شكّل نشر مشروع دستور 2011، في الجريدة الرسمية (ع 5952 مكرر، بتاريخ 14 رجب 1432، 17 يونيو 2011)، إعلان عن انتهاء مرحلة إعداد الوثيقة الدستورية، التي تميّزت بنقاش مجتمعي حاد أدلت فيه مكونات المجتمع المغربي بما لديها من مقترحات ومواقف، وعبّر فيه المعنيون على طروحاتهم وتصوراتهم حول مضمون أسمى وثيقة دستورية في البلاد، لاشتمالها على قواعد قانونية آمرة، تؤطر العلاقات بين السلط، وتحدد الحقوق، وترتب الالتزامات.. إذا كان نشر مشروع الوثيقة الدستورية المعروضة على الاستفتاء بشكل رسمي، يعتبر عملية ضرورية تسبق عادة مرحلة إقرارها وتبنيها، فإن النشر من جهة ثانية يعد ايذاناً بإنطلاق نقاش دستوري آخر يهم هذه المرة التصويت عليها، بعد انصرام الأجل القانوني المحدد للحملة الاستفتائية، والذي تتباين فيه المواقف وتختلف الرؤى بشكل لا يقل عن مرحلة الإعداد صراعاً وتدافعاً. إن عملية استقراء المواقف المعلنة والمعبّر عنها حول مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء، ومحاولة نمذجتها، تعترضها مجموعة من العراقيل، وتحول دونها صعوبات كثيرة خصوصاً على المستوى المنهجي، وذلك للأسباب التالية: عدم استكمال دائرة الآراء والمواقف المعبّر عنها، بحيث إن الأجهزة التقريرية للأحزاب والنقابات والفعاليات المعنيّة لم تُعقد كلها بعدُ، على الأقل إلى حدود كتابة هذه الأسطر، وبالتالي من الصعب المجازفة بوضع تصنيف معين، قد لا يعكس بالضرورة كل الآراء المعلن عنها؛ الصعوبة المنهجية الثانية قد تبدو مناقضة للأولى، لكن تبقى لها وجاهتها وحجيتها، يتعلق الأمر بالكم الهائل من الأدبيات المحصّلة اليوم من النقاش الدستوري الحالي (مذكرات حزبية، كتابات أكاديمية، بيانات، تصريحات صحفية، متابعات إعلامية..)، يصعب جمعها أولاً بشكل فردي، لأن الأمر يتطلب مجهوداً جماعياً مؤسساتياً، ملقىً على عاتق المجلات المتخصصة، أو مراكز البحث والدراسات.. ثم تصنيف كل ذلك المنجز بشكل علمي وموضوعي ودقيق، ينضبط للمعايير العلمية والأكاديمية؛ تصنيف الآراء المعبّر عنها إلى تيارين أو ثلاثة تيارات، يجد صعوبته كذلك في كون داخل التيار الواحد، لا يوجد اتفاق كامل أو «إجماع» كلي، وبالتالي فتصنيف حزب في خانة المؤيدين لمشروع الدستور، فيه عسف اتجاه الأقلية التي لم توافق من داخل الحزب على القرار المتّخذ؛ لجوء بعض الأحزاب إلى آلية التصويت خلال انعقاد المجالس الوطنية، من أجل حسم مسألة تأييد مشروع الدستور أو رفضه، ولو أن ذلك احتكام لآلية ديمقراطية، فإنها تبقى ظاهرة غير صحية، لأن الأمر لا يتعلق بانتخابات أجهزة معينة، بل الأمر يهم موقف مصيري يرهن مستقبل البلاد لسنين طويلة، وبالتالي فنتائج التصويت التي قاربت نسبة 90% لصالح دعم مشروع الوثيقة الدستورية عند بعض الأحزاب، جعلها تغطّي على الأصوات المعارِضة، وإن سُمح لها بالتعبير الحر خلال انعقاد تلك المجالس؛ لكن رغم كل هذ المحاذير المنهجية الواجب الإفصاح عنها قبلاً، يمكن القول إن مشروع الدستور المعروض على استفتاء الفاتح من يوليوز، قد أفرز توجهين رئيسيْن في الساحة السياسية والمجتمعية، وطبعاً لكل توجه دفوعاته ومنطلقاته ومسوغاته التي تبقى مقبولة مبدئياً، ومن حق كل طرف أو تيار حشد الدعم لها، شرط الاحتكام لقواعد النقاش السلمي والحضاري والمسوؤل. التوجه الأول يؤيد مشروع الدستور، ويدعو إلى التصويت عليه بنعم يوم الاستفتاء، ويدخل الحملة الاستفتائية من أجل إقناع أكبر عدد من المواطنين بصوابية اختياره، ووجاهة تبريراته، ومنطقية مرتكزات موقفه.. التوجه الثاني، يقف على النقيض من التوجه الأول، ويختلف معه في المرجعيات والأسس، معتبراً ألا شيء استجدّ، ويدعو إلى الامساك عن التصويت، وينوي استغلال الحيز الزمني المسموح له به في الإعلام العمومي إسوة بباقي الأحزاب الآخرى، للدعاية لموقفه ومحاولة إقناع المواطنين بكونه على صواب ولا يجانب المنطق في شيء. إن حجج الطرف المؤيد لمشروع الدستور الذي بموجبه سوف يُدعى المواطنون للتصويت، يمكن إبرازها في أن مشروع الدستور السادس: تتويج لمسيرة طويلة من النضال من أجل إقرار إصلاح دستوري شامل، بحيث إنه جاء بعد سنوات طويلة من الترافع حول المسألة الدستورية، وهو نتاج توافق وطني واسع، وبالتالي واهمٌ اليوم من يعتقد أن المراجعة الدستورية أملتها رياح التغيير القادمة تونس ومصر..، أو أنها جاءت بضغط من حركة العشرين من فبراير؛ جاء استجابة لكل المطالب الواردة في المذكرات التي رفعتها تلك الأحزاب إلى اللجنة الاستشارية المكلفة بوضع الدستور، التي يرأسها الأستاذ عبد اللطيف المنوني، وبالتالي كيف ترفض شيئاً دعت هي إليه؛ لأول مرة يعرف المغاربة من وضعه، لأن أعضاء لجنة الدستور هم مغاربة، بعدما كان الأمر حكراً على الفرنسيين في الغالب، مما أثمر جواً يطبعه النقاش والتشاور المثمر والحر والشفاف؛ يؤسس لثورة هادئة، ولتعاقد سياسي جديد بين الملك والشعب لم يسبق له مثيل؛ تعبير عن إرادة ملكية ساعيّة لتتويج مسار الإصلاحات بدستور ديمقراطي متقدم، يضاهي دساتير البلدان الغربية الأكثر عراقة في الديمقراطية، بل ومختلف عن الدساتير السابقة، ومتميز عن جميع دساتير الدول العربية والإسلامية، ويقترب جداً من دساتير الدول المتجذرة في الديمقراطية؛ يوفر المناخ الايجابي لتعزيز الثقة، ويعبّد الطريق أمام إصلاحات سياسية آخرى أكثر ديمقراطية وعدالة؛ يشكل تحولاً تاريخياً في مسار استكمال بناء دولة الحق والمؤسسات، من شأنه تغيير بنية الدولة؛ يكرس توابث الأمة واختياراتها الوحدوية والديمقراطية والحضارية، باعتباره دمج إيجابي بين الخيار الديمقراطي والمرجعية الإسلامية؛ منعطف حقيقي في الحياة الدستورية، ينقل البلاد من ملكية تنفيذية حاكمة إلى ملكية برلمانية تحكيمية؛ يؤسس لمغرب التفرد والاستثناء بين دول عربية بينهما من القواسم المشتركة الشيء الكثير، إلا أنه تمكن من تحقيق ثورة هادئة دون قطرة دم واحدة؛ يتجاوز مطالب القوى الحية في بلادنا، بحيث إنه متفرد في شكله ومضمونه، بضمه لأبواب حملت مقتضيات إيجابية لم تكن منتظرة البتة، تصون كرامة كل المغاربة. بناءً على كل ذلك، تدعو هذه الأحزاب إلى التصويت بنعم، ولكن ليس أي نعم، بل «نعم» قوية للمغرب الجديد، مغرب المستقبل والأمل، مع التأكيد على ضرورة المشاركة المكثفة، من أجل تحقيق الإجماع المطلوب في هذه اللحظة السياسية التي تتطلب التعبئة واليقظة، لأن الخصوم والمتربصين يريدون أن يفسدوا على المغاربة فرحة النصر، وآيضاً لأنه من " العيب " أن يدعو الملك المواطنين إلى التصويت على مشروع الدستور بالايجاب، ويكون لأحزاب هذا التيار رأي آخر مخالف. في هذا التوجه يمكن إدراج كل من: الحركة الشعبية، الاتحاد الدستوري، التجمع الوطني للأحرار، جبهة القوى الديمقراطية، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التقدم والاشتراكية، حزب الاستقلال، العدالة والتنمية، حزب البديل الحضاري، حركة التوحيد والإصلاح، الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، الاتحاد المغربي للشغل.. الطرف الثاني في هذا المشهد الدستوري، بعد استحضاره النقط المضيئة في مشروع الوثيقة الدستورية، وكل الجوانب الايجابية التي جاء بها، اعتبر ذلك غير كافٍ، ولا يرقى إلى مستوى تطلعاته والآمال التي علقها على هذه المراجعة الدستورية، وبالتالي فهو يدعو بكل ثقة إلى مقاطعة الاستفتاء، ويحاول جاهداً تصريف مواقفه وطروحاته بين أكبر عدد من المواطنين، مستعملاً كل الوسائل المتاحة من أجل حمل الناس على رفض مشروع الدستور الجديد لأنه: ممنوح، لم يوضع بشكل ديمقراطي عن طريق انتخاب جمعية تأسيسية، وحتى لجنة تعديل الدستور لم تتوفر فيها شرط الديمقراطية لأنها عُينت من طرف الملك بشكل فوقي، وشرط التمثيلية لأن تركيبتها لم تعكس كل الحساسيات والتعبيرات الموجودة في المجتمع، وأن طابعها يغلب عليه المحافظة، حيث تم إقصاء كل من سبق له التعبير بشكل علني وصريح على الدعوة إلى إقامة نظام يقوم على الملكية البرلمانية؛ يعبّر على كون النظام السياسي غير جاد في الدفع بالإصلاح السياسي والدستوري، ولا يتوفر على الإرادة السياسية الحقيقية للقيام بإصلاحات جوهرية تنزع عنه طابعه المتسلط، بحيث لو كان جدياً فعلاً لما قمع تظاهرات حركة العشرين من فبراير أياماً قليلة بعد الخطاب الملكي للتاسع من مارس، بحيث تم الهجوم على نشطاء الحركة بشكل غير مقبول ولا مبرر، وما تلا ذلك من عنف مجاني في حق الحركة والهيئات السياسية الداعمة لها والمتبنية لمطالبها، واللجوء على تأليب المواطنين والتجار على الحركة، وتسخير أصحاب السوابق العدلية من أجل التشويش على المسيرات والوقفات والمبادرات التي يدعون إليها؛ لم يُرافق بتدابير سياسية وحقوقية حقيقية، تعطي إشارات سياسية قوية، من خلال الإفراج عن من تبقى من المعتقلين السياسيين، والقطع مع المفسدين وناهبي المال العام...؛ مناورة جديدة من أجل الالتفاف على هذا الحراك الشبابي الحاصل، وقتله في مهده، حتى لا يتطور ويتنامى؛ لم يتم احترام المنهجية المتفق عليها، التي تقضي بإخبار الآلية السياسية التي يرأسها المستشار الملكي محمد معتصم، وتضم زعماء الأحزاب السياسية التي قبلت المشاركة فيها، والمركزيات النقابية الأكثر تمثيلية، بالمراحل التي قطعتها لجنة المنوني، وموافاتها بالتقدم الحاصل في أشغالها، حتى تكون على بينة، ثم عرض مسودة مشروع الدستور على الآلية السياسية، ومنحها ما يكفي من الوقت حتى تناقشها مع قواعدها الحزبية، وإعداد إضافاتها واعتراضاتها اللازمة على المسودة؛ مازال يحتفظ بصلاحيات واسعة للملك، وبتالي فإنه لم يُغيّر من جوهر النظام ولا بنية الدولة؛ يتضمن أحكاماً دستورية تهم اختصاصات الملك تتسم بالغموض واللبس، من قبيل: «حامي حمى الملة والدين»، و«صيانة الاختيار الديمقراطي».. مما يجعل المجال واسعاً أمام تأويل النصوص، والذي لا يكون إيجابياً دائماً؛ إفراغ التنصيص على سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية من مضمونه، من خلال تقييدها بعدم الخروج عن «نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة»، على حد ما ورد في تصدير مشروع الدستور؛ التراجع عن التنصيص على «حرية المعتقد»، و«مدنية الدولة»، بعد ضغط بعض الأطراف؛ اللجوء المكثف إلى آلية الإحالة على القوانين التنظيمية لتفصيل بعض الأحكام الدستورية، بالتالي فالمواطن سيصوّت على مشروع دستوري صريح متمثل في الفصول المائة والثمانون المنشورة في الجريدة الرسمية، ومشروع دستور ضمني، باعتبار القوانين التنظيمية قواعد قانونية مفصلة ومتممة لأحكام الدستور؛ مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء باختصار لا يؤسس لملكية برلمانية، وبالتالي فجواب هذا التيار على مبادرة النظام السياسي المغربي هي مقاطعة هذا الدستور. هذا الرأي يتبناه كلٌ من تحالف اليسار الديمقراطي الذي يضم حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، حزب المؤتمر الوطني الاتحادي، الحزب الاشتراكي الموحد، حزب الأمة، حزب النهج الديمقراطي، حركة العشرين من فبراير، الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، جماعة العدل والاحسان.. إذ يعتبرون أن النظام السياسي فوّت على المغاربة فرصة تاريخية في أن يكون لهم دستورٌ يحترم ذكائهم واختياراتهم، دستور يعكس حجم التضحيات التي قدموها في سبيل الحرية والكرامة.