(العدل والإحسان)، ومنذ ظهور حركة 20 فبراير في الميدان، قدمت الكثير من الدلائل على أنها لا تسعى لركوب الحركة من أجل أهداف خاصة بها، كما أشاعت، وما تزال، الدولةُ وخدامُها وأبواقُها الدعائية، كما أكدت الجماعةُ بالعمل الميداني، الذي لا سبيل إلى تأويله أو التشكيك فيه، أنها فرد من مجموع، وجزء من كل، ومكونٌ من مكونات، ومن ثم فإن غايتها لا تنفك عن الغاية التي تطلبها الحركة بجميع مكوناتها وتياراتها واتجاهاتها. في المسيرات والتجمعات والوقفات وغيرها من الأنشطة الاحتجاجية التي نظمتها حركة20 فبراير، كانت الجماعةُ تلتزم بكل ما يتم الاتفاق عليه، وتحترم، بالحرف، قراراتِ تنسيقيات الحركة في كل المدن. ولا يفوت المراقبَ المتتبعَ لتطور حركة 20 فبراير أن يلاحظ هذا الانسجام والانصهار والتطابق التام لسلوك العدل والإحسان مع شعارات الحركة ومطالبها، حتى بات يصعب التمييز، في الجماهير، في معظم الأحيان، بين شباب العدل والإحسان وغيرهم من الانتماءات الشبابية الأخرى. هذا معطى أول، يشهد له الميدان، ويصدقه السلوك في العمل. أما المعطى الثاني، فهو، في تقديري، ما صدر عن مسؤولين في الجماعة، وما ورد في بعض بيانات الجماعة، من كلام صريح في شأن الأفق السياسي الذي بات يحكم منهاج الجماعة بعد ميلاد حركة 20 فبراير من رحم ما أصبح يُعرَف ب"الربيع العربي". ونظرا لأن هذه المقالة لها طولٌ معلوم لا تتجاوزه، فإني سأختار عُنوانين اثنين، من بين عدة عناوين، يلخصان معالم التوجهات السياسية الجديدة للجماعة. العنوان الأول: من "دولة القرآن" إلى "الدولة المدنية" إن الجماعة، وهي تدعو اليوم للدولة المدنية العصرية، ترد على أولئك الذين يتهمونها بأن منهاجها السياسي كان دائما جامدا على ما ما قاله وما نظّر له مرشدُها الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاباته، وخاصة في كتاب "المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا"، الذي يُعدّ، في زعمهم، برنامج الجماعة الأبدي الذي لا يبلى. والذي لا يعرفه هؤلاء المُتهِمون، أو بالأحرى لا يريدون معرفَتَه، أن "منهاج" الأستاذ ياسين، في شقه السياسي، كان اجتهادا لوقته، دعت إليه ظروفٌ وأحوال، تاريخيةٌ وبشرية وسياسية، ولم يقل أحدٌ، في يوم من الأيام، إنه "منهاج مقدس"، لا يجوز عليه المراجعة والتغيير، بل إن مرشد الجماعة نفسَه قد كتب وصرّح في أكثر من مناسبة بما يفيد أن كتاباته إنما هي اجتهادُ بشر يُؤخذ منه ويُرد، وقابلٌ للتغيير والمراجعة. يُراجعُ، في هذا الموضوع، ما كتبته في مقالات سابقة، عن "المنهاج السياسي لجماعة العدل والإحسان"، وعن "الدستور والإصلاحات الدستورية في خطاب جماعة العدل والإحسان" في الرابط التالي: HYPERLINK "http://majdoub-abdelali.maktoobblog.com/" http://majdoub-abdelali.maktoobblog.com/. لقد أكدت الجماعةُ، وهي داخل 20 فبراير، أن فكرها السياسي ليس جامدا، بل هو حي متطور ومتجدد بحسب الأحوال والظروف المتطورة والمتجددة، وأن قيمةَ الاجتهاد البشري في الفكر السياسي، كيفما كان هذا المجتهدُ، إنما هي في اعتبار هذا الاجتهاد قُصارَى جهدٍ بشريٍّ في وقت معين، وفي مكان معين، وفي بلاد معينة، وفي واقع سياسي معين، وفي ظروف دولية معينة، وبإدراك وفهم ونظر معين، إلى آخر ما يميز الاجتهادَ البشري المُعتبَر من خصائص وصفات. لقد كان طريقُ "القومة الإسلامية" يظهر للأستاذ ياسين، إبّان كتابة "المنهاج"، طريقا لاحبا، وكذلك كان يظهر له الطريقُ إلى إقامة "الدولة الإسلامية القطرية"، مرورا إلى "الخلافة الثانية". لكن الشروط التي وضعها الأستاذُ ياسين للسير على هذا المنهاج، وبلوغ أهدافه، لم تتحقق، ومن ثم بقيت النظريةُ نظريةً، لتعذر وجود الظروف الطبيعية المواتية للنزول بها إلى الأرض. وقد ظلت الجماعة لأكثرَ من ثلاثة عقود تُعالج عقباتِ الواقع العنيد، وتدافع تحديات النظام السياسي الجبري الخانق، وتجتهد من محطة إلى أخرى، ومن معركة إلى أخرى، ومن عهد إلى عهد، ومن ظروف إلى ظروف، حتى انتهت اليوم إلى اجتهاد سياسي يناسب المرحلةَ الحالية، التي يميزها "الربيع العربي"، الذي فجّر في النفوس مكامنَ الغضب والاحتجاج والثورة على واقع الظلم والمهانة والفساد والقمع والاستعباد. ولما كانت الممارسةُ السياسية مجالا للاجتهاد، ومجالا للإصابة والخطأ، فإن الدولة المدنية الديقراطية هي الإطار الأنسب لنظام الحكم، حيث لا يملك الحاكمُ قداسة ولا تفويضا إلاهيا، وإنما هو مواطن اختاره الناسُ برضاهم لتدبير أمورهم، وهم معه، أمامه ووراءه، يراقبون ويراجعون ويحاسبون. وأعتقد أن هذه هي المرة الأولى، التي تتحدث فيها الجماعةُ، باللفظ الصريح، عن دعوتها لإقامة "دولة مدنية عصرية"، يتم فيها تولي المسؤوليات بطريقة سلمية وديقراطية، وتكون فيها السلطةُ مُتداولةً بين مختلف الفاعلين السياسيين خضوعا لإرادة الشعب، وما تُعبر عنه أصواتُه في انتخابات حقيقية لا تشوبها شوائب التزوير والإكراه والرشوة وغيرها من آفات الانتخابات في ظل الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة. العنوان الثاني: من شرط "المرجعية الإسلامية" إلى تعدد المرجعيات إن العنوان الذي اخترته لهذه الفقرة يحتاج إلى شيء من التوضيح، حتى لا يُحمل على غير مَحْمَله. فأنا أقصد بشرط المرجعية الإسلامية الشرطَ الذي اشترطه الأستاذُ ياسين، في كتاباته، على "الفضلاء الديمقراطيين" لصياغة "ميثاق إسلامي" نواتُه الصلبة "جماعة المسلمين". فليس هناك، فيما كتبه مرشدُ الجماعة، شيءٌ اسمه "ميثاق وطني"، أو "ميثاق جامع" بمرجعيات مختلفة ومتعددة، بل إن الرجل كان واضحا كلّ الوضوح حين خاطب خصومَه من الفضلاء الديمقراطيين قائلا: "مشروعُنا أيها الأعزاء أن تدخلوا الميدانَ على شرطنا." (العدل، ص628) ثم زاد في السياق نفسه قائلا: "ندعوكم أن تدخلوا معنا الميدان على شرطنا وهو شرط الإسلام. هذه هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم، حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدين كله لله. حتى لا يزورَ هاجسُ العنفِ رُبوعَنا."(نفسه). والنصوص بهذا الوضوح كثيرة في كتابات الأستاذ ياسين. فالرجل يشترط المرجعية الإسلامية أساسا للميثاق الإسلامي، أو "ميثاق جماعة المسلمين"، ثم، بعد ذلك، لكلٍّ الحريةُ في أن يعبر عن نفسه داخل هذه الوحدة كيفما يشاء. هذا هو "الميثاق الإسلامي" في الأصل المنهاجي، أي في اجتهاد الأستاذ ياسين وكتاباته. أما اليوم، فالضرورة السياسية قد فرضت على الجماعة أن تتجاوز هذا الاجتهاد، وتدعوَ إلى "ميثاق جامع" أو "ميثاق وطني"، لا يشترط على المتواثقين الخضوعَ لوحدة المرجعية الإسلامية، وإنما يعتبر مرجعيةَ الإسلاميين واحدةً من بين مرجعيات أخرى، منها، مثلا، مرجعيةُ العلمانيين، ومرجعيةُ الماركسيين اللينينيين، ومرجعيةُ اللادينيين. وقد سمّيتُ هذا الميثاقَ الذي دعت إليه الضرورةُ السياسية "ميثاق الفضول"، تشبيها له ب"حلف الفُضول" المشهور قبل الإسلام، حيث تعاهد زعماءُ من قريش على أن يكونوا يدا واحدة على الظالمين لصالح المظلومين في مكة حتى يسترجعوا حقوقهم. فالاختلاف في المرجعيات لم يعد عائقا في سبيل صياغة ميثاق جامع، لأن هذا الاختلاف، حسب قياديين في الجماعة، ليس مُهما إذا ما قورن بالأمور المشتركة المتفق عليها بين الإسلاميين ومنافسيهم من أصحاب المرجعيات الأخرى. يقول الأستاذ فتح الله أرسلان، الناطقُ الرسمي باسم الجماعة، في حوار مع موقع "إيلاف" الإلكتروني، في فبراير2011، وهو يتحدث عن علاقة الجماعة بالديمقراطيين العلمانيين: "إن ما يجمعنا أكثرُ مما يفرقنا، وما نختلف فيه يمكنُ تخفيف حدته إن توفرت بيئة صحية للحوار الذي يُنتج ضوابط الاختلاف لتحصين التعايش بين جميع أبناء الوطن الواحد، وضمان الاحترام لجميع المرجعيات، وتسييج كل ذلك بضمانة أساسية وهي التداول على السلطة بناء على الإرادة الشعبية لتجنب أسلوب الإكراه من أي طرف كان. ولهذا فإننا نلح دائما على ضرورة ائتلافنا على ميثاق وطني يكون أرضية ننطلق منها لإنقاذ بلدنا". فالجماعة اليوم "مع توافقات وآليات علنية وواضحة تحفظ لكل الاختيارات السياسية حقها في الوجود وفي التمثيل المؤسساتي، وتحول دون تفرد أية هيئة سياسية، مهما كانت شعبيتها، بهذا التمثيل. إنها مبادؤنا، نعيد التأكيد عليها مرة أخرى. ولا يظنن أحد أننا نزايد." هذا كلام مقتطَف من عمود (ولنا كلمة)، في الموقع الإلكتروني للجماعة، بعنوان "20 مارس والطريق إلى مغرب جديد". فالميثاق الإسلامي، بصيغته المنهاجية الأصلية، لم يعد مناسبا للسيرورة السياسية التي فرضتها أجواء الثورات العربية، ولا للظروف التي توجد فيها الجماعةُ داخل حركة 20 فبراير، والتي من أبرز سماتها التعددُ والاختلاف في المرجعيات والاختيارات والمشارب والاجتهادات. توجهاتُ الجماعة الجديدة، في مجال التدافع السياسي، ترُدّ على أولئك الذين لا يفتأون يطابقون بين مواقف الجماعة واختياراتها السياسية وبين كتابات مرشدِها الأستاذِ عبد السلام ياسين. إن الكتابة النظرية شيءٌ، والممارسة الواقعية شيء آخر. وليس يضير كتاباتِ الأستاذ ياسين واجتهاداتِه أنها لا تستجيب اليوم لمتطلبات الضرورات السياسية، ولا يَنقُص من قيمتها أن الجماعة لم تعُد تجد فيها الأجوبةَ المناسبة للأسئلة الملحة التي باتت تطرحها نضالاتُ حركة 20 فبراير ومعارُكها ومخاضاتُها وساحاتُها الساخنة الموّارة. إن الضّيْرَ، كلَّ الضّيْر، على كتابات الأستاذ ياسين وعلى أمثالها من الاجتهادات البشرية، والنقْصَ كلَّ النقص، أن تتحول إلى أصنام جامدة، وإلى أعمال يُنظر إليها على أنها أبديّةٌ لا يؤثر فيها الحدثان، ولا ينال من جدّتها الجديدان. والجديدان، في العربية، هما الليل والنهار، لأنهما، دائما، جديدان لا يبليان. وبعد، فهل يعي اليساريون، وأخص المتطرفين منهم، هذه التغييرات الجوهريةَ في الاختيارات السياسية لجماعة العدل والإحسان، ويردُّون التحيةَ بمثلِها أو بأحسنَ منها، ويكفّون عن محاكمة النوايا، ويَطّرِحُون قاموسَ التجريح والتشكيك والسخرية والتهريج في التعامل مع الإسلاميين ومشروعهم السياسي، ويَقبَلون، بلا حرج ولا مجاملة، وبروح رياضية، المرجعيةَ الإسلامية واحدةً من المرجعيات المتعددة التي تستلهمها الاجتهاداتُ الفكرية، وتستند إليها الاختيارات السياسية؟ هل نسمع قريبا من اليساريين، وخاصة الذين اشتهروا بمواقفهم العدائية العدمية من الإسلاميين ومعتقداتهم ومشاربهم وأفكارهم، لغةً جديدةً تنحو نحو التصالح والتواصل والتفاهم والتعاون، وتعترف بمرجعية الخصم، كيفما كانت هذه المرجعية، ما دامت تحترم أصلَ التعدد والاختلاف، وما دامت تُغلّب ما يجمعُ ويُقوِّي ويَرفَع على ما يُفرِّق ويُضْعف ويَخْفِض؟ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. مراكش: 28 ماي2006