21 أكتوبر, 2017 - 03:39:00 بعد الجزء الثّاني من هذه السّلسلة والذي فصّل في أهميّة التّضامُن العَابر للقاّرات لمُواجَهة السّباق نَحو الحَضيض، يستمر المؤرخ اليساري الأمريكي ''ريشارد كريمان'' في هذا الجزء في الحديث عن تجارب تمردات تاريخية إنتهت إلى الهزيمة رغم قوتها بسبب القسمة، العزلة والحصار، ولم تنجح في استكمال طريقها نحو الحرية والعدالة لأنها لم تأخد بعدها الدولي. ويعرج الكاتب على تجربة ''كمونة باريس''، "الثورة الروسية"، تمرد العمال ضد "إنقلاب فرانكو في اسبانيا"، "انتفاضات أوروبا"، ليخلص إلا أن القوة تتجلى في التضامن بين الشعوب، مبرزا أن هذا التضامن لا يمكن أن يأخد معناه الحقيقي إلا إذا كان دوليا. ليسشرف الكاتب في آخر الجزء "أمل المستقبل" الممكن، بكون الحركات السياسية من أجل الحرية وحقوق الانسان، تتوفر لها اليوم إمكانيات لتجاوز العزلة الجغرافية من خلال المنصة الالكترونية. --- على الرّغم من المقاومة التي خاضتها أجْيال متعاقبة، لا زَالت اللامساواة والبطالة في تزايد مستمر على المستوى العالمي. لماذا تبقى مكتسبات الحركات الجماهيرية جزئية ومؤقتة الى حد كبير؟ في الغالب لكَون هذه الحَركات بَقيت معْزولة. لقد استطاع عبيد روما القديمة، لما توحّدوا تحت قيادة سْبارتاكوس، أن ينتصرُوا عسْكريا على الكتائب الرّومانية الشهيرة. لكن وبسبب شبكة التواصل المتطورة للإمبراطورية الرومانية المكونة من طُرق معبّدة من شمال أفريقيا إلى اسْبانيا وايطاليا، تمت مطاردتهم من طرف كتائب جديدة أتت من محافظات أخرى. حديثا، يبدو أن نفس العزلة الجغرافية أجهضت كل ثورة ذات مصير مشابه. في أوقات مختلفة توحد الناس للاستيلاء على السلطة من سادة إقطاعيين، رأسماليين أو شيوعيين: في فرنسا (ثورات 1789، 1830، 1848، 1871 و 1968)، روسيا (1905، 1917)، اسبانيا (1935)، الصين (1911، 1949)، هنغاريا (1956)، تشيكوسلوفاكيا (1968). لكن طالما أن هذه الثورات محصورة في بلد واحد، كان مصيرها الفشل في نهاية المطاف. كثورة سبارتاكوس والعبيد الرومان.
بدت هذه اللّحظات الثورية كمصابيح أمامية معزولة، أضَاءت فترات متفرقة في التاريخ، وكشَفت القُدرة التَحرّرية للتنظيم الذاتي للجَماهير المضطهدة. فَهي تشبهُ قمم موجات تاريخية نسْتطيع أنْ نَرى عنْ طريق مُرتفعاتها أفقَ المُستقبل المُمكن. إذا كَانت هذه الموجات معزولة فإنه محكوم عليها بالسقوط في قَعر التّاريخ. وفي هذه الأجواف، وبعد مجازر جديدة، يتم استعادة "النظام". إن النّظرة المُفعمة بالأمَل من أعلى هذه القمم تُذكرنا دائمًا بأن عَالمًا آخر حقا مُمكن. ولكن إذا تمسّكنا برُؤية اليَأس من أعْماقِ الجَوف، فسَيتعيّن علينا بالضّرورة أن نَستنتج أن هذه الخسائر المأساوية لا مَفرّ منهَا. لكن هل هي حقا كذلك؟ في عالم اليوم المتصل، ربما يتم تجاوز العزلة الجغرافية (والزمنية) التي قضت على كل واحدة من المعارك من أجل الحرية. دعونا أولا نعود إلى قصة هذه الثورات البطولية والهزائم المأساوية: فرنسا 1871 : غَداة سُقوط الإمبراطور "نابوليون الثالث" وهزيمة جيشه في الحرب الفرنكو- بروسية، حَارب شعبُ باريس (الذي صنع بنادقه الخاصة) الغزاةَ وسط حصار طويل الأمد. واستولى الباريسيون على مراكز القوة في العاصمة بعد أن خانتهم الحكومة الجمهورية الجديدة، ثمّ عَقدوا انتخابات وتولوا مُهمّة الدّفاع، الإدارة والتعليم على أسس المساواة. بعد شهرين من الانتصارات المجيدة، سُحقت كُمونة بَاريس المعْزولة عن بقية فرنسا، من طَرف الجَيش الفرَنسي الرّجعي مَدعوما من البروسيين . كان الجَيش مَسْرورا بالتَحالف مع العدوّ لسَحق الشّعب. روسيا 1917 : بعْد أرْبع سَنوات من المجَازر المجّانية خلال الحَرب العالمية الأولى، اندلعت أعمال شغب داخل الجيش الرّوسي، والفرنسي والألماني، مما دفع بالتحالفات الامبراطورية لوقف الأعمال العِدائية. كانت الإمبراطورية الروسية أول من يتخلى عن الحَرب. أطيح بالقيصر في فبراير 1917، وفي أكتوبر أخذت الحُكومة الشيوعية السّلطة في روسيا متخلفة، بائسة، ومفتقرة للقواعد الأساسية لإقامَة مُجتَمع اشْتراكي حَديث. والأسْوء من ذلك، قَطع الشّعب الرّوسي الصّلة بالعمال الأوروبيين، أولا بسبب الحَرب، ثمّ بسَبب تدخّل الجُيوش الرّوسية ضد الثّوار والقوات العسكرية المموّلة من فَرنسا، بريطانيا، اليابان، بولندا، والولايات المتحدةالأمريكية وغيرها من الدول الرأسمالية التي كانت تخشى انتشار الثورة. وأثَارت الهُدنة في نوفمبر 1918 مَوجة كثيفة من الانتفاضات، دون أن تَنتصر إحْداها. وبسبب العُزلة والحِصَار، تحوّلت الثّورة الرّوسية إلى دكتاتورية شُمولية. مشوِّهةً سُمعةَ الحُلم بالاشتراكية والشيوعية في عيون العديد من العُمّال لما يقرب قرنا من الزّمن. اسبانيا 1936 : في ظل الجُمهورية الإسْبانية، قَاد المجلس العسكري الفَاشي بقيادة الجنرال فْرانكو انقلابا ضدّ الحُكومة اليَسارية المنتخبة من الجَبهة الشّعبية. وبينما سعى السّاسة إلى حل وسط، وعلى الرّغم من خيانة اللبراليين والقادة الشيوعيين، حمل العُمال والفلاحين السّلاح وقاوموا لمدة ثلاث سَنوات.. وحَصل فرانكو على الدّعم بالقوات والاسْلحة من ألمانيا النّازية وإيطاليا الفاشية، في حين توجّهت الحُكومة اليسارية المنتخبة ل "ديمقراطيات" أخرى من أجل دَعمها. لكنّ دول فرنساوبريطانيا والولايات المتحدة كانت قلقة حيال استثماراتها في إسبانيا وكانت غير راغبة في مساعدة الحركة الثّورية، وأدارَتْ ضَهرها للجمهورية. وباسم "الحياد" الملغوم فَرضتْ حظرا جزئيا سَمح بمرور أسْلحة الفَاشية. وبعد أن قاطعتها "الديموقراطيات"، وبسبب عزلتها الجغرافية، توجهت إسبانيا الجمهورية إلى الدكتاتور ستالين، الذي يهيمن العُملاء على حكومته. ومن سُخرية القدر، فإن تَخلّي "الديموقراطيات" عن الشعب الاسباني هو الذي عجّل بغزو هيتلر لأوروبا. أوروبا 1944-1945 : في نهاية الحَرب العَالمية الثّانية، هدّدت حَركات مُنحدرة من المقاومة المُناهضة للفاشية بالاستيلاء على السّلطة في فرنسا، ايطاليا واليونان تحت شعار :"من المقاومة إلى الثورة!". وفي الوقت نفسه، احتل الجيش الأحْمر لستالين معظم دول أوروبا الشرقية، بعد أن قدّم الجزء الأكبر من جهده في الحرب ضد المانيا. وخلال مؤتمر يالطا، ومؤتمرات الحلفاء المتعاقبة، تخلّى تشرشل وروزفلت (وفي ما بعد ترومان) عن أوروبا الشرقية برعَاية حَليفهم سْتالين في مقابل وعده لانهاء دير الثورات في أوروبا الغربية. وفي اليونان، رفض العديد من أنصار الشيوعية الامتثال لأوامر ستالين بوضع السلاح وتمردوا على الحكومة البريطانية. وهكذا سيتم قمع حركتهم بعنف من قبل الحكومة اليمينية المتطرفة وعملاء ستالين، بسبب العزلة الجغرافية والحصار المفروض. في الوقت نفسه، قفز ستالين على المقاومين المحليين ضد النازية في بلدان أوروبا الشرقية المحررة حديثا (التي يسيطر عليها الشيوعيين) وفرض "الدمى الشّيوعية" الموالية (لشخصه) التي خاضت الحرب في موسكو. بعد بضْع سَنوات، بدأ العمّال ومثقفي أوروبا الشّرقية بالتمرّد ضدّ الدّولة "البُوليسية الشّيوعية"، وتوحدوا في إضراب عام ( في برلين، 1953)؛ وقاموا بإنشاء مجالس العمال (في هنغاريا، 1956)؛ إعتمدوا "الاشتراكية الإنسانية" (في تشيكوسلوفاكيا، 1968)؛ وأسّسوا نقابة التضامن المستقلة (في بولندا1981). وأجهضت روسيا دون صعوبة هذه الثورات (حتى سنة1989) لأنها بقية معزولة جغرافيا في البلدان الشيوعية التابعة وكانت متباعدة زمنيا أيضا. وعلى الرّغم من من أن القوى الغربية دعت إلى المقاومة المناهضة للشيوعية عبر بروباغاندا راديو أوروبا الحرة (Radio Free Europe)، إلا انها أدارت ظَهرها لهذه الثّورات الحَقيقية وسمحتْ للدّبابات الروسية بسحقها من دون أية بادرة لتقديم الدعم لها. في الخَمسينيات والستينيات، حَاربت الشّعُوب المستعمرة في آسيا وأفريقيا من أجل استقلالها. لكن النخب الجَديدة العسكرية والبيروقراطية - التي تنبني على إيديولوجيات "قومية"، "ديمقراطية"، "دينية" أو "ماركسية" - أخدت مقاليد السلطة. بَدل من تحقيق حلم الوحدة الاشتراكية الدولية أو عموم أفريقيا، تَنازعت هذه النّخب فيما بينها، مستغلة السياسة القبلية، وراكمت ثروتها عبر معاملات مُربحة مع الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة والشركات متعددة الجنسيات، التي لا تزال اليوم تدمّر الأراضي والشعوب، لا سيما في أفريقيا، في بحث حريص عن النفط والمعَادن الثّمينة. في سنة 1968، اجتاحت موجة من الثّورات الشّعبية العَديد من البُلدان، متحدية في الوقت نفسه الإمبريالية الروسية والغربية. وعلى الرّغم من الأهداف المماثلة والتفاهم المتبادل، بقيت هذه الثورات معزولة جغرافيا وقمعت في نهاية المطاف من قبل الشرطة والقوات المسلحة من مختلف الحكومات. هذه الحركات تلهم بعضها البعض - من فيتنام إلى باريس، من براغ إلى الولايات المتحدة - وتتشارك نفس الأهداف. ولكن، كانت مفصولة عن بعضها البعض من خلال "الستار الحديدي" والطبيعة الجنينية لوسائل الإعلام والاتصال التفاعلي، وكان متمردو 1968 غير مرتبطين عالميا وغير قادرين على تنسيق تحركاتهم دوليا وفي الوقت المناسب [للحصول على مزيد من المعلومات حول الموجة الثورية لعام 1968، انظر الفصل الخامس الذي سينشر ضمن هذه السلسلة حول ظهور أمميات غير مرئية]. سقوط جدار برلين 1989. عندما سَقط جدار برلين وتم إسْقاط الدكتاتوريات التي فَرضها موسكو في بلدان أوروبا الشرقية، ركنت اليوطوبية (utopique) الغربية لسنة 1968 تحتَ عشرين سنة من الثورة النيوليبرالية المضادة، التي يجسدها الشعار الشهير لرئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر، التي توصف ب"المرأة الحديدية": "لا يوجد خيار آخر". في هذا السياق الدولي، لم يكن الطّلاب والعّمال المتمردون يتضامنون مع الروس والأوروبيين الشرقيون المحررين حديثا، بل على العكس من ذلك، تم اغراقهم من قبل المضاربين الرأسمالين، وسيتم اجتياحهم من قبل ممثلي النقابات الأمريكية المسيحية التي تبشر بالإنجيل للمدخرات الخاصة، و"أبناء شيكاغو" الذين يبشرون ب"العلاج بالصدمة" بينما يقوم المافيوزيون الرأسماليون بخوصصة المعامل والسّكن الجماعي اللذان تم إنشاؤهما بمشقة من قبل العمال السوفيات -والذين لازالوا يملكونها رسميا، حسب القوانين الشيوعية. إنها سرقة القرن! إن الانتفاضات والمقاومات لتحرير الشعوب محكوم عليها بالعزلة، الاحتواء أو القمع؟ إن شعَار ''مُتحدون نَفوزُ، ومُنقسمون نَهلك" لن يأخد اليوم معناه إلا على مستوى كل الكوكب. وأي ضرر يمس أحَدَنا هو ضرر يمسنا جميعا، أينما تواجد على سطح هذا الكوكب. وتبين التجربة أن الحركات من أجل العدالة والمساواة محكوم عَليها بالفشَل إذا كانت تقْتصر على بلدٍ واحدٍ. ربّ معمل لن يدفع أبدا أجر 20 دولار لعامل أمريكي اذا كَان يمكنه الاستعانة بتَصدير عمله إلى دكتاتورية أخرى (بدعم من الحكومة الأمريكية)، حيث سيكلفه 20 سنتا في الساعة. وهكذا، فإن العولمة تفرض في كل مكان "السباق نحو الحضيض" بين العمال الأميركيين والأوروبيين والعمال في البلدان المتخلفة ذاتُ الأجُور البئيسَة. إنّ الأجُور وظُروف العَمل تتدهور في جميع أنحاء العالم. من الواضح وفي ظل اقتصاد العولمة، أن حقوق الإنسان والمكتسبات الاجتماعية والإصلاحات لفائدة الفئات الشعبية لا يمكن أن تنشأ على نحو مستدام في دولة واحدة إذا لم تكن تشمل العمال في جميع البلدان. وبالمثل، لتنجح الحركات لصالح حقوق الإنسان وحماية البيئة يجب أن تكون دولية.
الخلاصة: إذا كنا نريد أن "نرفع الأرض"، يجب أن يَكون ذراع التّضامن عَالميا. إذا كُنا نريد أن نُفعل سياسيا وواقعيا "سيناريو التمرد" على مثن سفينة الفضاء "الأرض"، علينا ان نَتصوّره كتمردٍ كَوكبيّ. في القرن الواحد والعشرون، التّكنولوجيا الحدَيثة للمَعلومات تَمنح إمْكانيات واسعَة للتنظيم الذّاتي. العُزلة الجغرافية والزمنية لم تعد حَواجز لانتشار الموجات الثورية (فقط تخيل تضامنا عالميا!). أصْبح نَجاح التّمرد على متن السفينة الفضائية (الأرض) إمكانية عَملية - وفرصة حقيقية لانْقاذ الكَوكب. ويمكن أن يحدث غدا. يتبع…! ترجمة : عبد الصمد أيت عيشة، هشام منصوري، قدس لفناتسة. للإطلاع على الجزء الأول : اضغط هنا للإطلاع على الجزء الثاني : اضغط هنا