كنَّا، في المقال الأخير، قد عرضنا لما أسميناه ب"تكرار الإخفاق" الذي طبَع "أداء" المثقف بالمغرب تجاه الدولة التي تمكَّنت من "تسييج" المجتمع اعتمادا على تضافر آليات "الإكراه" و"القبول"، وكل ذلك في المدار الذي جعل الدولة تعلو على المجتمع بل وتُكمِّمه وبالمطلق والكامل. وحصل ذلك منذ أن نالت هذه الأخيرة "استقلالها"، وليتكشَّف، وقبل انطفاء العقد الأول من الاستقلال، "فشل الدولة الوطنية" التي كان المثقف قد علَّق عليها آمالا عريضة، بل ودخل لأجل ذلك سجون "ذل الاستعمار" كما حصل للمهدي بن بركة الذي جعلنا منه "مرجعا" في مجال "تكرار تجربة الإخفاق". وقراءة فكر الرجل، وبما في ذلك سيرته (1920 1965)، جديرة بأن تقرِّبنا من الدولة التي برعت في "افتراس الأحزاب" وجعلها بدون "صوت المثقف النقدي الصلب والشرس". وفي هذا الصدد يمكن أن نفهم فكر الرجل الذي سيظل رديفا ل"الاختيار الثوري" الذي لا يزال، في تصورنا، ينطوي على "أفكار" قابلة ل"الترهين" (Actualisation), وفي مقدَّم هذه الأفكار فكرة "المثقف" ذاته في حضوره الحدي والنابه وغير المهادن، المثقف الذي يجابه ويعبِّر عن المرحلة التي هو وليدها، والمثقف الذي يعي بما كان يسميه المهدي بن بركة نفسه "الغموض الإيديولوجي" ويسعى بالتالي إلى "فك شفرات" هذا الغموض. والمؤكد أنه سيكون من "ألف باء الفكر السياسي"، أو "القراءة الماركسية" بالأدق، إذا ما كنَّا نسعى إلى أن نوحي، هنا، بأننا ندعو إلى "استعادة" فكر صاحب "الاختيار الثوري" حتى "يجيب" على المرحلة التي تشهد، وحقا، على نوع من "الخراب" الذي يقبع فيه المثقف بالمغرب الآن، ولا سيما من ناحية التصدي ل"الأسئلة الحارقة" في أفق اجتراح "الأجوبة المواقفية" وكل ذلك اعتمادا على "الاستدلال السياسي" وليس "الإنشاء السياسي" وفي إطار من "الربط الخطابي" وليس "الهذر الخطابي". ومعنى ذلك أننا ندعو، هنا، إلى تلك "الكتابات السياسية" التي تنأى عن "التمرين السياسي" و"الترقيع الفكري"... وعلى النحو الذي يجعل المثقف على " شفير الألغام"، وتلك هي حال المثقف (ولو الحالم) في العالم الثالث ككل. والغاية من التشديد على المهدي بن بركة هي بدافع من التأكيد، وعلى صعيد العمل السياسي الذي كان ينخرط فيه المثقف، على "التحول الجذري" الذي سيحصل بالمغرب بعد ما يزيد على ثلاثة عقود من "انطفاء المهدي الجسدي". ذلك التحول من الإصرار على "الاختيار الثوري" إلى المطالبة ب"الإصلاح الدستوري". ويمكن تأطير الإصلاح الأخير ضمن نوع من "الإصلاح السياسي الشامل" الذي يعتقد في جدوى سياسة "الكسب الديمقراطي المتدرج" التي أعطت أكلها في تجارب بعض البلدان الإفريقية وحتى الأوروبية. والظاهر أن قَبول الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، وباسم حزب المهدي بن بركة، تحمُّل مسؤولية التسيير الحكومي (1998 2002) كان، في نظرنا، وهو نظر محلِّلين ومراقبين آخربن، بدافع من سياسة الكسب الديمقراطي المتدرج. وهذا على الرغم من "الجدار" الذي اصطدمت به التجربة، وعلى النحو الذي أكَّد، ومن جوانب عديدة، عدم استعداد "النظام" للاعتقاد في جدوى "الإصلاح السياسي" ذاته باعتباره مدخلا ل"الإصلاح الشامل". ودون التغافل، هنا، على "المناخ الحزبي الموبوء" الذي أسهم، بدوره، في تحجيم التجربة، بل وفي إفراغ الحزب التاريخي من مضمونه السياسي وجعله بالتالي كباقي الأحزاب. والظاهر، كذلك أن سياسة الكسب الديمقراطي المتدرج، تظل الأوضح مقارنة مع خيار "النهج الثوري الجذري"، ولا سيما ذلك الخيار الذي لا يزال يتغذى من تلك "المرجعية المتهالكة" والتي لا تزيد إلا في تعميق "الحقد الإيديولوجي" داخل فضاء النقاش العمومي. والملاحظ أن نقاشا من النوع الأخير، ونتيجة النقص المعرفي الكامن في "آلته"، لا يزال يكشف عن العجز عن التفاعل مع مجمل التغيرات التي حصل في اليسار ذاته، وكل ذلك في المنظور الذي أفضى إلى "ما بعد اليسار" (ومن خارج دائرة صرعة "الما بعدية"، هنا) و"اليسار الأكاديمي". ولعل هذا ما يفسِّر، أيضا، مظاهر "الحقد الإيديولوجي" في التعاطي لمواضيع أخرى، وعلى النحو الذي يعيد سيناريوهات "الكراهيات المنفلتة" التي عنوَن بها الصديق الناقد الثقافي البحريني ناذر كاظم أحد كتبه الأخيرة. والمؤكد أنه بالتحول، وفي "عالم الخطاب"، من "الاختيار الثوري" إلى "الإصلاح الدستوري" تكون "مياه كثيرة قد جرت تحت الجسر" إذا جاز أن نتكلم بلغة الشعراء. وفي هذا الصدد لا بأس من تسجيل حضور ما تنعته بعض الكتابات السياسية ب"الدولة المفترسة" التي جسدها المغرب بدوره، وسواء من خلال "المدرسة الأوفقيرية" نسبة إلى "الجنرال الدموي أوفقير (1920 1972) أو المدرسة البصرية نسبة إلى وزير الداخلية الأشهر إدريس البصري (1938 2007). وإذا كانت المدرسة الأولى قد نهجت "الخيار الدموي" الذي لا يؤمن بالعمل السياسي من أساسه فإن المدرسة الثانية لم تجعل من هذا الخيار "استراتيجيا أولى". فقد اعتقدت في جدوى "اللعبة السياسية" وفي استدراج المثقف، أيضا، إلى اللعبة. وهي المدرسة التي سيتم الاستناد إليها فيما بعد في التعامل مع بعض الملفات والوقائع، لكن مع تغيُّر في العامل والأدوار. غير أن المتغيرات التي شهدها العالم العربي ككل، في الآونة الأخيرة، غيَّرت المعادلة السياسية جذريا، مثلما أفرزت "لاعبا سياسيا جديدا" اختار "الشارع" مجالا ل"التمظهر السياسي" وبالقدر ذاته لوَّح ب"خطاب" بدا بعيدا عن خطاب الأحزاب "المكرَّسة" و"المتهالكة" في الوقت ذاته. ولا نظُّن أن نظاما، من أنظمتنا العربية، المأسوف عليها طبعا، صار بإمكانه عدم الإنصات لمطالب هذا الشارع الذي كشف عن عدم نجاعة "المقاربة الأمنية". ونأمل أن يحصل، داخل المغرب، نوع من الاطمئنان إلى "الإصلاح الدستوري" من قبل ألوان الطيف السياسي والثقافي. ونأمل أن يتأطر "الإصلاح الدستوري" ضمن "إصلاح سياسي شامل" قوامه "القطيعة" مع "الدولة المفترسة" في تلاوينها الرمزية وتمظهراتها الميدانية، وعلى النحو الذي يعيد إلى العمل السياسي "شرعيته المفتقدة" التي تجعل "الوحوش السياسية" تدرك "فضيلة التقاعد السياسي" أو تعلن استقالتها من تلقاء ذاتها حتى لا تظل عنوانا عريضا، وفاسدا، على "الأداء السياسي" بالمغرب. حقا لقد أضحى المجتمع المغربي في حال مخيفة من "الفراغ السياسي" بسبب من غياب "التأطير السياسي" الناجم عن التحكم في "تحريك النخب" والناجم عن "الشيخوخة السياسية" في "عيائها الإيديولوجي الملحوظ". ونتصور أيضا أن يلعب المثقف، وعلى طريق هذا التحول الأعرض، أدواره "الطلائعية"؛ لكن دون لف أو دوران. فلا ينبغي أن يترك المجال ل"السياسي الظرفي" بمفردة وبأجندته التي قوامها "الكل في الواحد" و"الامتياز السياسي" و"الاستئثار الشخصي"... وغير ذلك من خواص "الفساد السياسي" الذي يصعب التخلص منه في المدى القريب أو المتوسط. فالمثقف النقدي بدوره له تقديره ل"الوحدة الوطنية" و"تدبير الاختلاف" و"الوحدة القائمة على مبدأ التنوع"... وعلى النحو الذي لا يجعله يزاحم السياسي الظرفي فقط، بل ويتفوق عليه في أحيان وأحيان كثيرة.