ما الذي، بالضبط، يصيّر الحكم في سورية ممانعاً، فيما الأنظمة العربية الأخرى غير ممانعة؟ ما هي شمائله التي تجعله ينفرد بصفة الممانعة؟ يصدر السؤالان عن تشكيك بيّن في مقولة ممانعة النظام المذكور أمام إسرائيل، ببساطة، لأنّ شواهد تدلّ على أنه لم يمتنع عن التفاوض مع إسرائيل، مباشرةً أو غير مباشرة، ولم يصل إلى شيء معها ولم يوقع على أيّ اتفاقية، لأنّ إسرائيل امتنعت عن إعطائه حقوق الشعب السوري التي طالب بها، تماماً كما لم تعط قيادة منظمة التحرير حقوق الشعب الفلسطيني، وهي القيادة التي ما وقعت «إعلان المبادئ»، المشهور باتفاق أوسلو، إلا لتنتقل إلى حيث ينبغي أن تكون، في فلسطين. ولم توقع القيادة هذه، حتى بعد عشرين عاماً على مؤتمر مدريد الذي شاركت فيه دمشق، على اتفاقية سلام أو إنهاء للصراع، وكل اتفاقاتها مع إسرائيل لتيسّر إدارة سلطة الحكم الذاتي المحدود شؤون شعبها تحت الاحتلال الذي لم ينكر وجوده سلام فياض ولا محمود عباس ولا أعتى المعتدلين الفلسطينيين. وأن يعيب أحد على المنظمة أنّها لم تشعل مقاومةً ضد الاحتلال، فإنّ الحكم في سورية لم يتمايز عنها، حين لم تشعل شيئاً في تلال وبطاح الجولان المحتلة. يشار إلى هذا الأمر بهذا التبسيط، لأنّ مسألة الممانعة لا يستحقّ الجدال معها أيّ تعقيد، وينحصر نفع الكلام عنها في اللتّ والعجن في افتتاحيات «تشرين» وزميلاتها، وليس في وهم من يزعمون تمايز الحكم في دمشق، في مسألة الممانعة، وهو الذي تنتهك الطائرات الحربية الإسرائيلية أجواء بلاده وتحلّق فوق القصر الرئاسي، من دون أن يسارع إلى أيّ رد، وتضرب إسرائيل منشأةً سوريةً في دير الزور، فلا يقابل عدوانها بغير استنكار وشجب غزيرين، وكان بدعوى أن للمنشأة نشاطاً نووياً، وارتكبته تل أبيب من دون موافقة أميركية، على ما كتب جورج بوش الابن في مذكراته. وسبق تلك الواقعة عدوان على موقع قرب دمشق، قيل إنه معسكر لفصيل فلسطيني موالٍ. وتتشابه هذه السلطة في عدم ردّها على اعتداءات إسرائيلية في أراضيها، مع عراق صدام حسين يوم ضربت تل أبيب المفاعل النووي العراقي، ومع تونس الحبيب بورقيبة يوم انتهكت إسرائيل أراضيها في العدوان على مقر منظمة التحرير، ومع تونس زين العابدين بن علي يوم تسللت مجموعة إسرائيلية فيها لاغتيال خليل الوزير، ومع مصر حسني مبارك في تساهلها مع قتل مجندين مصريين على الحدود مع قطاع غزة برصاص إسرائيلي. ولا يؤتى هنا على تلك الوقائع لتعيير دمشق، بل للتدليل على انعدام تمايزها، وهي الموصوفة بالممانعة، عن غيرها ممن لم يحظوا بخلع هذه الصفة عليهم. وإلى ما سبق، ثمّة ما قال «حزب الله»، عن صدق على الأغلب، إنها جريمة إسرائيلية في اغتيال عماد مغنية في دمشق، فيما لم تجهر السلطات السورية حتى تاريخه، منذ نحو ستّ سنوات، بمسؤولية إسرائيل. وينمّ عدم إعلان السلطات المذكورة عن أيّ نتيجة لأيّ تحقيق قام به في الجريمة عن استخفاف مقيت بحقّ الرأي العام السوري والعربي في معرفة حقيقة الجريمة التي دلّت على استضعاف تل أبيب سورية، وعلى استهانة مشهرة بأمن سورية وسيادتها، وأيضاً على تهاون الحكم في دمشق بهذه السيادة، حين يمتنع عن أيّ إجراء بشأن ذلك الاستضعاف المخجل. علينا أن لا نلتفت إلى هذا الأمر وغيره، وأن نردّد الحدوتة الشائعة عن الممانعة إياها، فلا نلقي بالاً إلى فضائح الردود على الاعتداءات الإسرائيلية في الأراضي السورية بافتتاحيات «تشرين». وفي شأن فضيحة التعمية على اغتيال مغنية، في البال أنّ السلطات المختصة في دبي أشهرت دلائلها على مسؤولية مرتكبي جريمة اغتيال القيادي في حركة حماس محمود المبحوح بكفاءة استثنائية، وكذلك كلّ أدلة في شأن مقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم بعد اثني عشر يوماً على الجريمة. أما عن الممانعة في التفاوض مع إسرائيل، والذي كان وزير الخارجية في حينه، فاروق الشرع، قد أوضح أنّ نهايته، بالكيفية التي تستعيد فيها بلاده حقوقها، تتضمّن علاقات مع إسرائيل، تشتمل على فتح سفارتين، فإنّ الجانب السوري لم يكن مضطراً إلى قبول العروض الإسرائيلية المجتزأة في المفاوضات، سيّما أنّ الحكم مستقر بأمن وأمان، على غير حال الفلسطينيين الذين، أياً كانت المؤاخذات الوجيهة وغير الوجيهة على أداء قياداتهم في التفاوض، في حاجة دائماً لأن يكونوا في أرضهم، مقاومين أو مفاوضين، فيما الحكم في دمشق لا يجد نفسه مضطراً إلى دفع أثمان باهظة في مقابل انسحاب غير كامل من الجولان، وباشتراطات قاسية. وفي المقابل، لا تجد إسرائيل نفسها متلهفةً لتقديم ما قد تعتبرها «تنازلات مؤلمة» في الجولان، سيّما أنّ التزام الحكم السوري باتفاقية سعسع التي تنصّ على الهدوء في وديان وذرى وسهول الجولان، والموقعة في 1974، محلّ إعجاب ومديح فائضين في الدوائر الإسرائيلية، الاستخبارية والعسكرية، يشابههما الثناء الذي استقبلت به هذه الدوائر ما قاله الرئيس بشار الأسد، جواباً عن سؤال حمدي قنديل له، في قناة دبي الفضائية، في 2006، عن أسباب انعدام المقاومة في الجولان، فيما يلزم أن تكون غيرة من المقاومة التي خاضها «حزب الله»، واستطاع بها تحرير جنوب لبنان. قال الرئيس إنّ طريق التحرير يكون من الدولة بالجيش ومن الشعب بالمقاومة، ووحده الشعب من يتحرّك للمقاومة بمعزل عن دولته عندما يقرّر هذا الشيء، أما خوض الجيش حرباً فيصير عندما تكون الأمور محضرةً في شكل جيد. وإذ تجوز استعادة الرطانة إياها عن «التخاذل العربي» عن نصرة الفلسطينيين في أثناء موجات الاعتداءات الإسرائيلية عليهم، مثلاً، في حملتي «السور الواقي» في الضفة الغربية، وكانت إبّانها مذبحة مخيم جنين، و«الرصاص المصبوب» في قطاع غزة، فإنّ السلطة السورية لا تخرج عن ممارسة ذلك التخاذل، ولا تستحقّ أن نمحضها تمايزاً ممانعاً تدّعيه، في تينك الموجتين من الاعتداءات، وبينهما وقبلهما وبعدهما على الفلسطينيين واللبنانيين. ولا شطط في الزّعم هنا إنّ التمايز الذي انفردت به دمشق كان في جولات خنق الفلسطينيين، مدنيين ومقاومين، في لبنان، في ويلات تل الزعتر وغيرها، وكذا في تشديد القوانين على مزاولتهم المهن والأعمال. وكانت حذاقةً من الراحل جوزف سماحة أنه ذكّرنا، في مقالة له غير منسية، بأنّ وزراء العمل اللبنانيين المحسوبين على دمشق كانوا الأنشط همّةً في إسناد تلك القوانين بتعليمات وإجراءات أشنع منها. جيء، هنا، على بعض هذا الأرشيف، البعيد والقريب، لتجريب العثور الصعب على ممانعة حقّة زاولها الحكم في سورية، في شأن المواجهة مع إسرائيل، أو ردّ اعتداءاتها، أو في شأن نصرة الفلسطينيين، فتكون محصلة محاولة هذه التجربة قبض ريح، ما يسوّغ الجهر بأنّ الأزعومة المشهورة هذه هي لتّ وعجن رديئان. وثمة سؤال لمن يستطيبهما، ما إذا كان يمكن أن ينتصر على إسرائيل نظام تطربه معزوفات الممانعة المتوهمة، فيما توغل أجهزته الأمنية قتلاً وتعذيباً وتنكيلاً واعتقالاً بمواطنيه. هل يمكن أن يواجه إسرائيل، ويفلح، نظام يقتل طفلاً اسمه حمزة الخطيب بكلّ التوحش الذي شاهدنا بصعوبة، آثاره المبكية؟. * كاتب فلسطيني