"الفلاح المغربي المدافع عن العرش" ما أشبه اليوم بالبارحة، يمكن لقارئ تاريخ المغرب السياسي المعاصر، و يستطيع المراقب المتتبع لمشاريع القوانين الانتخابية التي تشتغل عليها وزارة الداخلية و لمقترحاتها في اللقاءات التشاورية مع الاحزاب السياسية، أن يلاحظ بأن المغرب لا زال يرواح مكانه في مجال الاصلاح السياسي، وتغيير الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، بما يسمح للشعب المغربي لممارسة حقه بالمشاركة في صناعة القرار الذي يهم حياته السياسية و شؤونه الاقتصادية والاجتماعية، رغم أن محيطه الاقليمي مازال تحت تأثير الهزات الارتدادية للزلزال السياسي الذي ضرب المنطقة العربية، بفعل هذه الثورات العربية، التي قامت من أجل الحرية والديموقراطية والكرامة، و العدالة، و في استطاعة الملاحظ الساسي أن سيستنتج أن هذا البلد مازال بعيدا عن الخروج من هذه الدوامة الاصلاحية السيزيفية ، التي دخلها منذ الاستقلال، حيث لا يكاد المغاربة يصدقون خطابات وتصريحات المسؤلين في الدولة، حول الرغبة في الاصلاح و التغيير، حتى يفاجؤوا عند شروع هؤلاء المسؤلين في العمل، بأن الامر ليس سوى جعجعة تستهدف: بالدرجة الاولى كسب الرأي العام الخارجي و طمئنة القوى الفاعلة على الساحة الدولية، والظهور أمامهما بمظهر الدولة الديموقراطية الاصلاحية، ناسين أن هذه القوى لها من الوسائل المخابراتية و الامكانات البحثية العلمية ما تستطيع به كشف زيف ذلك الادعاء و تلك الشعارات، و تقصد بالدرجة الثانية الانحناء أمام العواصف السياسية والقواصف الاجتماعية ، التي تهب بين الفينة والاخرى وتهز قلاع المخزن ، و تهدد مصالحه في السلطة والحكم والثروة و المال، مما يفرض الحاجة الى اطلاق الوعود بالاصلاحات لكسب الوقت، ريتما تمر تلك العواصف و تهدأ تلك القواصف، لتعود الامور الى سابق عهدها في ممارسة الفساد وتكريس الاستبداد ، باستغلال وقمع العباد و نهب ثروات البلاد. وينسى هؤلاء المسئولين ووعودهم و التزاماتهم، الى أن تندلع أزمة اجتماعية أخرى أو ينفجر زلزال سياسي أخر، ليستيقظوا و يعيدوا على مسامع الشعب المغلوب على أمره نفس الخطابات وعين الوعود بالاصلاح والديموقراطية و الحرية، ناسين أنهم قد أخلفوا تلك الوعود سالفا ، و أن ذاكرة الشعب وقواه الحية قد تتناسى لظروف معينة ، ولكنها لا تنسى، و أن الشعب قد يمهلهم، ويمنحهم الفرصة تلوى الاخرى لعلهم يستدركون ما فات، وعساهم يستوعبون دروس تلك الازمات الاجتماعية ويأخذون العبر من تلك الزلازل و الانفجارات السياسية، داخلية كانت أو خارجية، و لكن الشعب لن يهملهم الى ما لا نهاية، و أن صبره وتحمله سينفذ لا محالة في لحظة من اللحظات. الظروف التاريخية لاعادة انتاج النخب القروية مناسبة هذا الحديث هوالنقاشات الدائرة حول الترسانة القانونية الانتخابية التي تقوم وزارة الداخلية باعدادها، و تسعى الى تمريرها، بداية في لقاءات مغلقة مع الاحزاب السياسية، و نهائيا عبر المصادقة البرلمانية عليها، لتلبسها زي الشرعية والمشروعية. هذه المساطر القانونية لا تختلف في شيئ عن تلك التي قد سبق العمل بها منذ الاستقلال، سواء في أهذافها أو حتى في بعض اجراءاتها. تلك القوانين الانتخابية التي هندست منذ ذلك الوقت من أجل اعادة النخبة البدوية( أبناء الأعيان والقياد والباشاوات و الضباط السابقين في الجيش الفرنسي و المقدمين و الشيوخ ..) الى واجهة وساحة الفعل السياسي، تلك النخبة التي شكلت السند الاداري، والرديف الاجتماعي للاستعمار في العالم القروي. و بعدما تمكنت الحركة الوطنية من ازالتها من مسرح الفعل السياسي، من خلال هيكلتها للادارة المغربية المحلية و الاقليمية، كمقدمة لعزل تلك التركة الاستعمارية اقتصاديا، ثم خنقها اجتماعيا، لتصفيتها نهائيا. الا أن الحركة لوطنية لم تتمكن من استكمال، هذا المخطط ، حيث وقفت عند مرحلته الاولى، المتمثلة بتقويض سلطة هؤلاء الاعيان اداريا خلال فترة حكم محمد الخامس، ليتدخل النظام لوقف ذلك في شخص المرحوم الحسن الثاني، ودراعه السياسي رضى كديرة، بعد وفاة المرحوم محمد الخامس، الذي كان دائما مؤيدا لكل البرامج التي تسعى الحركة الوطنية الى انجازها، كما كان غير مرتاح لهذه النخبة القروية من الأعيان، الذين اكتوى بنارهم، حيث كان أغلبهم مؤيدين لعزله و متواطئين على نفيه سنة 1953، ورافضين لعودته سنة 1955. فهذه النخب التقليدية القروية راكمت في ظل الاستعمار الضيعات الفلاحية الشاسعة على حساب الأملاك الجماعية لجماهير الفلاحين ، الذين كانت تشغلهم كعبيد و خماسة ورباعة و مياومين. وراكمت معها نفوذا كبيرا في أوساط تلك الجماهير الفقيرة. و اعادة هذه النخب السياسية القروية، التي كانت عميلة للاستعمار لتسير في فلك المؤسسة الملكية، بعدما تم فك الارتباط بين الحركة الوطنية من جهة، و النظام الملكي من جهة ثانية، وانشقاق هذه الحركة (حزب الاستقلال)، حيث رفض الشق اليساري منها ( الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) أي تعامل مع القصر، و حيث قبل الجناح المحافظ منها ( حزب الاستقلال الحالي) بالسكوت والتواطئ، حفاظا على مصالح بورجوازيته الاقتصادية في المدن. تلك العودة أو الاعادة لتك النخب التقليدية الى المشهد السياسي تم من خلال الأحزاب الادارية التي ظهرت على المسرح السياسي عبر مراحل ( الحركة الشعبية – الاحرار المستقلون – الفيديك – التجمع الوطني للأحرار – الاتحاد الدستوري – الأصالة والمعاصرة..) . تعدد هذه الاحزاب ومشتقاتها التي يشرف رجال الداخلية على تشكيلها. و تنوعها و اختلاف أسماءها و هياكلها و المراحل التي ظهرت فيها، ليس سوى انعكاسا لتطور تلك النخبة الريفية ، وامتدادها الى المدن و الحواضر في ما بعد ، ليتم ترييفها سياسيا(la ruralisation politique) بعدما تم ترييفها اجتماعيا وثقافيا، من خلال الهجرة القروية الكبيرة في فترة من الفترات. و راجع كذلك لاختلاف الأدوار المطلوب أداءها من هذه الاحزاب في كل مرحلة. و المتمثلة في الدفاع عن مصالح المخزن و استئثاره بالحكم واستبداده بالسلطة، نخب بطبيعتها و أصولها وبنيتها الاجتماعية وثقافتها السياسية، تقبل بدور الحارس و البواب (الشاوش) في باب القصر، و قنوعة بفتات الامتيازات والريع الذي تتحصله من عرق و قوت الشعب و تناله مقابل خدماتها السياسية في ضمان استمرارية الفساد و تأبيد الاستبداد. عملية اعادة هذه النخبة القروية الى مسرح العمل السياسي، ، لتضع نفسها رهن اشارة المؤسسة الملكية ذون شروط، مما كانت الحركة الوطنية بكل فصائلها تطالب به من دمقرطة للحياة السياسية و فتح للباب أمام قتسام السلطة والثروة واشراك للشعب في ذلك ، من خلال مؤسسات منتخبة بنزاهة وديموقراطية ، كان المرحوم الحسن الثاني يهذف من خلال هذه الأحزاب الى تأثيث وتزيين واجهة المغرب السياسية، من خلال ديموقراطية شكلية تغلف الجوهر الاستبدادي لاحتكار الحكم والهيمنة على الحياة السياسية، وفعلا استطاعت هذه النخب أن تنجز هذه المهمة باخلاص ، وأن تؤدي ذلك الدور بامتياز، لذلك أغدق عليها النظام المناصب العليا والامتيازات الكبرى، و أطلق يدها في الاستحواذ على ثروات البلاد و نهبها دون حسيب ولا رقيب، لتنتقل بما راكمته من الثروات المنهوبة الى المضاربة و الاستثمار في قطاعات العقار والتجارة و التصنيع في المدن والمراكز الحضرية، حيث تحولت الى مافيات عقارية و لوبيات سياحية و مالية، فأصبحت قادرة على منافسة أو بالأحرى هزم البرجوزية الوطنية بالمدن ، التي عرفت نموا مهما بعد الاستقلال بعد استحواذها على المجالات الاقتصادية التي كانت حكرا على الرأسمال الاستعماري الفرنسي. و مقابل ذلك كان النظام يفرض حصارا اقتصاديا على النخب الحضرية من موظفين و تجار و رجال أعمال، عن طريق الضرائب والجبايات المختلفة ، كما أحكم عليها الخناق سياسيا و أمنيا. القوانين الانتخابية واعادة انتاج وضعية"الفلاح المغربي المدافع عن العرش" النظام في سياسته هذه كان ينطلق مما أخذه من خلاصات و استشارات من تلك الدراسات الاقتصادية و الأبحاث الاجتماعية و التقارير السياسية ، التي أنجزها مجموعة من الباحثين والضباط والمراقبين المدنيين الاستماريين السابقين، الذين بقي بعضهم يشتغلون كتقنيين و مستشارين بوزارة الداخلية، بعد الاستقلال، و الذين كانوا بالفعل عقلها المدبر، طيلة فترة الستينات الى السبعيناات من القرن الماضي، من امثال الكولونيل فيرلي – أوليفيي لانج – كامي سكالابر - ريمي لوفو وغيرهم . وهنا تأتي أطروحة ريمي لوفو "الفلاح المغربي المدافع عن العرش" *وهي بالمناسبة دراسة في غاية الأهمية حول النخب المحلية و الحراك الاجتماعي و السياسي في مغرب ما بعد الاستقلال. لقد كانت هذه الأطروحة بمثابة التشخيص الميداني للحياة الاجتماعية و السياسية بالمغرب، التي بناء عليها وضع النظام خطة العمل، التي مكنته من تحجيم النخب الحضرية ذات التوجه الوطني و اليساري، وفي نفس الوقت فتح المجال لعودة النخب القروية التقليدية، التي سبق لها أن وضعت نفسها في خدمة الاستعمار. و هذا النوع من الدراسات هي التي نبهت النظام مثلا الى ما قد تشكله عليه المخططات الاقتصادية التي وضعته حكومة الاستاذ عبد الله ابراهيم سنة 1958، التي نهجت سياسة وطنية تقوم على بناء صناعة وطنية ثقيلة و اصلاح زراعي، و تعميم للتعليم والخدمات الصحية، و تأميم للشركات والمؤسسات الاقتصادية والخدمية، وبناء للبنيات التحتية. هذه المخططات والبرامج التنموية، هي التي أثارت حفيظة النظام و انتباهه الى ما قد تشكل عليه من خطر في المستقبل، من خلال افرازها وتكوينها لأجيال و نخب قد لا تقبل بنظام ملكي يحتكر كل السلطات، ويهيمن على صناعة القرار السياسي بشكل كامل. فسياسة التصنيع مثلا، من شأنها افراز وتشكيل طبقة عمالية، لا تؤمن الا بالملموس من الفكر، قد يجعلها أرضا خصبة للفكر الاشتراكي، ومجالا ملائما للتأطير السياسي ذي الأفق الجمهوري، من حيث نمط الحكم المنشود لديها. و بعد أخذ النظام بخلاصات بعض تلك التقارير والاستشارات والدراسات، قام باقالة هذه الحكومة الوطنية، ليفسح المجال لحكومات متتالية، أول ما شرعت في القيام به هو نقض و الغاء ما تم وضع اسسه من طرف حكومة عبد الله ابراهيم، ثم سارت في اتخاذ جميع الاجراءات السياسية والادارية والقرارات الاقتصادية، التي تسمح بعودة النخب القروية، ذات النوفوذ الواسع في البوادي وسط الفلاحين الفقراء والاميين، الى مجال الفعل السياسي، لان الفلاح بطبعه و أميته وجهله وفقره يعتبر البيئة الملائمة لانتشار الأفكار الخرافية الاستسلامية والسلوكات السلبية، التي لا ترى في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية التي يعيشها حامليها، الا قدرا مقدرا . وبذلك يكون الفلاح المغربي مخلصا لنظام حكمه، مدافعا عن الجالس على عرشه. في هذا الاطار سارت كل الحكومات المتعاقبة، تتبني من المخططات الاقتصادية ما يساهم في استحكام تلك النخب القروية في مقدرات البلاد الاقتصادية، حيث تم الشروع في سياسة بناء السدود، كما تم اعفاء القطاع الفلاحي من الضرائب الى ما لا نهاية، رغم أنه يشكل القطاع الاقتصادي الأول في الناتج الداخلي الخام، و قرار الاعفاء الجبائي هذا، ليس لصالح جماهير الفلاحين الفقراء، الذي لا يملكون أصلا ما يمكن أن يدفعوا عليه الضرائب، بل استفاد و يستفيد منه كبار الاقطاعيين سابقا، و كبار ملاكي الضيعات الفلاحية العصرية الكبرى حاليا، التي توجه منتوجاتها الى الأسواق العالمية مباشرة. كما أغدتقت وزارة الفلاحة على هؤلاء بالدعم التقني، و بالأموال الطائلة كمساعدات من خزينة الدولة. كما تبنى المخزن ، من خلال هذه الحكومات، من السياسيات الاجتماعية ما يجعل العالم القروي مرتعا للجهل والامية والخرافة و الأمراض. و يتخذ من الاجراءات الادارية ما يقوي قبضته الرقابية و الأمنية على البلاد، و من القرارات السياسية ما يضيق به الخناق على كل من لا يوافق النظام في سياساته، لذلك فتح الباب على مصراعيه للأحزاب الادارية على تأطير العالم القروي، حيث يضمن لها الفوز الساحق بأصواته، لتتحول جماهير الفلاحين الفقراء الى جيش احتياطي لحسم المعارك السياسية ضد المعارضة في الانتخابات والاستفتاءات. فهذه الحكومات والاحزاب الادارية لم تكن و لا مكن أن تكون في يوم من الايام جادة في تعميم التعليم والصحة و البنيات التحتية في العالم القروي، لانها تعلم علم اليقين أن محاربتها للامية والجهل والفقر، هو في الحقيقة محاربة لنفسها، حيث ستحفر قبرها بيدها، فالمواطن القروي اذا تعلم و وعى ، و اشتغل و صح، من المستحيل التحكم فيه و اخضاعه. العالم القروي كمجال ل"الشرعية الشعبية والديموقراطية " للمخزن في هذا الاطار السياسي و السياق الاقتصادي والاجتماعي ، صارت القوانين الانتخابية، من تقطيع للدوائر الانتخابية و أنماط للاقتراع و لوائح انتخابية، وقوانين منظمة للمجالس المحلية منذ الاستقلال الى اليوم ، من الأدوات التي يوظفها المخزن من أجل التحكم في الحياة السياسية، و صنع الخرائط السياسية، و ما تفرزه من نخب مدبرة للشأن العام المحلي والوطني، من برلمانات و حكومات ومجالس جماعية: محلية واقليمية و جهوية. وغرف مهنية. انها تهذف الى ضمان استمرار و اعادة انتاج وضعية "الفلاح المغربي المدافع عن العرش". فالدولة المغربية أو بالاحرى المخزن المغربي في سعيه وحرصه الدائم الى احتكار صناعة القرار السياسي ، لم ولن يسمح بتاتا بالتأسيس لحياة سياسية طبيعية قائمة على أحزاب سياسية حقيقية تنبثق من صميم المجتمع و من عمق الشعب، لان هذا المخزن يعاني من عقدة فقدان الشرعية الوطنية و الشعبية، منذ وفاة المرحوم محمد الخامس، الذي لا يجادل مغربي في كونه يملك الشرعية الوطنية والشعبية، لذلك كان دائما قريبا الى الحركة الوطنية في غالبية طروحاتها الاصلاحية. ومع المرحوم الحسن الثاني، و في ظل عدم توفره على الكريزما الشعبية و الشرعية الوطنية التحريرية التي كانت لوالده، عمل على استدعاء الشرعية التاريخية بشكل كبير و توظيف الشرعية الدينية بشكل مكثف، وقام بدسترتها مند 1961، محاولا الاستغناء بها عن الشرعية الشعبية الديموقراطية. واذا كان فعلا قد تمكن من استعادة الشرعية الوطنية التحريرية، باسترجاع الصحراء من خلال المسيرة الخضراء سنة 1975، لينافس بها أحزاب الحركة الوطنية. ونزع بها هذه الورقة المهمة منها. فان عقدة الشرعية الشعبية الديموقراطية الغائبة، ظلت دائما حاضرة وبقوة في كل خطابات و سلوكات المخزن السياسية، وهذا ما انعكس في مختلف الدساتير التي عرفها المغرب منذ دستور 1961 الى دستور 2011، و تتجسد في مختلف الاجراءات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمخزن، و منها القوانين الانتخابية. لذلك كان المخزن قد جعل العمل السياسي يتمركز حول خدمته، و ليس خدمة الواطنين والجماهير الشعبية، وهذا هو محور الصراع بينه وبين أحزاب الحركة الوطنية واليسار سابقا، والحركة الاسلامية حاليا. فالمخزن لا يقبل بأحزاب و منظمات سياسية، ومجتمع مدني يستمد شرعيته من الشعب ويسعى الى خدمة الشعب، لان المخزن يعتبر نفسه وصيا على الشعب، وبالتالي هو الذي يملك الحق في التأشير والترخيص لممارسة الانشطة السياسية والمدنية. ولما رفضت أحزاب الحركة الوطنية هذا التصور للعمل السياسي، الذي لا غاية له الا ارضاء المخزن وليس الشعب، و رفضت الانصياع للرغبات المخزنية، عمل هذ المخزن على تشكيل أحزابه الادارية بداية من تلك النخب التقليدية من الاعيان العاملين سابقا لصالح الاستعمار، و ثانية من أبناءهم الذين تلقوا تعليمهم في مدارس الاستعمار. هذه النخب المستعدة للعمل مع المخزن، كما كان الامر قبل الاستعمار، الذي تورطت في التواطؤ معه ضد الملك محمد الخامس ، حيث فقدت اخر شعرة تربطها بالوطن، مما جعلها تعيش مرحلة حارجة مند الاستقلال الى غاية وفاة محمد الخامس، ليقدم لها المرحوم الحسن الثاني قارب النجاة باعادتها للعمل السياسي من جديد لمواجهة أحزاب الحركة الوطنية، وبذلك قبلت بخدمته بكل اخلاص، لكي يغفر لها ذنب تواطؤها مع الاستعمار ضد محمد الخامس، هكذا اعتمد المخزن على نخب تقليدية، و عرقل بها مشروع تحديث المغرب سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. فهذه الاحزاب الادارية المنحدرة من هذه النخب التقليدية لها مهمة واحدة و وحيدة، تتمثل في خدمة النظام المخزني و التصدي لكل مطالب الاحزاب والحركات السياسية المنبثقة من عمق الشعب، المتمثلة في الديموقراطية والكرامة والحرية والعدالة. ولذلك فسح لها المجال في العالم القروي، الذي كان يشكل 80% من مجموع سكان المغرب سنة 1956، حيث تحول الى خزان هائل للأصوات الانتخابية لهزم الاحزاب الوطنية في المدن، الى جانب الدعم اللامحدود لهذه الأحزاب من طرف أعوان وزارة الداخلية من قياد وشيوخ ومقدمين، مستغلة ظروف الفقر والجهل والامية والمرض و المراقبة الامنية الشديدة، حيث تحولت البادية المغربية الى مجال لتثبيت الشرعية الشعبية للمخزن. و أصبح " الفلاح المغربي" خط الدفاع الأول عن العرش، منذ بداية الستينات الى غاية منتصف التسعينات. و اتخذت الدساتير والقوانين الانتخابية منذ الاستقلال متاريس و كوابح في وجه النخب الوطنية الحضرية، كي لا تهيمن على المؤسسات المنتخبة، من برلمان ومجالس جماعية. مما جعل هذه المؤسسات ذات طابع بدوي بالمعنى السلبي للبداوة، حتى بعدما أصبح عدد السكان الحضريين بالمغرب يتجاوز ستين بالمائة. من"الفلاح المغربي " الى "المواطن المغربي" والمخزن عندما يسعى اليوم الى اعادة انتاج هذه الوضعية يعلم علم اليقين أن أفات الجهل والامية والفقر و المرض، و ما يترتب عنها من درجة الصفر في الوعي السياسي والسداجة و الخوف واللامبالاة السياسية، وعدم الاهتمام بالشأن العام، هي الظروف و العوامل الرئيسة في جعل "الفلاح المغربي" طيعا وسهل الخضوع لنخب الاعيان التقليديين وسماسرة الانتخابات. لذلك يعمل هذا المخزن على ضمان استمرار تلك الظروف في العالم القروي. بل و يعمل على نقل تلك الشروط ، وخلق نفس الظروف حتى في ضواحي المدن، بعدما اكتسحتها أمواج الهجرة القروية خلال السينيات والسبعينيات والثمانينيات، مادامت تلك الظروف توفر للمخزن شروط انتاج "مواطن مغربي" على نمط "الفلاح المغربي "، فلما لا يتم نقلها واستنساخها في المدن، وبوسائل جديدة . فالمهم هو الحفاظ وضمان نفس النتائج ( غياب الوعي السياسي – الفقر - اللامبالاة – الخوف..). لذلك ف" الفلاح المغربي" الذي تحدث عنه ريمي لوفو ، لم يعد فلاحا فقط، بل تحولت مختلف الفئات الاجتماعية و المهنية بحكم المخططات الاقتصادية والسياسات الاجتماعية والثقافية والادارية المطبقة عليها الى وضعية "الفلاح المغربي" المطلوب منه "الدفاع عن العرش". فذلك "الفلاح" الذي يصطلح عليه اليوم مجازا "المواطن المغربي" لم يعد مستقرا بالعالم القروي ، بل نزح الى المدن في اطار موجات الهجرة المشار اليها سلفا. و ذلك "الفلاح" لم يعد يشتغل بالفلاحة فقط ، وانما أصبح يمارس مختلف الحرف اليدوية والمهن ، كما يمكن أن يكون موظفا عموميا أو عونا اداريا، دون أن يتمكن من كسب قوت يومه، أو قد تحول الى متسول أو بدون شغل، ولم يعد يقطن الدواوير والمداشر الريفية فقط ، وانما يسكن كذلك الأحياء الصفيحية و شقق السكن الاقتصادي و الاجتماعي، لذلك لم يتوجه المخزن الى محاربة الامية و تعميم التعليم الابتدائي بالعالم القروي الا بعد ضعوطات المؤسسات المالية الدولية والمنظمات الانسانية عليه في منتصف التسعينات، عندما أصبح محاربة الامية و التعليم الاساسي والبنيات التحتية مطلبا للشركات الرأسمالية العالمية، من أجل أهداف تجارية صرفة. و المخزن في اطار استحضاره لهذه الضغوط الدولية، و من أجل ضمان استمرارية انتاج ظاهرة درجة الصفر من الوعي السياسي و اللامبالاة السياسية، فانه غير من تكتيكه و وسائل عمله، فرغم شروعه في محاربة الامية وتعميم التعليم الاساسي والبنيات التحتية، فانه يعمل كل ما في جهده لضمان اللامبالاة و السداجة السياسية و تأمين سيطرته و هيمنة نخبه السياسية على العالم القروي والحضري على السواء بوسائل جديدة. ومنها الدستور والقوانين الانتخابية. والسيطرة على الاعلام العمومي و المؤسسة التعليمية في حد ذاتها. القوانين الانتخابية و ضمان الافساد من أجل ادامة الاستبداد. النظام المخزني انطلاقا من عقدته المزمنة من الشرعية الشعبية التي أصبحت اليوم عنوانا للانظمة الديموقراطية، و بسبب خوفه الدائم من كل المبادرات و المشاريع السياسية التي تنبثق من المجتمع، و انطلاقا من عدم ثقته في ما يتمتع به من قوة قهرية و إمكانيات مالية و لوجيستيكية، فانه يعمل باستمرار على التسييج المحكم لاحتكاره للسلطة بالنصوص الدستورية، وبالشرعية الدينية والتاريخية، بشكل لا يسمح للمبادرات السياسية الشعبية من أن تشاركه و لو في جزء يسير من السلطة والحكم، فالمخزن بطبيعة بنيته السياسية لا يسمح للأحزب السياسية أن تشاركه ولو في فتات من سلطته، الا اذا كانت ضعيفة أو تكاد تفقد قوتها الشعبية، أو في حالة رغبته و سعيه لحرق رصيدها الشعبي، من خلال توريطها في التدبير الشكلي لبعض الملفات الاجتماعية، التي سيجلب عليها فشلها المحتوم في ذلك غضب ونفور الجماهير الشعبية منها. وعندما يضطر الى التنازل على فتات من السلطة من أجل هذا الهدف، فانه يتخذ من الاحتياطات الادارية، و يضع من المتاريس التشريعية ( قانون الاحزاب – مدونة الانتخابات – التقطيع الانتخابي والاداري- أنماط الاقتراع ..) ما لا يسمح للاحزاب ذات النفوذ والعمق الشعبي، حيث النخب الوطنية التحديثية ، من الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان أو الاغلبيات في المجالس الجماعية، وفي نفس الوقت يسهل عليه التلاعب بالنتائج لصالح أحزابه الادارية، حيث النخب التقليدية القروية بتزويرها لصالحها و اكتساح لنتائجها ، و تشكيل الأغلبيات بالمؤسسات المنتخبة. فالمخزن يعمل بكافة السبل على تشتيت المشهد الحزبي و تمزيقه ، أكثر مما يسعى إلى ترشيده وتشكيل التكتلات السياسية الكبيرة. وفي هذا السياق مثلا لا يشترط مستوى تعليميا مهما في الترشح للبرلمان، رغم أن مهمة البرلماني، كمشرع ( مناقشة القوانين – الاتفاقيات الدولية – ميزانية الدولة..) تقتضي على الأقل مستوى البكالوريا، لذك يتم السماح لقطعان من الاميين باكتساح المؤسسة التشريعية. وفي تقسيم الدوائر الانتخابية، يتم تقطيعها على مقاس أشخاص معينين، كما يتم ذلك في اطار اختلال فظيع على المسوى الديموغرافي بين الدوائر القروية و الدوائر الحضرية، و من حيث عدد المقاعد المخصص لكل مجال على حدى، فرغم أن ساكنة العالم القروي لا تشكل حاليا سوى أقل من أربعين بالمائة من ساكنة المغرب، فانها هذه الساكنة تمثل في البرلمان بحوالي ستين بالمائة من المقاعد في مجلس النواب، و حوالي ثمانين بالمائة في مجلس المستشارين،. و نفس الامر ينطبق على المجالس الجماعية، حيث يسمح للاميين بالترشح لرئاسة جماعات تتوفر على ميزانيات بالملايير، وعلى أطر و كفاءات تقنية عالية ( مهندسين – دكاترة- تقنيين – اداريين ..)، وكل ذلك من أجل تشكيل مجالس من الاميين القابلين للخضوع للتعليمات المخزنية من الادارة الترابية. بل الأدهى والامر هو عندما يتم تقطيع المدن الكبرى على شكل دوائر انتخابية عديدة ، حيث يتم الحاق الجماعات القروية بكل جزء من المدن المقطعة أوصالها، حتى يضمن القائمون على هذه السياسة هيمنة الضواحي و الهوامش القروية على المدن، لتكون النتيجة برلمانيين قرويين من هوامش المدن الريفية يمثلون مراكز المدن في البرلمان، أو مجالس بأغلبيات بدوية تسير المدن. لذلك ليس غريبا أن نجد منطقة حضرية حديثة بامتياز مثل كليز بمراكش ، يمثلها برلمانيون يفوزن بأغلبية أصواتهم من الجماعات القروية المجاورة لكليز، والتي تم جمعها بها في نفس الدائرة الانتخابية البرلمانية. مع العلم أن ساكنة المدن الحضرية رغم كثرتها العددية، غالبا ما تكون عازفة عن المشاركة في الانتخابات، نظرا لعدم جدوائيتها، في حين تشارك ساكنة المناطق القروية بكثافة رغم قلة عددها، لاستغلال سماسرة الانتخابات لظروف الفقر والامية و الجهل فيها لشراء الاصوات، مما يقلب الموازن في النتائج لصالح الفائزين بأصوات الهوامش القروية. وهذا ما يسمح بتشكيل الأغلبيات بكل سهولة ويسر و بدون عراقيل. مما يترتب عنه مغرب يدار ويسير بنخب قروية و بقرار سياسي بدوي. وهذا ما ينطبق على الاستفتاء الاخير حول الدستور، الذي بدوره يعتبر "دستورا بدويا"، بما تعنيه البداوة من تقليدانية و أمية و رعب مخزني و زبونية ومحسوبية، وليس غيرها من القيم الايجابية. أما نمطي الاقتراع المعتمد سابقا و حاليا ، فيسيران في تحقيق نفس الاهداف، التي تسمح للمخزن بالتحكم في كل صغيرة وكبيرة في الانتخابات ، فالنمط السابق القائم على الاقتراع الفردي، يعطي الفرصة بفوز الافراد المتعتمدين على نفوذهم القبلي أو المالي أكثر من نزاهتهم و كفائتهم التدبيرية أو مستواهم الثقافي و العلمي، مما يغيب لدى المواطن استحضار برامج الاحزاب السياسية، التي يتقدم المرشحين باسمها. أما نمط الاقتراح اللائحي بأكبر باقية و في دوائر انتخابية ضيقة، فليس في الحقيقة، الا أحد المتاريس القانونية لمنع أي حزب من الفوز بالأغلبية في مجلس النواب أو المجالس الجماعية، كما يطعن في مبدأ المساواة بين المواطين بشكل واضح و صريح، حيث يمكن أن يسوي بين عشرين ألف صوت مثلا بمقعد واحد و ثلاثة الاف صوت كأكبر باقية بقعد واحد كذلك. لتكون النتيجة الرياضية في منطق منهندسي انتخابات المخزن هي عشرين ألف مواطن تساوي ثلاثة الاف مواطن. ونفس الفوارق بين الدوائر الانتخابية على المستوى الوطني ، حيث يمكن لمرشح أن يفوز بمقعد برلماني بالف صوت بالعالم القروي في الجنوب ، في الوقت الذي يستحيل فيه على مرشح أخر في الدار البضاء أو الرباط أو طنجة أو أكادير أن يفوز بالمقعد ولو بخمسة الاف صوت.، لتكون العملية الحسابية عند رياضيي وزارة الداخلية هي خمسة مواطنين في المدن الكبرى مقابل مواطن قروي في الجنوب على سبيل المثال، ونفس الشيئ بالنسبة لتضييق الدوائر للانتخابية، التي ليست في الحقيقة سوى تسهيل لعملية البيع والشراء في البورصة الانتخابية و تخفيض للتكلفة المالية للمقعد البرلماني في سوق الاصوات لصالح السماسرة خلال مواسم الانتخابات. بالنسبة للائحة أو اللوائح النسائية والشبابية، فلما لم يستطع شيوخ الاحزاب السياسية اعمال الديموقراطية في هياكلهم ، بما يسمح لتدفق الاطر الشابة و النسوية في شرايين الاحزاب، لتتبوأ مكانتها المستحقة في الترشح على رأس لوائحها المحلية، و حفاظا من المخزن لماء الوجه لهؤلاء الشيوخ ، اتفق الطرفان على بدعة اللوائح أو اللائحة الوطنية للنساء والشباب، التي ليس في الحقيقة الا ريعا سياسيا جديدا لارشاء النساء وبعض الفئات الشابة المتلهفة و المتهاتفة على الدخول الى البرلمان والمجالس الجماعية، كما أنها تنقيص و نيل من مكانة النساء و الشباب في المجتمع، أكثر مما هي ، كما يقول البعض ، تمييزا ايجابيا، لقد وضعت هذه اللائحة الوطنية النساء والشباب و ربما الجالية المغربية في الخارج في وضعية ذوي الاحتياجات الخاصة، المصابين بعاهات دائمة و مستدامة ، مما يتطلب معها وضعيات و شروط خاصة، حتى يؤدوا دورهم كاملا في المجتمع. كما تشكل هذه اللائحة الوطنية بالنسبة للمخزن احدى الاليات التي تساعده على التحكم في النتائج الانتخابية درءا لكل الاحتمالات السيئة، خاصة أنها تشكل ما يقرب من ربع مقاعد مجلس النواب، و محاضير نتائجها لا تسلم محليا ، ونتائجها تعلن مركزيا، مما يسمح بامكانية كبيرة للتلاعب فيها والجملة الأخيرة لكل هذا الحصاد المر هي مجالس جماعية كاريكاتورية وبرلمان كاريكاتوري. و ضمان المزيد من الفساد والاستبداد، وضياع الفرص التنموية التي تشكل الديموقراطية احدى رافعاتها. والضحية أولا و أخيرا،و دائما وباستمرار هي التنمية والشعب و المغرب * - Rémy Leveau - L e fellah marocain défenseur du trône* - pressede la fondation Natinale des sciences politiques: Paris 2éme édition 1985 *و قد تمت ترجمة هذا الكتاب مؤخرا في طار منشورات مجلة وجهة نظر: ريمي لوفو - الفلاح المغربي المدافع عن العرش – ترجمة : محمد بن الشيخ – مراجعة عبد اللطيف الحسني – منشورات وجهة نظر – سلسلة بحوث و أطروحات : رقم 2 – الطبعة الأولى 2011 – مطبعة النجاح الجديدة .