سَرَقْتَ دموعنا يا ذئب تقتلني وتدخل جُثَّتي وتبيعها ! أُخرجْ قليلاً من دمي حتى يراك الليلُ أَكثر حُلْكَةً ! مديح الظل العالي- محمود درويش إن ممارسة السياسة في المغرب انطبعت لعقود من الزمن بالقدرة على إتقان مهارة الرقص على الحبلين، فتجد السياسي الناجح(طبعا بمقياس النجاح المغربي) هو ذاك الذي يستطيع أن يدافع اليوم عن شيء وفي الغد يدافع عن عكس ما كان يدافع عنه البارحة، وهنا يجب التمييز بين تطور الأفكار وتغييرها الذي قد يتحجج به البعض لتبرير سلوكياتهم، وبين تغيير المبادئ والقناعات بين عشية وضحاها كما يغير الشخص قميصه في يوم قائظ كما قال الفقيد عبد السلام المودن؛ فتغير وتطوير الأفكار شيء مطلوب بل وضروري لاستيعاب لحظة تاريخية معينة، لكن ما يندى له الجبين أن يقوم المرء بالتخلص من مبادئه وقناعاته -التي طالما على أسسها شكَّل رأسماله السياسي- في عملية مقايضة بادية للعيان، ومع ذلك يقف المعني بالأمر بكامل "سنطيحته" ليدافع عن أنه لم يغير قناعاته وأن كل ما يقوم به يخدم المبادئ والقناعات المعروف عنه دفاعه عنها...ولنا في تجربة حكومة التناوب أسطع مثال، فما كان يناضل من أجله جهابذة حزب الاتحاد الاشتراكي عندما كانوا في صفوف المعارضة البرلمانية أصبحوا هم من يتكفلون بالإجهاز عليه عندما أصبحوا وزراء في حكومة اليوسفي وجطو مع الاستنجاد بمفهوم"جيوب مقاومة التغيير" للامعان في التبرير الذي يعوزه أصلاً المبرر، ونموذج خوصصة جملة من القطاعات الحيوية خير دليل...كما أن تعاطي أغلب الأحزاب السياسية وزعمائها "المنزهين" مع بعض مبادرات الملك تُجلي بشكل كاريكاتوري كيفية ممارسة السياسة عندنا، ومع ذلك يتحدثون بإسهاب عن العزوف السياسي وسبل معالجته دون أن يتجرأ أحد على وضع اليد على المكمن الحقيقي للجرح. فحزب الاستقلال مثلا كان من أشد المتمسكين بمغربية الصحراء ورافض لكل حل خارج هذا التصور أو يناقش مشروعية الموقف المغربي في حقه الكامل في أراضيه الصحراوية، لكن مباشرة بعد أن "أفتى" الملك بمقترح الحكم الذاتي، نوه كل قادة الحزب بالقرار الملكي الحكيم وأصبحوا منظرين يجوبون البلاد لإقناع العباد بحصافة هذا الرأي الملكي السديد؟؟؟ ولو كان هذا المقترح من عند طرف أخر غير الملك لكان الحزب قد أقام الدنيا ضده واتهمه بالخيانة والطعن في وحدة الوطن الكاملة. كذلك حزب العدالة والتنمية أرغى وأزبد ضد "خطة إدماج المرأة في التنمية"، وكنت شاهداً على محاضرة ألقاها أحد مناضلي الحزب في جامعة محمد الأول بوجدة قال فيها "إن هذه المدونة لن تمر إلا على دمائنا وأشلائنا"..ولعل مسيرة البيضاء كانت عنوان هذا التحدي، لكن بعد تدخل الملك، أصبحت مدونة الأسرة بقدرة قادر ثورة قام بها صاحب الجلالة لصالح المرأة المغربية بالنسبة إلى مناضلي الحزب؟؟؟ مازال رجال السياسة عندنا مجبولين على هذا السلوك المنفر؛ سلوك الرقص على الحبلين، لكن الجديد هو أن الطفرة المعلوماتية والحراك الشعبي الذي دشنته حركة 20 فبراير نغّص على هؤلاء ممارسة هوايتهم كما يحلو لهم، وأصبح من المتيسر أن يقال لهم "ما هكذا تورد الإبل يا سعد" أو "ما هكذا تورد الإبل يا الفيزازي" مثلا...فالصراع السياسي الحاد الذي يدور رحاه في المغرب أعطى طاقة هائلة لآلية الانتباذ والانجذاب التي فرضت على الكل الكشف عن وجهه السياسي دون مواربة لذلك تشكل لدينا معسكرين الجامع بين مكوناتهما المصالح لا التصورات ولا المرجعيات... لكن هناك فرق واضح بين المعسكرين؛ فمن يدافع عن التغيير ويسعى إلى بناء دولة المؤسسات لا دولة الأشخاص واضح في اختياراته ويترجم قناعاته في الميدان ويطالب بمطالب لا مجاز ولا استعارة فيها... في حين أن المعسكر الآخر يطبع سلوكه السياسي بالغموض وعدم الوضوح، فالفيزازي مثلا عندما سئل عن خروجه في مسيرة طنجة ضد حركة 20 فبراير، قال أنني لم أخرج ضد 20 فبراير وإنما ضد "وكالين رمضان" مع أن كل المؤشرات تؤكد أن "الشيخ الفيزازي" خرج ضد 20 فبراير، لكنه لم يجرؤ عن الجهر بذلك ولم يكن واضحا لا مع أتباعه (إن كان مازال له أتباع؟؟) ولا مع الشعب، فكيف يقول الفيزازي أنني خرجت ضد "وكالين رمضان" مع العلم أن في طنجة لم يسبق أن خرجت فيها أي دعوى للإفطار العلني في رمضان، وكيف يفسر أن أغلب من خرج برفقتهم وشكلوا حائط الدعم المادي واللوجيستيكي للمسيرة هم عناوين ثابتة لا تخطئها العين للفساد بهذه المدينة الجريحة، وكيف يفسر أن في هذه المسيرة رُفعت شعارات ضد العدل والإحسان وعبد السلام ياسين، والاشتراكي الموحد والنهج فهل هؤلاء من "وكالين رمضان"؟؟؟ أما المبرر الذي يتوسل به بكونه ينفي رفعه لهذه الشعارات فلا يمكن لنا التأكد من أن شفاه الفيزازي كانت مطبقة عندما كان يُرفع الشعار بل الشاهد عندنا هنا أن الفيزازي خرج في مسيرة رُفعت فيها شعارات ضد العدل والإحسان والاشتراكي الموحد والنهج ولم يبد أي اعتراض ولم ينسحب من المسيرة، وهنا نكون أمام افتراضين إما أن الشيخ لم يكن واضحا واستهوته هواية الرقص على الحبلين المغلفة بالرياء والنفاق وهو يعلم علم اليقين أنه خرج ضد 20 فبراير ومن أجل تأبيد الظلم والاستبداد والحكم المطلق وما قصة "وكالين رمضان" إلا لمداراة الحقيقة، وإما أن للشيخ معلومات خاصة عن أن جماعة العدل والإحسان والمكونات المستهدفة بالشعارات هم من يتزعمون حركة "وكالين رمضان" وعندئذ يكون منسجما مع نفسه ومحقا فيما صرح به وعليه أن يُطْلِعَ الشعب المغربي على هذه المعلومات الخاصة التي بحوزته وأنا من هذا المنبر أطلب منه أن ينيرنا بما يحوزه من معلومات في هذا الموضوع؟؟؟ هذا الغموض والرقص البهلواني لم يكن حكرا على الفيزازي فقط بل حتى فقيه "نكاح الجثث" الزمزامي دخل على الخط وكتب ردّا على المهندس أحمد بنصديق يستكثر عليه خلع البيعة ويصفه بالجاهلية ويعده بويل الثبور، كما لم يخجل من الإفتاء بتحريم التظاهر بعد الاستفتاء على الدستور، لكنه بالمقابل لم ينبس ببنت شفة عندما وقعت محرقة معمل الاسفنج "روزامور" في ليساسفة بالدار البيضاء في أبريل 2008 وراح ضحيتها 56 عاملا ممن لا حول ولا قوة لهم، بل الأمرّ أن المحكمة حكمت بمبلغ 200 درهم كتعويض لأهالي الضحايا، أين كان شيخنا وهو ممثل الأمة في القبة غير المحترمة عن هذه المدينة أمام هذه الفضيحة والجريمة النكراء التي استرخصت نفس الإنسان العزيزة عند الله إلى هذه الدرجة؟ لكن يبدو أن الشيخ بعد أن حشر نفسه في فتاوي الجنس الفموي ونكاح الدمى ونأى بنفسه عن الحديث عن شؤون العباد السياسية والاجتماعية... أصبح الآن لم يتمالك نفسه انصياعا منه لقانون الانتباذ والانجذاب من أن يوظف فتاويه من أجل الدفاع عن الاستبداد والقهر والظلم، مثله مثل إخوان الأمس؛ حزب العادلة والتنمية الذي قال أمينه العام في حق حركة 20 فبراير ما لم يقله مالك في الخمر، لكن مع ذلك-وهذا لب النفاق- لا يخجل من توظيف حركة 20 فبراير في تحسين شروط مفاوضاته مع النظام من أجل كسب أكثر، ففي كل مفاوضاته مع الدولة يمارس الابتزاز بورقة الحركة :" إما أن تحققوا لنا كذا وإلا سننظم إلى حركة 20 فبراير" وهذا ما أشار إلى أحمد الريسوني أحد مناضلي الحزب سابقا والخبير بشؤون مطبخ الحزب في حواره الشهير مع جريدة الأسبوع " للأسف هناك ناس "يأكلون الغلة ويلعنون الملة". أعني الذين يلعنون ويشتمون حركة20فبراير،وهم إنما يحصدون ويأكلون ما زرعته". كل هؤلاء الذين سلف ذكرهم ممن يتمسحون بالدين لتبرير انبطاحهم ودفاعهم عن الاستبداد والحكم المطلق، نجد إلى جانبهم من يناضل مثلا ضد أسلمة الدولة ومع ذلك يجد نفسه جنبا إلى جنب مع هؤلاء لذلك فلا حرج أن نرى غدا الياس العمري المهوس ب"النضال" ضد أسلمة الدولة يضع يدا في يد مع الفيزازي والزمزامي وبنكيران في مسيرة واحدة دفاعاً عن تأبيد الاستبداد والحكم المطلق، وكذلك الشأن بالنسبة إلى معظم "الحداثين" من مثقفين وصحافيين و"مناضلي" الأحزاب " الحداثية " الذين لم يخجل بعضهم من القول مباشرة بعد مهزلة الاستفتاء على الدستور أن أزيد من 90 في المائة من مطالب الحركة مضمنة في الدستور الجديد، يقولون هذا ومازال في لاوعيهم أنه مازال الشعب المغربي أسير أرقام وزارة الداخلية ووكالات أخبارها. إن الخلاصة التي قادنا إليها هذا الحراك هو أن الاصطفاف السياسي الآن في المغرب أصبح واضحا للعيان، قائم على مصالح معنوية واقتصادية بالدرجة الأولى تخص حياة الإنسان وكرامته ولم تستطع محاولات لبس هذا الاصطفاف لبوسا إيديولوجية من طمس الحقيقة، الصراع الآن ليس بين الحداثيين والمحافظين، ولا ليس بين الإسلاميين والعلمانيين، بل الصراع بين من يستفيد من الاستبداد وبالتالي يدافع عنه بكل ما أوتي من حيل وأكاذيب وبين من يتضرر من هذا الاستبداد ويناضل بكل ما أوتي من صدق وتفان من أجل الإنعتاق والتحرر والتغيير لبناء مغرب المستقبل، لذلك لا غرابة أن نجد الفيزازي والزمزامي وبنكيران وحمزة بلعباس والياس العمري وحرزني والهمة والعنيكري وبنسليمان و...في صف واحد، ونجد في الصف الآخر عبد السلام ياسين وبنسعيد ايت يدروعبد الرحمان بنعمرو وعبد الله الحريف ومحمد الساسي وخديجة الرياضي...هذين هما طرفي المعادلة واضحين وضوح شمس غشت، طرف يريد تأبيد الاستبداد والحكم المطلق لأنه يستفيد منه، وطرف يريد إنهاء الاستبداد والحكم المطلق لأنه يتضرر منه، فلنذهب إذن إلى معترك الصراع السياسي واضحين كما الحقيقة.