في مقالنا الأخير، وهنا بموقع "لكم، والموسوم ب"في التكرار السياسي"، كنَّا، قد عالجنا، وبمعنى من المعاني، معطى "التكرار السياسي" الذي يقع في مرتكز "أداء الدولة" في علائقها بالمجتمع. وكنّا قد خلصنا، في الموضوع ذاته، إلى أن الدولة تمكَّنت، ومنذ الإعلان عن الاستقلال، من أن تبسط قبضتها، الفولاذية، على المجتمع. وهذا على الرغم من الانتفاضات والاحتجاجات التي واجهتها... والتي لم تُُسقط "التاج" عنها. وكنا قد انتهينا أيضا إلى أن السياسي، الحزبي تعيينا، عجز، وبالمطلق، عن التصدي لهذا التكرار، بل وعجز حتى عن إحداث "ثقب صغير" في جدار الدولة وبالتالي "صياغة هامش" بموجبه يتكشف حضوره الذاتي وقبل ذلك يتم التأكيد على الجدوى من تعاطيه ل"العمل السياسي". ويهمنا، الآن، أن نؤكد أن التصدي للتكرار سالف الذكر لا يمكنه أن يكون وقفا على السياسي بمفرده، وهذا على الرغم من أن هذا الأخير يظل الأقرب من "المواجهة الأعرض" بسبب من "الخط الأمامي من الواجهة" الذي يفترض أن يتواجد فيه. فالمثقف بدوره مطالب بالإسهام في "موضوع التصدي" شأن المواضيع الأخرى اللاهبة التي تقع في صميم "الخطاب" الذي يتشكل من مجمل "الأفكار" التي تجعل من المجتمع مجالا لها، وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق مطمح الارتقاء من نفق احتكار السلطة نحو أفق تداولها واقتسامها مع الشركاء السياسيين، الشرعيين. وبتفحصنا، ولو الأولي، في ملف المثقف، ومن ناحية أدائه على مستوى المواجهة، يسهل علينا أن نستقر على "معطى الفشل" الذي طبع الأداء ذاته. الفشل أو "الإخفاق" تبعا للمفهوم الذي كان المؤرخ المفكر الألمعي عبد الله العروي وراء ترسيخه، وبالتالي انتشاره، في الفكر العربي المعاصر، وذلك بعد أن وظَّفه في "النقد الإيديولوجي" الذي دشَّن به دخوله، النقدي الصارم، في "معترك التنظير الإيديولوجي" لقضايا محددة ضمنها قضية المثقف، ولا سيما من ناحية صلته بالدولة الوطنية التي كشفت عن فشلها منذ السنوات الأولى من الاستقلال. والمثال، الأبرز، على طريق الفشل (الإيديولوجي) هو المهدي بن بركة (1920 1965) الذي يصعب الاستقرار على تصنيفه ضمن خانة محددة وعلى الرغم من أن "السياسة" ظلت مدار "فكره الذي يتحرك". ويمثل هذا الأخير، في تصورنا، مفتاحا لفهم "معطى الإخفاق" وبالتالي تدبُّر دلالات هذا المعطى التي لا تزال، وبوتائر متغايرة، متواصلة حتى الآن... وطبعا في إطار من تبدُّلات، وتبدّلات عنيفة، حصلت في أنساق الفكر السياسي بصفة عامة. وأتصور أن منجز الرجل، وداخل المغرب، لا يزال في حاجة إلى قراءات تأويلية مقرَّبة وفي الوقت ذاته متحررة من حصره في "جريمة القتل البشعة" التي لا تزال تحوم حولها الكثير من الكتابات الصحفية والتحليلية مع أن موطن "قوة النص" في حاله كامنة في فكره السياسي الممدَّد في "سائل الإيديولوجيا". لقد حرَص الرجل، وفي بدايات "تشكل الدولة ما بعد الكولونيالية"، على الاضطلاع بدور المثقف الوطني الذي يحلم ب"مجتمع جديد". وثمة كتيب صغير له موسوم ب"نحو بناء مجتمع جديد" (1959) لا يطرح كبير مشكلة على مستوى فك "شفراته"، وعلى الرغم من أن الكتيب كان في شكل "حديث حزبي مرتجل" فإنه انطوى على أفكار سياسية قوية كنَّا قد عالجناها، وفي سياق أوسع، في مقال لنا مطوَّل معنون ب"من المثقف الوطني إلى المثقف العالمثالثي" (وهو مثبت في شبكة الاتصال الدولي). وهذا المثقف كان قرين نوع من "الاختيار الثوري" الذي لا مجال فيه ل"التنازل الإيديولوجي". وعناد الرجل، وباعتباره عناد مثقف، هو ما جعله يصطدم ب"جدار الدولة"، ويجد نفسه وحيدا بل وخارج بلده، ويضطلع بالتالي بدور أعرض هو دور المثقف العالمثالثي. وقد بدا، هنا، مثقفا حالما أكثر منه مثقفا ميدانيا كما كان بالمغرب. وكان مصيره أن "دفن في قبر تبخر في الهواء" تبعا لعبارة أحد شعراء أمريكيا اللاتينية. ومن تم طويت صفحة المهدي بن بركة، لكن دون أن تطوى أفكاره السياسية التي لا تزال ومن خارج شرانقها الإيديولوجية في حاجة إلى التعميق والاجتراح... والتحيين. وقد كان العروي الأقرب، فكريا، من أن ينخرط في المهمة الأخيرة، وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق "الأجوبة المواقفية". وموقع المهدي بن بركة في جبهة "النقد الإيديولوجي" عند العروي لافتة، وهذا على الرغم من أن هذه المكانة لا تعدو أن تكون في شكل "نتف فكرية" موزعة على مدار جبهة النقد الإيديولوجي. وصفوة القول: لقد لخص العروي، وبطريقته التكثيفية، المشكل في "الإيديولوجيا" ذاتها، وذلك بالتركيز على الإخفاق الحاصل في المجال ذاته. وقد عالجنا الموضوع في مقال لنا موسوم ب"إخفاق الإيديولوجي العروي ناقدا لفكر المهدي بن بركة"، وقد سعدت لإدراج المقال ضمن المقالات التي تم انتقاؤها في سياق تقديم العروي ضمن موقع فلاسفة العرب. ويمكن الاطلاع على المقال في الموقع التالي: HYPERLINK "http://www.arabphilosophers.com" http://www.arabphilosophers.com والسؤال الذي يفرض ذاته، الآن، هو التالي: إلى أي حد فكَّر العروي في سد الفراغ الذي أودى بالمهدي بن بركة إلى الإخفاق؟ وقبل ذلك: هل فكَّر العروي في سؤال من هذا النوع؟ بل وهل كان يسعى إلى أن يضطلع بدور من أدوار المثقف ولو في إطار من الوعي التاريخي والإيديولوجي الذي استند إليه في التعاطي لمواضيعه الأثيرة أو في إطار من "التاريخانية" تبعها للمفهوم الجامع الذي صار علامة عليه؟ لقد كان العروي الأقرب من أن يصوغ فكرا يضمن له تواجدا (وغير مريح، طبعا) في الصف الأمامي من المواجهة، ووفق منظور إيديولوجي متماسك. بل وكان بإمكانه مواصلة التنظير (الإيديولوجي) للمثقف وبما يجعله لا يفارق التأكيد على نوع من "أداء المثقف". غير أنه اختار الانتقال إلى جبهة أخرى هي جبهة "النقد المفاهيمي"، وكل ذلك في المدار الذي جعله يصوغ تصورا آخر للدولة باعتباره "ضرورة تاريخية" كما سيقول في مقاله (والأوحد) الذي أسهم به ضمن الكتاب الجماعي الأشهر حول "Edification d'un Etat moderne: le Maroc de Hassan II ." وكما سيقول العروي نفسه، وفي حوار معه، ما معناه أن "الدولة هي الضامن لتفادي الانفجار الاجتماعي". وهو ما لا يمكنها الاضطلاع به من خارج تداخل الثقافة والتاريخ والأنثروبولوجيا والإدارة... إلخ. وسيكون من الصعب أن نقرأ في مثل هذا المقال أي نوع من "الإخضاع" (كما نعته البعض) الذي يمكن أن يلوي بمؤرخ مفكر ألمعي في حجم العروي الذي ظل حريصا على مواقفه الصارمة. غير أن "سطوة المحلل"، جنبا إلى جنب "آليات المفهمة" التي تتسرَّب في كتاباته الإشكالية، لم تجعل منه ذلك المثقف الذي يحاذي الألغام وبالقدر ذاته لم تجعله ودونما أي نوع من التنازل عن "التحليل" "معبود الشباب" وعلى شاكلة مثقف من طينة المهدي المنجرة مثلا. غير أن ما سلف لا يحول دون التأكيد على أن منجز العروي، والمحكوم بأنساق كبرى وصغرى، لا يزال ينطوي على العديد من "الأفكار" التي بإمكانها أن تسد جانبا مهما في دَغل الفشل الحاصل في تعاطي المثقف المغربي للعديد من القضايا اللاهبة. ففكر الرجل يمثل، وبحق، أفقا يمكن الإفادة منه وسواء في التنظير للمثقف أو في "تمثيل" المثقف، لكن دون أي نوع من الانسلاخ عن الالتباس بمجمل المتغيرات التي مسّت أنساق التصور والتفكير ذاتهما، وبما يجعلنا ننفتح في الوقت ذاته على مرجعيات أخرى لا تخلو حتَّى من "جِدَّة تنظيريَّة وأكاديمية". لكن ما الذي حصل فيما بعد؟ هذا ما سيكون موضوع مقالنا القادم.