14 أكتوبر, 2017 - 03:17:00 بعد استعرضنا في الجزء السابق، أرخميدس" ينبعث من جديد لإنقاذ مركبة الأرض (1) لمقدمة حول النظرية التي يقترحها المؤرخ اليساري ذو الأصول الأمريكية "ريتشارد كريمان" اعتمادا على نظرية " أرخميدس"، وتحدث فيها عن ثلاث ركائز أساسية لإنقاذ الأرض من الهلاك (الرافعة الإجتماعية، الأرضية الإلكترونية، ونقطة الارتكاز الفلسفية). يفصّل الكاتب في هذا الجزء، أهمية التضامن العالمي، كمحور أول، والذي تصوره ''كرافعة إجتماعية'' لنظرية أرخميدس الحديثة (الكتاب الذي ينشر على موقع ''لكم'' لأول مرة مترجما إلى العربية) ويعرج الكاتب على معطيات تارخية وغريزية تؤكد أن التضامن صفة إنسانية يتم كسرها من طرف ضباط السفينة التي تخيلناها في الجزء الأول (المقدمة)، ويؤكد كريمان خلال النص الآتي أن هذه الصفة النبيلة أصبحت اليوم ضرورة لا مناص منها لإعادة التوازن لمركبتنا الفضائية (الأرض). كريمان يعرج على وقائع تاريخية، وبشرية تطورت عبر مر الزمن لإثباث نظريته، وتحدث كذلك على تجارب الشعوب، والعمال، وإتحادات كان لها الفضل في تغيير مجرى التاريخ. رافعة التضامن الأممي إن الرّافعة التّي سَنسمّيها هنا ''التضامُن الأممَي'' هي العنصر المألوف من بين العناصر الثلاث المذكورة سالفا. نعْلم جميعًا أن الأعْداد الكَبيرة تمْنح القوة، كمَا أكّد ذلك الشّاعر الثوري "بيرسي بيش شيلي": "عددنا كبير، وهم قلة"، 99 في المائة مُقابل واحد في المائة فقط. ستّ مليارات مقابل بضع ست آلاف مِليارْدير فوقَ هذه الأرْض. ولو اتّحَدنا سَنفوز، منقسمون هكَذا مَصيرنا الهلاك. و"في الاتحاد قوة " كما يردد النشيد القديم المعْروف. ولكن التضامن الأممي هنا ليس تكتيكا واقعيا فقط، أو ضرورةً عمليّة فحسب، بل هو أيضا قيمة اجتماعية وإنْسانية أسَاسيّة. ف "عندما يُصاب أحدنا بمكروه - ولو أصاب أبله أطفالنا- هو مكروه يُصيبنا جميعا"، ذلك ما يقوله شعار نقابي قديم عنْدما يلخّص في حدّ ذَاته كلّ التعاليمِ الدّينية الكُبرى في الألفي سنة الماضية. لنعد إلى تمردنا. إذا كَان الرّكاب والبّحارة البُسطاء المسْجونون في مخْزن وفي مَقصورات منْفصلة لا يجِدون وسيلةً للّتجمع والتوحيد، فلن يَتمكّنوا من فتح الجسر قبل أن يؤدي جشعُ الضّباط الجُنوني هذا المركب إلى الدّمار. ولكْن كيف؟
إذا اعتمدنا في سيناريو تمردنا على مثال في التاريخ، نرى أنه منذ العصور القديمة، أثبت تضامن الجَماهير قوته خلال الحَركات الثّورية. مُنذ ثورة سبارتاكوس والعبيد، استطاع الفقراء والمقموعين والمستغلين من تَوحيد أنفسهم واستخدام عَددهم لانتزاع تنازلات من أقوى مُضطهديهم، وتمكّنوا حتى من الإطاحَة بهم. على مر العصور - منذُ انتفاضات الفلاّحين خلال القُرون الوسْطى، مرورا بالثورات الكُبرى في القرن 18 و19 و20 وصُولا إلى "الرّبيع العربي" في 2011- استطاعت الجماهير، متحدةً، من هزيمة القوى القَائمة، رغْم أنّها كانت جدّ منظمة وأكثر تسليحا. مؤقتا على الأق، ومحليا على الأقل. كانت العزلة دائما هي المشكلة. ولكي يكُون هذا التّضامن فعلاً عليهِ أنْ يمتد. و عليه فعْلا أن يَكُون أمميا في ضل العولمة القائمة حاليّا.
لن نَكُون واهمين، لمْ يسبق للمتحكمين أن تنازلوا، أبدا ولا في أيّ مكانٍ، عن أيٍّ من قُوتهم أو امتيازهم من دُون كفاح مرير. فالعّمال البسَطاء اسْتطاعوا انتزاع هذه الحقوق الدّيمقراطية عبر توحدهم في حركات جماهيرية، في نقاباتٍ وأحزاب سياسيةٍ: الاقتراع العَام، الحق في التجمع، حرية تكوين الجمعيات، الحرّية النّقابية، ثمان سَاعات عَمل، القوانين التي تعمم التّعليم للجميع، ولوج الخدمات الصّحية، السلامة في العمل والمساعدات الاجتماعية. هذه الإصلاحات- التي يتم إعادة النّظر فيها حاليا- تم أيضًا الحُصول عليها بعد نضَالات طويلةٍ على مدى أجيال، وحتى الآن فقط، في أوروبا وأمريكا الشمالية وفي عدد قليل من الّدول الآسياوية أو بعض المستعمرات السّابقة. أما اليوم فالرّأسمالية النّيوليبرالية شنت هجُوما دوليّا على هذه الحُقوق الأسَاسيّة، بما في ذلك المُجتمعات الغنّية والمتقدمة. وعلي الرغم من التضحية بالعديد من الأجيال في سبيل الديمقراطية والإستقلال الوطني، لا تزال هناك مناطق واسعة من العالم حيثُ لم تظْفر الشّعوب بعد بالحرّيات الفردية، ولا الحقوق المدنية ولا إتاحة الفرصة لإبداءالرأي في الشؤون العامّة. بالاضافَة إلى أنّ "قوة العَمل" تُباع هزيلة بشَكل كبير. و"بفضل العولمة''، تستغل الشركات العابرة للقارات اليد العاملة الرخيصة في هذه المناطق، بحيث أن الرأسمال قد فرّ من الدول الديمقراطية، التي لا زال فيها للمأجورين قدرة على الدفاع عن حقوقهم إلى حد ما، للاسثتمار في الديكتاتوريات التي تنعدم فيها امكانية هكذا مُقاومة. حتى في الديمقراطيات الليبرالية التقليدية، تتم إقامة دولة بوليسية حامية للأغنياء وذات هَاجسٍ أمني. السّم الذي تم تصديره هناك يعود جنبا إلى جنب مع بؤس يليق بالعالم الثالث. عَدم المساواة والطبيعة الإنسانية "وماذا عن الطبيعة الإنسانية؟" يقول البعض. أليس الناسُ أنانيون بطبيعتهم؟ بالطبع تستند العُدوانية والعنف والمنافسة والجشع – كما يتضح ذلك من ضباط العدائية على مركبتنا الفضائية (الأرض) وكذا من معظمنا في قضايا شخصية- (تستند) على الغرائز الطبيعية : التي تعتبر صفات يشجعها، يكافئها وبالتالي يُعززها المُجتمع الرّأسمالي. لكن التّعاون والتضامن أيضا والبقاء على قيد الحياة هي صفات غريزية في شخصية الإنسان، ربما هي الأكثر أهمية، ومع ذلك تبقى أقلّ وضوحا لاعتبارها مكتسبة. إلا أنّهُ من دون رعاية واهتمام الآباء والأمهات والأسر الممتدة والمجتمعات المحلية، لا يمكن للطفل يستمر على قيد الحياة خلال هذه الفترات الطّويلة ولن يستطيع حتى تعلم اللغة. في تاريخ البشرية الطويل، كان التضامن والتعاون أكثر فائدة لبقائنا مقارنة مع المنافسة والعدوان. كما تشير ''باربارا إرينرتش'' في "طقوس الحرب. محاولة في نظرية هوس الدم"، فالإنسان البَدائي - جماعات من النساء والرجال والاطفال العراة، بدون مخالب. ومسلحين فقط بعصي مصقولة وحجارة - كان فريسة سهلة في يد اللثدياث العملاقة كالفهود ذات الأنياب الكبيرة. فكيف تمكنت هذه المجموعات البشرية البدائية من حماية نفسها من هذه الحيونات الضخمة؟ على ما يبدو، كان اجدادنا يرتدون لباسا خاصا، يشكلون جوقة ملوحة بالأغصان، مستعملين أصواتهم وأدواتهم لاصدار ضجة مروّعة، ويشرعون في الرقص على اقاعات مختلفة لطرد هذه الكائنات الضخمة ! هذه ليست مزحة. ضع نفسك مكان الفهود التي تبحث عن وجبة خفيفة قد تكون عبارة عن طفل بشري يتنقل ببطء، لتجد نفسك فجأة في مواجهة جماعة مكونة من خمسين رجلا وامرأة وطفلا، يضعون اغصانا فوق رؤوسهم ليبدو وكأنهم يقيسون ثلاثة أمثار، ويلوحون بالأغصان كمخالب على طول أذرعتهم الممدودة، يقفزون ويدوسون الأرض بارجلهم ويقرعون الطبول بإيقاع، وهم يتقدمون معا كجسد واحد شبيه بثنين صيني طوله يقيس ثلاثين مترا، بصرخات حادة تنذر بالموت. "حسنا، على أية حال، لم أكن أرغب بطفل بشري اليوم". وفقا ل"إهرنريش"، يجب أن ننتظر آلاف مئات السنين قبل بروز طائفة من البشر المفترس، ذكور، عدوانيون ومسلحون بأقواس ورماح مصنوعة بخبرة عالية لاصطياد حيوانات مفترسة أخرى، يطلقون على نفسهم لقب "القادة" ويهيمنون على المجتمع - كما هو الحال بالنسبة لضباط المركبة الفضائية الأرض. وهكَذا، ففي مُواجهة الرأسمالية المُعولمة، لا يُمكن أن يكُون ا أيّ تضامنٍ فعّالٍ إن لم يكن أمميًا. وقد سبق في القرن التاسع عشر، أن خرج العمّال بهذا الاسْتنتاج بعد هزيمة 1848 عقب الثورات الديموقراطية التي هزت أوروبا بَكاملها. وهَكذا شكّلوا الجَمعيّة العالمية للعمال سَنة 1864. وبعدَ جيل، ستوحّد أممية عًمالية ثانية مَلايين العمّال في عشرات الدول تحت راية الديمقراطية الاجتماعية. وانظمّت الفدرالية الأمْريكية للعمل (ستتحول لمنظمة رجعية لاحقا) إلى منظّمة أمميّة، حيث سَتقترحُ سنة 1889 إطلاق إضْرابٍ أمميّ يوم فاتح ماي 1890 من أجْل تحديد العَمل في 8 ساعات في اليوم. ومنذ ذلك الحين، أصْبح فاتح ماي يوما عالميا للعمال. في عالم اليوم، وفي عهد الرأسمالية المعولمة، أصْبحت الحاجة إلى التضامن الأممي أكثر وضُوحا. "رافعة التضامن" يجب أن تتجاوز الحدود إذا كنا نُريد أن نَجعل منها أداةً فعالة ضد "السباق نحو القاع". من دون التضامن على المستوى الدولي، سَيُهيمنُ الميليارديرات - القادرين على تحويل أموالهم إلكترونيا ونقل مراكز الإنتاج لمعاملهم من بلد إلى آخر بتكلفة هزيلة- سَيهيمنون على مَلايير البشر الجالسين في منازلهم دون أن تكون لمعظمهم القدرة على عبور حدود بلدانهم للبحث عن عمل في ما يزعم أنه "سوق العمل الحر". فهكذا تمكنت الشركات الأمْريكية من نقل مَراكز إنتاجها إلى الجَنوب الخَاضع إلى التفرقة والمتعارض مع النقابات، ثم تمّ إفقار المكسيك بعد أن فُرضتْ عليه اتفاقية التّجارة الحّرة لأمريكا الشمالية (NAFTA)، والآنَ يتنقلون إلى آسيا حيث الأجور أكثر بؤسا. لا يمكن للمرء إلاّ أنْ يتخَيل العَواقب المستقبلية للمعاهدات النيوليبرالية الأخيرة (TTIP et TPP) والتي يبقى غرضها الوحيد هو تجريد البيئة والعمال من حقوقهم سَواء ا في أمْريكا، أوروبا وآسيا. ترجمة: عبد الصمد أيت عيشة، هشام منصوري، قدس لفناتسة للإطلاع على المقال السابق: "أرخميدس" ينبعث من جديد لإنقاذ مركبة الأرض