدور عنه المصطفون من القبائل والجماعات السياسية. هكذا تتماس الصورة وتتلاحم مع الطقس الديني، وهو أمر طبيعي تماما، وامتداد فعلي وعملي لما يحمله الدستور من معالم دولة ثيوقراطية تضع الدين تاجا وهوية لها، وتعتبره المثال الوحيد الثابت في اعتباراتها السياسية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، ولذلك يبدو الدور هنا دينيا أكثر مما هو سياسي، ويبدو لفظ التنزيل مشحونا أكثر بحمولات دينية تغطي على أي بعد سياسي له، بحيث تتقمص الأحزاب والجماعات السياسية دور الأنبياء المكلفين بالتبليغ ورعاية الممارسة التنظيمية التي من شأنها ضمان الأولوية والصدارة للنص الصادر عن الأعلى( المركز)، وعلى ضوء هذا تتحدد هويتها وطبيعة النظام السياسي و المجتمعي الذي تسعى إلى بنائه وترسيخه. لا بد من التنبيه أيضا، أن حركة التنزيل هي ذات اتجاه واحد من الأعلى إلى الأسفل، وتضعنا عمليا أمام مركز أعلى واحد هو مصدر القيادة، كما تضعنا أمام مبدأ قار هو أن القمة دائما هي التي توجه القاعدة، وليس هناك تجانس بينهما على الإطلاق، بحيث لا يمكن تصور حركة تنزيل تتجه من الأسفل إلى الأعلى، وهذا يعني أن الأعلى دائما هو الذي يقرر في كل الأمور وهو الكلي المعرفة، والقادر على كل شيء، وأن الأسفل قاصر عن أداء هذا الدور وعاجز عن التمييز الصحيح أو التفكير السليم، وهذا مظهر لتراتبية تقوم فيه السلطة السياسية والدينية بتكريس الوضع الدوني للأسفل وقصر دوره على الاستجابة التلقائية وطاعة الأوامر. وتجدر الإشارة أخيرا إلى أن التأويل عادة ملازم للتنزيل، وقد يكون التحريف أول تحققاته الفعلية بالزيادة أو النقصان أو الخروج بالنص إلى حيث يفقد معناه الحقيقي ويضيع في متاهات معان بعيدة مختلة ومخالفة يتحول في ظلها إلى آلية لصناعة المغالطات وتيسير أسباب فساد المعنى. ومن المؤكد أن الذين يخوضون اليوم معركة التنزيل سيرفعون في ما بعد سلاح التأويل وسيعلنون "القتال على التأويل بعد التنزيل"، بهدف احتلال المواقع الأمامية في خضم الصيرورة التي توجه حركة التنزيل و العمل على إعادة إنتاج النخب نفسها المثقلة بالقيم الرجعية والمحافظة المشدودة إلى روح الماضي وإلى روح الوصولية والانتهازية التي لن تسهم إلا في إشاعة الفساد وثقافة الامتيازات والمصالح الآنية الخاصة داخل الدينامية الاجتماعية.