30 نوفمبر, 2017 - 09:28:00 محاولا تقمص دور حمزة "الشيخ الأب" المتواجد في دار الفناء بلغة أهل التصوف، يترجل الشيخ الابن جمال الدين البودشيشي من سيارته الفارهة، وسط حشد من المريدين والمدعوين وحاشيته، بحركات متثاقلة بجلبابه المغربي الصوفي ناصع البياض، ولحيته البيضاء وابتسامة لا تفارق محياه. "جمال الدين"، الابن البكر، لوالده الراحل "الشيخ حمزة بن العباس"، يترأس اليوم الطريقة "البودشيشية القادرية"، أكبر الطرق الصوفية في المغرب، بعد ما يناهز سنة على وفاة والده، لا يزال أمامه "شيخ الطريقة الجديد" تحد ملء "السرير الفارغ" بعد اختفاء الشيخ حمزة إلى الأبد وفي ظل تحدي الاستمرار في الانتشار والتوسع كما نجح والده ومؤسس الطريقة الشيخ حمزة في ذلك. "وتارا".. رحلة البحث عن" اللذة الايمانية" هنا "مداغ"، الزمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمِّد، هنا قبلة العارفين والباحثين عن اللذة الايمانية، الطريق إليها تتعدد بتعدد السالكين من كل بقاع العالم ومدن وقرى المغرب، حيث ينتظم الآلاف من المريدين كل سنة لإحياء "أسبوع الفرح" بمناسبة ذكرى المولد النبوي. الرحلة إلى مداغ، تشبه قصة "حي بن يقظان" للفيلسوف الاسلامي ابن طفيل حين يروي قصة شخص يدعى حي بن يقظان أنه نشأ في جزيرة وحيدا، وترمز للإنسان، وعلاقته بالكون والدين، واحتوت مضامين فلسفية، شكلت الروح الفلسفية للتصوف. "مداغ" تشبه جزيرة معزولة عن العالم حيث تتصل النفوس وتتلاقى الأرواح كالجنود المجندة، يقول وتارا بدر الدين، القادم إليها من ساحل العاج وأحد شيوخ الطريقة البودشيشية بداكار. وتارا، عندما التقيناه لأول مرة، بدا لنا بشعره الطويل والمجعد والمزين بالظفائر والجدائل، يشبه مغني "الريكي" الشهير بوب مارلي، تحدث لموقع "لكم" كيف أصبح مريدا للطريقة البودشيشية بالقول إنه ترعرع وسط بيئة صوفية منذ نعومة أصابعه، حيث كان والده احمد وتارا شيخ كبير في التصوف جنوب كوديفوار ويتزعم الزاوية التيجانية". المريد وتارا، أعجب بالمكان بعد أن دعته الزاوية للحضور إلى الملتقى، يقول عن حال التصوف بساحل العاج إن "عدد المنتمين للزاوية القادرية قليلون جدا في الكوت ديفوان ولكن نحمل هدف نشرها على نطاق واسع وحتى في البلدان المجاورة لأن الطريقة البودشيشية تحمل رسالة عالمية". الدبلوماسية الروحية...حين توظفها الدولة في السياسة منير القادري، نجل الشيخ حمزة، يقول للموقع إن الطريقة البودشيشية انتشرت في مختلف القارات، واستطاعت بفضل "دبلوماسيتها الروحية" أن تفتح جسور التواصل مع مسؤولين كبار في عدد من الدول، مذكرا بدور الوساطة الذي لعبته الطريقة بين جمهورية مدغشقر والمغرب في توقيع شراكة تعاون بين الجهة الشرقية ورئاسة الجمهورية. "الزاوية تلعب دور المجتمع المدني وليست تيارا سياسيا" يقول الرجل الأقوى داخل الزاوية البودشيشية، الذي ما فتئ يذكر في حديثه للموقع دور الدبلوماسية الروحية في إفريقيا في دعم ومسايرة التوجه الملكي نحو افريقيا، حيث قال إن الطريقة البودشيشية لن تدخر جهدا في سبيل خدمة "إمارة المؤمنين" والملكية والوحدة الترابية". علاقة الزاوية مع الدولة تشبه علاقة المريد بالشيخ، فهي ترفض كل الرفض معارضة سياسات الدولة في الشأن الديني أو في القضايا الكبرى كالوحدة الترابية النظام الملكي، ويرفع البودشيشيون شعارا كان يقوله الشيخ حمزة :"شبر من صحرائنا قبر لنا"، ليؤكدوا استعدادهم لحمل السلاح كلما تعلق الأمر بالمس بالوحدة الترابية، في هذا الصدد يقول منير القادري : "مستعدين لحمل السلاح للدفاع عن وحدة التراب والوطن". ويرى مهتمون بالشأن الديني، أن الدولة توظف في غالب الأحيان وبقوة الزوايا في لحظات الشدة والتوتر، كما حدث إبان حراك 20 فبراير والتصويت على الدستور، حين استعانت الدولة بأتباع الطريقة البودشيشية في الدعاية للدستور. لا ينكر نجل الشيخ مؤسس الطريقة البودشيشية هذا الدور ويرد على منتقديه بالقول إن "الزاوية كانت دائما في خدمة الوطن منذ الاستعمار إلى اليوم، وأن الثوابت الوطنية خط أحمر، وخروجها في سنة 2011 كان بهدف مواجهة الخطر الذي قد يصيب دولتنا". دياسبورا الطريقة.. لمحاربة الاسلاموفوبية أما "الفقراء" القادمين من دول أوربا وأمريكا، منهم مغاربة وأجانب، أو كما يسميهم نجل الشيخ حمزة، "دياسبورا الطريقة"، لا تفارقهم الابتسامة والفرحة، يحجون كل سنة إلى مداغ. يجلس وسط مريدي الخارج وعلى يساره أحد كبار الشيوخ في الطريقة البودشيشية في مداغ، يتقمص دور مترجم كلام الشيخ البودشيشي لمريدين من أمريكاوكندا وفرنسا. قبل التطرق لموضوع تعامل دياسبورا الطريقة مع الاسلاموفوبيا والتطرف والعنصرية في بلاد الغرب، كان علينا البحث عن طريقة ما لكسر حاجز "فوبيا الإعلام" التي جعلت معظم البودشيشيين لا يرغبون في التصريح لوسائل الإعلام. محمد القادم من كندا، كان يشتغل في شركة "غوغل" بالولايات المتحدةالأمريكية، والذي اشترط مناقشة الأسئلة وآخذ الإذن من الشيخ، يقول إنه "ليس لدينا ما نخفيه ولكن نتجنب التصريح لوسائل الإعلام لأننا نصرح بصفتنا الشخصية لكن يتم استغلال كلامنا ضد الطريقة". يتحدث محمد عن تجارب راكمها بأمريكاوكندا، في حديثه مع "لكم"، بالقول: "أينما كنا لدينا تربية صوفية مبنية على صحبة في الله على يد شيخ يمكننا من التربية والفقه والتقرب إلى الله". في نظر محمد، فالغرب يستجيب للتصوف وللطريقة البودشيشية ويقبل عليها، لأنها "تشتغل على الباطن وعدوها هو النفس وليس الآخر"، أما الدعوة فهي لا تمارسها ولا تحب الخروج إلى الشارع لدعوة الناس لتغيير أحوالهم، "لا نمارس الدعوة كدعاة وخطباء وإنما الدعوة بالحال، ولسنا متطرفين بالعكس لا نكره لا يهوديا ولا نصرانيا لكن نكره نفوسنا ونحاول إصلاحها" يقول المتحدث نفسه. يترأس محمد إلى جانب عدد من المنتمين إلى الطريقة البودشيشية بالخارج، اجتماعات يومية وأسبوعية في عدد من بلدان المهجر، حيث وصلت الطريقة إلى الصين كما استطاعت أن تقتحم السعودية ذي العقيدة السلفية الوهابية التي تعد نقيضا للتصوف وتحاربه. نفس الحكاية يرددها عدد من المتدخلين في الندوات المنظمة من قبل الملتقى، منهم عبد المنان بن محمد، الباحث في كلية الدراسات العامة والتربية بجامعة السلطان زين العابدين بماليزيا، الذي قال بأن الصوفية كانت وراء دخول الإسلام إلى هذا البلد الأسيوي، عن طريق الشيخ عبد الله العارف. عبد المنان حاول مرارا التأكيد خلال حديثه بأنهم "لا يستعملون إراقة الدماء، ولكنهم سلكوا مناهج خاصة متسمة بالدبلوماسية الروحية؛ ذلك أنهم ينشرون الإسلام بالسلام، ولا يدخل الشباب إلى هذا الدين عن القهر والإجبار". البودشيشية .. "لا زاوية بدون شيخ ولا شيخ بدون زاوية" في "مداغ" حيث الآلف يحجون للاحتفال بعيد المولد النبوي، تختفي المظاهر والصفات والوظائف والألقاب، الجميع هنا يتحولون "فقراء" ومريدين يودون التقرب إلى شيوخ الطريقة، ويظهر جليا كيف أصبحت الزاوية ملاذا لكل من يسعى إلى الأمن الروحي والسلم ونشر المحبة، والتركيز كله على "الباطن". بلباسه الدرويشي، أو "البزة"، حين تعانق البساطة عالم الوجدان، حيث يتفرد بها هو وأصحابه الذين يلقبون ب "أهل الله" أو "المولويين" نسبة إلى "مولانا" جلال الدين الرومي، يمشي مستاوي وهو قادم من تونس وسط المريدين يصافح كل من يلتقي، ولأن "الابتسامة صدقة" كما يقول فهي لا تفارقه. فالمتصوف التونسي يرى أن البشرية محتاجة لعبادة الله "بالمضمون لا بالشكل"، لأن "الذي حصل هو ان التشدد ناتج عن اختلال أخلاقي وانحطاط في التربية من هنا وجب على أهل التزكية والشيوخ الربانيون أن يولوا اهتمامهم للشباب لإنقاذهم من التأثيرات المتوحشة الارهابية". لطالما شكلت الاحتفالات بذكرى المولد النبوي محط انتقادات شديدة اللهجة من قبل فاعلين دينين وبعض التيارات الاسلامية، لدرجة يصفها البعض ب"البدعة"، لكن الشيخ التونسي يرى عكس ذلك ويعتبر "البدعة" "مجرد تعبير تلوكه الألسن، العبرة بما يدور شرعية فهي توطيد المحبة وأخوة وتعلقا بالرسول ولا مشاحنة في الاصطلاح" "فلولا ليلة المولد النبوي، لما كانت ليلة القدر، وليلة القدر خير من ألف شهر" ببساطته يرد الصوفي التونسي على المنتقدين. وعن تأثير رحيل الشيخ حمزة عن استقطاب لزاوية القادرية لمريديها من مختلف بقاع العالم، يوضح الشيخ قائلا: "قدرة الاستقطاب تستوجب وجود طريقة صوفية لها انتشار واسع مع وجود شيخ رباني"، مع التأكيد على أن "لا زواية بدون شيخ ولا شيخ بدون زاوية". أما رافع الرفاعي (الصورة أعلاه)، مفتي دولة العراق، أحد المسؤولين الرسميين الحاضرين في ملتقى مرداغ إلى جانب مستشار رئيس حكومة مدغشقر ومسؤولين في ماليزيا، باحث في تاريخ الصوفية، فيرى أن التصوف ثلث الدين وبدونه ضاع جزء من الدين. يفتخر الرفاعي، بكون دولة العراق أصل الطرق الصوفية وبالخصوص الرفاعية والقادرية، وأن شيوخها الأوائل دفنوا في مقبرة "الشونيزية" المعروفة بمقبرة الأولياء والعارفين. مجدوب الزاوية... مريد فريد فإذا كان "التصوف هو الضمير النابض الذي أشاع الصدق في وجدان الفرد"، فإنه عند البودشيشية هو طريق إلى الله عبر الشيخ، هو رحلة ممتلدة من الخلق إلى الحق، فالطريق هنا هو الخروج من وهم الغفلة وحب الدنيا والدخول في طاعة الله ومحبة الرسول. لكن لكل زاوية مجذوبها كما يقال، إلا في مداغ لا حديث إلا عن "المجدوب السويني"، فهو مريد فريد ما ان تطأ قدماك هده البقعة الا وصادفته متجولا بين مرافقها قد تصادفه امام البوابة الرئيسية او تجده يطوف بين اروقة القرية التضامنية او حتى امام قاعة الندوات. يبدو على أعتاب الستين عاماً، يلبس جلباباً صوفياً أبيض، وبلحية بيضاء يتنقل بين مختلف اروقة المصالح والوحدات المنظمة، حتى تخاله مسؤولا تنظيميا عن للملتقى . تربى في كنف الزاوية وعلى يد الشيخ الراحل حمزة بن عباس، يحكي مريد من الزاوية يعرفه عن قرب، إنه "مجذوب مجدوب"، لكن "محب وصادق"، فذات يوم بدأ يضرب بالحجارة لكن لا أحد يوقفه، يتركونه حتى يتوقف ويعود إلى طبيعته، ففي ليالي الذكر يجدب كثيرا، من بين العشرات الذين كانوا يحضرون تلك اليالي، يحركون رؤوسهم يمنة ويسرة كالمأخوذ، أو صامتون كمن يخزن في داخله التفاصيل حوله أو يحاور نفسه في مونولوج ذاتي. "لا تظن أن هذا الرجل الفقير يبحث عن كنز، لأنه هو نفسه الكنز"، هكذا اختصر أحد الشيوخ وصفه لحال مجدوب الزاوية. وكأن لسان المجدوب يقول "أمسيت ميتا، فأصبحت حيا، كنت باكيا فأصبحت ضاحكا جاءت دولة العشق فصارت دولة خالدة"، هكذا تنتهي به الأحوال عند افتراق السالكين إلى الزاوية. "دينامو" الزاوية.. صوفي عصره "من جهل شيئا عداه، انا شخص اجتهدت كثيرا، ولم تكن لي منحة وكنت عصامي في الحصول على الدبلومات، اريد ان اخدم بلدي وملكي" يقول "دينامو" الطريقة البودشيشة، منير القادري نجل شيخ الزاوية الراحل. يفند الرجل القوي في الطريقة، تهمة التحكم في الزاوية، ويقول : "عملي لله ونترك كل من يريد ان يقول شيئا فليقله، وهذا الملتقى مجهود جماعي". دينامو الزاوية، الذي كان يشتغل رئيسا لمجلس الرقابة بفرنسا، يقول بأنه يأخذ بوصية ابن عربي، كبير المتصوفة في العالم العربي، "افعل الخير ولا تبالي فيما تفعل". فانتقال كرسي "الشيخ" من حمزة إلى ابنه البكر، يصفه منير القادري ب"الانتقال الرباني"، فالطريقة البودشيشية ليست تنظيما محكما، أو جمعية خيرية، هي مثل جامعة مفتوحة الولوج لا تحاسب من يدخل ولا تحصي من يبقى. هذه السنة كانت مختلفة عن باقي الأعوام الماضية، كان ملفتا للانتباه مساهمة بنك "الصفاء" )بنك تشاركي(، في الملتقى وتوفير خيمة إشهارية للبنك على بوابة معرض القرية التضامنية. ويفسر مدير الملتقى انحياز الزاوية للأبناك التشاركية باعتبارها مبنية على قواعد الشريعة الاسلامية بعيدا عن الإغراء مع احترامنا لباقي الأبناك الأخرى" يوضح منير القادري. "نحب من يحبنا ونحب من يكرهنا وعدونا هي نفسنا التي يجب نحولها الى نفس تامر بالخير" يردد دينامو الزاوية عن أسلوب الطريقة في الرد على المخالفين. مريدات الزواية..تقودهم "مقدمة" "الفقيرات" ب"مداغ"، هن نساء من كل الأصناف والمراتب الاجتماعية، مقصدهن واحد حب "الله ورسوله" بالتقرب إلى شيخهم "العارف بالله" على حد وصفهن، تقودهم في كل منطقة "مقدمة" (مسؤولة عن التنظيم والذكر والمبيت). (م،ع) "مقدمة" للطريقة البودشيشية تقول في حديثها للموقع، فضلت عدم ذكر اسمها نظرا لتحفظ مسؤولي الزاوية عن الإدلاء بتصريحات للإعلام، إن "البودشيشية كالبحر الذي لا يرى عمقه ولا بدايته ولا نهايته"، هكذا تحس بعمق إيمانها في الزواية. نعكف سنويا هنا بمداغ للتعلم والتربية والتكوين في شتى المجالات على يد علماء وشيوخنا كما نوزع القفة الرمضانية باسم الزاوية البودشيشية"، تشرح (م،ع) عن أسلوب الزاوية في التعامل مع النساء. مسألة وحيدة تختلف فيها النساء "الفقيرات" عن الرجال "الفقراء"، هي طريقة المصافحة، أي طريقة ولوج الزاوية، حيث يصافح الفرد الشيخ جمال البودشيشي لإعلان انتمائه للطريقة الصوفية المذكورة، فالنساء يصافحن بطريقة غريبة "يشربن ماء يقرأ عليه الشيخ بعض آيات من القرأن وبعض الأذكار"، في حين يصافح الرجال شيخهم ويقبلون يديه ثم يقرأ عليهم نفس الآيات والأذكار. عندما بحثنا عن سبب عدم مصافحة الشيخ جمال للنساء، قال لنا أحد المقربين منه إنها "عادة الزاوية فالشيخ لا يصافح النساء".