علمانية محمودة... وعلمانية مذمومة... وشهداء زور... الفصل السابع من الدستور المغربي الجدبد، يقضي أنه “لا يجوز أن تؤسس الأحزاب السياسية على أساس ديني”. بمعنى آخر ينبغي للأحزاب أن تكون علمانية لاييكية. وقد ورثت الإدارة المغربية هذا الشرط من قانون فرنسي قديم، انبثق عن الايديولوجية اللاييكية لما تغلب المتنورون البرجوازيون بزعامة الماسونية، على الإقطاعيين ورجال الكنيسة الكاثوليك في بداية القرن الماضي. ولقد أصابوا في فعلهم لما فرقوا بين دين رهبانية فاسدة، وبين سياسة عقلانية متنورة. ولقد أخطأنا لما تبعناهم في المبدأ، ففرقنا بين دين صالح محفوظ بحفظ القرآن، وسياسة فاسدة معطلة لأحكام القرآن... تلك هي المكيدة التي سقط فيها العرب في زمننا هذا. لكن الملك بصفته أميرا للمؤمنين، يمكنه أن يتسامى على اللاييكية ومبادئها. وعلى الشريعة وثوابتها، عن طريق طلب الفتوى الرخيصة من علماء القصور. يوظف الدين في السياسة، ويوظف السياسة في الدين بدون قيد أو حرج. (....) من أجل ذلك، فالنظام القائم، هو نظام ذو وجهين، بينهما برزخ لا يلتقيان: • وجه لاييكي، إذا تعلق الأمر بقانون تأسيس الأحزاب، وبرامجها ومناهجها، وإذا تعلق الأمر بتكريس الاعتداء على الدين الحق في المعاملات الخارجية والداخلية، والتمرد عن القوانين القرآنية الضابطة للأخلاق والسلوكات العامة، في قضايا الفساد، ونهب المال العام، والربا، وترويج المسكرات، وحماية الفجور واللواط والقمار... • وله وجه ديني مزور، إذا تعلق الأمر باستغلال الدين لخدمة أغراضه السياسية والمالية، ولو تعارضت مع الأحكام القرآنية. فذلك نوع من أنواع الكيل بالمكاييل المتعددة المستهزئة بموازين القسط السماوية. ولا عجب أن تتوجه رغبة القصر لاستغلال الدين من أجل الحفاظ على مصالحه، ولكن الغريب أن يتفق بعض المنتسبين إلى التيار السلفي وبعض المتصوفة على دسترة تعطيل أحكام القرآن. وأغرب من ذلك، أن تنجمع كلمتهم على هذا الأمر، و بعضهم يكره البعض كرها غريزيا، لا يفتر على مر العصور والدهور. وهكذا يلدغ المغاربة من جحر اللاييكية مرات ومرات. والمؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين. فدل اللدغ على دخولنا جحر التبعية لأهل الكتاب. متصوفة آثروا الزيغ العيسوي، وهي الرهبانية المنحرفة. وفقهاء تاهوا في دروب الزيغ الموسوي، واختاروا نهج طريق الأحبار الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه. وطبقة حاكمة تعطل الشورى والمحاسبة والعدالة القرآنية. (....) نتطرق في هذا المقال إلى البحث عن علامات الزيغ العيسوي الذي حرك الآلاف من مريدي الزوايا، كان بعضهم قد استولى عليه الحال بتأثير سماع غريب عجيب، يهتف بوجوب تنفيذ أمر الشيخ في قول نعم للدستور. ونترك الكلام عن أنصار الدستور من الأحبار المتسلفين، إلى مقال آخر... إن شاء الله. أهل الحال... وأهل الإدلال... والمحققون: تتابع فقراء بعض الطرق الصوفية في شوارع الدارالبيضاء للتنويه بدستور المنوني. يحثون الناس على التصويت عليه بالقبول والرضا. يهللون ويرددون ترانيم سماعهم المبتدع. وبعضهم ربما دخل في نوبات الحال، يصفق وينوه بالشيخ ويقرن طاعته، بطاعة الملك بقول نعم للدستور الجديد، وذلك هو طريق الجنة حسب زعمهم. يتعجب الإنسان من أحوال المريدين في مجالس السماع، ودق الطبول، وأحيانا عند نغمات المزامير. ومنهم من يدعي أن الطريقة الفلانية غير صادقة لأن الحال فيها منعدم. وينتقصون من فضل جماعة معروفة من أجل ذلك. ويكاد الحاضر في مجالس القوم أن يتهم نفسه في صدقه عند مشاهدة الفقراء في سكرتهم وفنائهم يهتزون ويدورون ويصيحون، وهو لا يتحرك رغم استحسان العبارات وهطول العبرات، واقشعرار الجلد ووجل القلب عندما يذكر الله. هذا من جهة. ومن جهة أخرى ربما تذكر الحاضر حال المكاء والتصدية والأذكار السخيفة مثل التي سمع المغاربة في المسيرة الطرقية، وغيبوبة الراقصين على النار عند الشعوب المجوسية الوثنية، وأشياء غريبة تصدر عن الخارجين عن أطوار العقل، الخارقين للعوائد مثل الشاربين الماء وهو يغلي في موسم أبي يعزى أو موسم الهادي بن عيسى في مكناس. والصواب والأدب هو أن يسلم الإنسان للفقراء حالهم في حدود الشرع، ويتهم نفسه بالتقصير في جنب الله. وإن كان من أصحاب التحقيق فلربما استعان برأي أكابر المحققين من أهل التصوف السني، وحاول فهم تحليلاتهم عبر ما استجد في علوم العصر... لأن الوجود كله موسيقى رائعة، وموازين محكمة، لا يفتر عن التسبيح بحمد المبدع الخالق البارئ... لكن عندما يتحول السماع مكاء وتصدية عن الحق، فانتظر علامات الفتح الظلماني الذي يمكن أن تصدر عنه أحوال شيطانية لا يغتر بها المتقون الراجعون لما كان عليه الرسول وصحابته من أحوال سنية. فإن قال لك المحقق منهم رحمه الله: ” لا يقول هؤلاء الرجال ( يعني أكابر الصوفية ) بالسماع المقيد بالنغمات لعلوّ همتهم ويقولون بالسماع المطلق فان السماع المطلق لا يؤثر فيهم إلا فهم المعاني وهو السماع الروحانىّ الإلهى وهو سماع الأكابر. والسماع المقيد إنما يؤثر في أصحابه النغم وهو السماع الطبيعي”. فينبغي هنا أن نحقق ما هو الفرق بين النور المطلق والنور المقيد؟ ولما تقيد النور بالدوران حول نواة الذرة في فلك من أفلاكها هل فقد من إطلاقيته شيئا؟ أم مازال مطلقا في فلكه الصغير؟ وما هي النغمة؟ وما هو التناغم؟... ولا يمكن التفكر في هذه المسائل بدون علوم الفيزياء الكمية، والفيزياء النسبية، ونظرية الأوتار والوجود متعدد الأبعاد، وعلم أوزان النغمات، وعلم فيزيولوجيا سريان التيار في خلايا الدماغ، وهي الكفيلة بمقاربة المسألة مقاربة دقيقة. ونتابع المكاشف الذي خصه الله بالعلم اللدني في كلامه، يقول : ” فإذا ادّعى من ادّعى انه يسمع في السماع المقيد بالالحان المعنى، ويقول لولا المعنى ما تحرّكت، ويدعى انه قد خرج عن حكم الطبيعة في ذلك، يعني في السبب المحرك، فهو غير صادق. وقد رأينا من ادّعى ذلك من المتشيخين المتطفلين على الطريقة، فصاحب هذه الدعوى إذا لم يكن صادقا يكون سريع الفضيحة، وذلك أن هذا المدعى إذا حضر مجلس السماع، فاجعل بالك منه، فإذا أخذ القوّال في القول بتلك النغمات المحركة بالطبع للمزاج القابل أيضا، وسرت الأحوال في النفوس الحيوانية، فحركت الهياكل حركة دورية لحكم استدارة الفلك، وهو أعني الدور، مما يدلك على أن السماع طبيعي، لأن اللطيفة الإنسانية ما هي عن الفلك، وانما هي عن الروح المنفوخ منه، وهى غير متحيزة، فهى فوق الفلك، فما لها في الجسم تحريك دوريّ ولا غير دوريّ، وانما ذلك للروح الحيوانيّ الذي هو تحت الطبيعة والفلك، فلا تكن جاهلا بنشأتك ولا بمن يحركك. “ فيفهم المتفكر من قول المكاشف: أن التحيز يقتضي حبس النور في أفلاك الذرات، فتظهر العناصر، ثم النشأة الطبيعية الطينية، ثم النباتية، ثم الحيوانية، فالله نور السماوات والأرض. وكل نشأة لها رنينها الخاص ( resonance ) . فإن وافقت نغمة الموسيقى رنينها، اهتزت واضطربت، كما يحدث ان يتناغم كأس البلار مع نغمة الشادية، فيتهشم الكأس تحت تأثير خاصية الرنين. والحركة الدورية أو الاهتزاز والذبذبة هي من خواص حركات الأليكتورونات في أفلاكها حول نواة الذرة، وكل عنصر له رنينه الخاصة. وكل إنسان له رنينه الخاص كذلك. ويستمر المكاشف في تفسيره موضحا الفرق بين السماع الطبيعي الذي يحرك المسلم وغير المسلم، والسماع الروحاني الصادر عن النور المطلق الذي لا يحده مكان ولازمان، يقول: ” فإذا تحرك هذا المدعى وأخذه الحال ودار أو قفز إلى جهة فوق من غير دور، وقد غاب عن إحساسه بنفسه، وبالمجلس الذي هو فيه، فإذا فرغ من حاله ورجع إلى إحساسه، فاسأله ما الذي حركه؟ فيقول ان القوال قال كذا وكذا، ففهمت منه معني كذا وكذا، فذلك المعني حركني. فقل له ما حركك سوى حسن النغمة، والفهم انما وقع لك في حكم التبعية، فالطبع حكم على حيوانيتك، فلا فرق بينك وبين الجمل في تأثير النغمة فيك. فيعز عليه مثل هذا الكلام، ويثقل ويقول لك ما عرفتني وما عرفت ما حركني. فاسكت عنه ساعة، فان صاحب هذه الدعوى تكون الغفلة مستولية عليه، ثم خذ معه في الكلام الذي يعطى ذلك المعني فقل له ما أحسن قول الله تعالى حيث يقول واتل عليه آية من كتاب الله تتضمن ذلك المعني الذي كان حركه من صوت المغني، وحققه عنده حتى يتحققه فيأخذ معك فيه ويتكلم، ولا يأخذه لذلك حال، ولا حركة، ولا فناء، ولكن يستحسنه ويقول: لقد تتضمن هذه الآية معني جليلا من المعرفة بالله. فما أشد فضيحته في دعواه! فقل له يا أخي هذا المعني بعينه هو الذي ذكرت لي انه حرّكك في السماع البارحة، لما جاء به القوّال في شعره بنغمته الطيبة، فلاىّ معني سرى فيك الحال البارحة؟ وهذا المعني موجود فيما قد صغته لك وسقته بكلام الحق تعالى الذي هو أعلى وأصدق، وما رأيتك تهتز مع الاستحسان وحصول الفهم، وكنت البارحة يتخبطك الشيطان من المس، كما قال الله تعالى، وحجبك عن عين الفهم، السماع الطبيعى، فما حصل لك في سماعك إلا الجهل بك، فمن لا يفرق بين فهمه وحركته، كيف يرجى فلاحه؟ فالسماع من عين الفهم هو السماع الإلهىّ، واذا ورد على صاحبه وكان قويا لما يرد به من الاجمال، فغاية فعله في الجسم أن يضجعه، لا غير، ويغيبه عن احساسه، ولا يصدر منه حركة أصلا بوجه من الوجوه، سواء كان من الرجال الاكابر أو الصغار. وهذا حكم الوارد الإلهىّ القوىّ وهو الفارق بينه وبين حكم الوارد الطبيعىّ فانّ الوارد الطبيعىّ كما قلنا يحركه الحركة الدورية، والهيمان، والتخبط فعل المجنون.” ويستمر المكاشف في رفع الإشكال لرد الأمور إلى ما كان عليه الأنبياء والرسل والصحابة، يقول: ... “هذا سبب اضطجاع الانبياء على ظهورهم عند نزول الوحى عليهم، وما سمع قط عن نبىّ انه تخبط عند نزول الوحى، هذا مع وجود الواسطة في الوحى وهو الملك فكيف إذا كان الوارد برفع الوسائط لا يصح أن يكون منه قط غيبة عن احساسه، ولا يتغير عن حاله الذي هو عليه، فانّ الوارد الإلهى برفع الوسائط الروحانية يسرى في كلية الإنسان ويأخذ كل عضو بل كل جوهر فرد فيه حظه من ذلك الوارد الإلهى من لطيف وكثيف...” وذكر المكاشف “الجوهر الفرد”، وقد نشأ في عهد الدولة الموحدية في القرن الثاني عشر ميلادي، يبين لنا أنه كان على دراية من الذرة التي هي لبنة عناصر الطين. واللطيف ربما إشارة إلى الطبيعة الموجية أو عالم الأمر، أو عالم الروح. (( قل الروح من أمر ربي )) الإسراء : 85. والكثيف إشارة إلى الطبيعة الجزيئية أو عالم الخلق، (( ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين )) الأعراف : 54. ويخلص في النهاية إلى تفنيد زعم من زعم أن سريان الحال عند طائفة من طوائف الصوفية يعني أنها على المحجة البيضاء، أو أنها في منأى عن بدع أصحاب الموسيقى والنغمات، لا يحرك أصحابها سوى ما يحرك أصحاب المزامير، وهم في زماننا لا ينطقون بكلمة يرجى فهمها ليحصل السماع الروحي، ويتواجدون فقط بالسماع الطبيعي على نغمات المزمار، وطائفة “عيساوة” ربما كانت مثالا للتواجد بالسماع الطبيعي. لهذا يفصل في المسألة موضحا موقف التصوف السني قائلا: “ فلما رأت هذه الطائفة الجليلة هذا الفرق بين الواردات الطبيعية والروحانية والإلهية، ورأت ان الالتباس قد طرأ على من يزعم انه في نفسه من رجال الله تعالى، أنفوا أن يتصفوا بالجهل والتخليط، فانه محل الوجود الطبيعى...” فانظر يا أخي القارئ ما أعمق كلام هذا المحقق الذي آتاه الله من علمه اللدني، في زمن بلغت فيه العلوم الدينية أسمى المراتب... وكانت له مقابلات ودية مع ابن رشد في قرطبة وفي مراكش عاصمة الأمبراطورية الموحدية العظيمة! وانظر هل يستقيم القياس على حرف من حروفه فيما صدر للمتصوفة من أحوال ظلمانية في مسيرتهم للدعاية للدستور، يوم الأحد 26 يونيو 2011؟ وما طبيعة السماع الذي كانوا يرددون : “لا عشرين لا ياسين والدستور هو اللي كاين” ؟ أما أهل الإدلال فهم أهل الانبساط، الذين تذهب بهم أحوال فنائهم إلى الشطح والتصريح بالكلام الذي يطوى ولا يروى ولا يؤدى، كمن يقول للناس في حال سكره “استغيثوا بي في البر أو في البحر أغثكم” أو ما شاكل ذلك. فهذا إن كان في حالة فناء وسكر، قيل في حقه إنه أساء الأدب مع الله، وهو الحال الغالب عند متصوفة العراق، كما يؤكده محققنا، وليس هذا من صفات الأكابر، وسيف الشرع مسلول على من تعدى الحدود، وكسر القواعد والعهود. أما من اعتقد جواز الاستغاثة بالشيخ الغائب أو الميت وهو في حالة صحو فهذا لا كلام معه، ولنا تكملة في الموضوع في مكان آخر. القول الفصل في شهادة الزور ... والخلاصة التي يمكن استنتاجها هي أن القوم توفرت فيهم يوم التظاهرة لصالح الدستور جميع أوصاف الرهبانية المذمومة التي يشجعها الغرب، لكي يسيطروا على الحقل الديني... بعد تجريد المغاربة من “الشريعة”، وتعويضها ب”الحقيقة” نسبة لحقيقة الرهبانية التي قال عنها الخبير بعباده جل وعلا: {{ ... وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }} “الحديد: 27′′. من بين تلك الأوصاف التي أحصاها محققنا: • لا فرق بين أحدهم وبين الجمل في تأثير النغمة فيه؛ • الغفلة مستولية على أكثرهم فهم” مغفلون”؛ • بعضهم يتخبطه الشيطان من المس؛ • ما حصل لهم في سماعهم إلا الجهل بأنفسهم، فمن لا يفرق بين فهمه وحركته، كيف يرجى فلاحه؛ • الوارد الطبيعى الكثيف يحركهم الحركة الدورية. والهيمان، والتخبط فعل المجنون؛ • شيوخهم لا يفرقون بين الواردات الطبيعية والروحانية والإلهية، فلذلك اهتزوا وفرحوا بالسماع الذي لا معنى روحاني يفهم منه؛ • أساءوا الأدب مع الله، كما هو الحال الغالب عند متصوفة العراق الذين ينتسبون إليهم. فلما تعطلت الشريعة في المعاملات في عهدهم، ولربما بسببهم، كان حقا عليهم أن يتوبوا ويرجعوا إلى رهبانية أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه: مقاومة دين الانقياد للعلمانية المعطلة للشريعة في المعاملات. وذلك هو أصل الفساد والاستبداد الذي ربما أذن زمن فك الرقاب منه، بحول الله وقوته. إنديانا الولاياتالمتحدة بتاريخ 3 يوليوز 2011