أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    الأزمي يتهم زميله في المعارضة لشكر بمحاولة دخول الحكومة "على ظهر العدالة والتنمية"        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    بيت الشعر في المغرب والمقهى الثقافي لسينما النهضة    الزمامرة والوداد للانفراد بالمركز الثاني و"الكوديم" أمام الفتح للابتعاد عن المراكز الأخيرة    اعتقال بزناز قام بدهس أربعة أشخاص    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مروان البرغوثي يكتب ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي
نشر في لكم يوم 12 - 12 - 2010

ليس هناك مثل التواصل مع العالم الخارجي شرفة للأسير أو المعتقل ليطل على حديقة الحياة. وما من فرح يفوق فرح الأسير حين يشعر بأن ثمة من يتذكره هناك بعيداً من عتمة الزنازين والقضبان الحديدية وسياط الجلادين.
يمثل مروان البرغوثي رمزاً ونموذجاً لآلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب القابعين في معتقلات العدو الإسرائيلي بأحكام تعسفية جائرة تصل إلى مئات السنين، سعياً إلى كسر إرادة الحرية والاستقلال لدى الشعب الفلسطيني الذي يواصل مسيرته في جلجلة كفاحه النبيل... ولقد تحول البرغوتي بقلمه وكلمته إلى ضوء ينير ظلمة الزنازين، كاشفاً بعضاً من ممارسات الاحتلال التي لا تقل عسفاً وجوراً عما كان يجري في معسكرات الاعتقال الفاشية والنازية، وذلك بواسطة كتاب شرّفني بمراجعته وتقديمه (عبر محاميه الياس صباغ) وسوف يصدر خلال أيام عن "الدار العربية للعلوم، ناشرون" في بيروت، متضمناً وقائع مذهلة عما يفعله ضباط الاحتلال وجنوده بحق الأسرى الذين تظل إرادتهم وصلابتهم أقوى من عسف السجّان.
لأجل قضية الأسرى في سجون الاحتلال الاسرائيلي وتذكيراً بضرورة إيلاء هذه القضية الاهتمام الذي تستحقه على الصعد كافة، وتحية لمناضل وقائد من قماشة مروان البرغوثي نشرت "السفير" قسماً من الكتاب الذي خطه مروان في عتمة الزنزانة.
زنزانة رقم 1 في عزل سجن الرملة
في مطلع كانون الثاني عام 2003، قامت سلطات الاحتلال بنقلي إلى العزل الانفرادي في قسم خاص، في سجن أيالون التابع لسجن مدينة الرملة، وتم اقتيادي مقيد اليدين والقدمين كالعادة في سيارة شرطة منفرداً، تحرسها سيارات عسكرية من قوات الاحتلال، ولم يتم إبلاغي أين سيذهبون بي في تلك الساعة المتأخرة من الليل.
وصلت سجن أيالون عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وهذا القسم جزء من مبنى قديم شيدته سلطات الاحتلال البريطاني، ثم أضاف إليه الاحتلال الإسرائيلي الكثير من المباني والأقسام.
في هذه المنطقة المسماة سجن الرملة مجموعة من السجون، هي: سجن أيالون، سجن نيتسان، سجن جفعون، سجن نفي ترتسا المخصص للنساء، المعبر (المعبار بالعبرية) الرئيس لنقل الأسرى بين السجون، وعزل أيالون، وكانت وجهتي بطبيعة الحال إلى قسم العزل. إضافة إلى السجون المذكورة سابقاً، هناك أيضاً مستشفى سجن الرملة، الذي يقبع فيه بشكل دائم عشرات الأسرى المرضى.
وكما هي العادة بعد الوصول، جرى تفتيش دقيق للأغراض القليلة التي في حوزتي، ولي شخصياً، حيث درجت العادة ولا تزال في السجون كافةً بإجراء تفتيش عند دخول أي سجن ومغادرته، ويجري التفتيش عبر أجهزة الكترونية كتلك الموجودة في المطارات، إضافة إلى جهاز يدوي إلكتروني، ثم بعد ذلك يتم تفتيش للجسم كاملاً وهو عارٍ تماماً، وتفتيش للملابس والأغراض قطعة قطعة مع ما يرافق ذلك من الإذلال والقهر والإهانة والانتظار مقيداً لساعات طويلة جداً...
اقتادني عدد من أفراد الشرطة إلى القسم الخاص بالعزل، حيث صعدتُ حوالي اثنتي عشرة درجة، ثم دخلتُ قسماً صغيراً مضغوطاً فيه ممر ضيق، وصفّ من الزنازين الصغيرة عددها ثمانية، وأخرى مثلها في الجهة المقابلة.
أدخلوني إلى زنزانة رقم (1) الواقعة في الجهة اليمنى من الصف الأول من الزنازين، وتتميز بأنها تتداخل بنحو مترٍ عن زنزانة أخرى مجاورة لها على شكل زاوية قائمة.
كانت زنزانتي في الجهة الأقدم من القسم، معتمة جداً، وفيها فتحة عند نهاية الحائط العالي كثيراً، وهي فتحة مدججة بالشبك والقضبان، ولا يتعدى ارتفاع تلك الفتحة وعرضها 15سم، ومن المستحيل الوصول إليها بسبب علوّها عن الأرض، ولأنها تطل على مبنى آخر من السجن، فلا جدوى من التسلق والمخاطرة بالسقوط.
يتسلل النور من هذه الفتحة لفترة قصيرة كخيط رفيع في ساعة محددة قبل الظهر، وفي أوقات قليلة من الليل يمكن مشاهدة القمر من مكان ما ولكن بصعوبة شديدة.
وبما أن الزنزانة من رمل وتراب، فإن جدرانها مليئة بعشرات الثقوب والتشققات، ويوجد فيها سرير أو «بُرش» بلغة الأسرى، مكوّن من طبقتين من الحديد أكله الصدأ، وقد اتخذت من الطبقة السفلية مناماً لي، ووضعت القليل مما أحمله من ملابس وأغراض قليلة على الطبقة العلوية من السرير.
كان أحد السجناء الجنائيين اليهود ممن سبقوني إلى هذه الزنزانة قد رسم أشكالاً مختلفة من الجماجم على الجدار الذي سأوجّه وجهي غالباً نحوه، وهذه الأشكال مصبوغة بألوان مرعبة تثير الفزع.
أما طول الزنزانة فهو جيد نسبياً، حيث يصل إلى مترين، والعرض لا يزيد على 120 سنتمتراً والارتفاع ثلاثة أمتار ونصف المتر تقريباً، وهناك باب حديدي مغلق تماماً، وفيه فتحة بطول وعرض 10 سنتمترات وفيها أربعة قضبان صغيرة طولاً وعرضاً مع غطاء يفتحه ويغلقه السجّان متى يشاء، غالباً ما يتطلع السجّان من خلالها للتأكد من وجود الأسير، وحين يقوم بالعد اليومي الذي يتكرر أربعاً إلى خمس مرات على مدار الساعة من الصباح وحتى المساء.
وهناك فتحة صغيرة أخرى في وسط الباب بطول 20 سنتمتراً وعرض 10 سنتمترات تستخدم لتزويد الأسير بالوجبات اليومية وتبقى مغلقة دائماً.
في الزنزانة ضوء خافت ومحدود، وإذا أطفئ النور تصبح الزنزانة مظلمة كلياً، ولا يمكن رؤية أي شيء أو حتى القدرة على التحرك، وبالتالي، يتوجب أن يبقى الضوء مُشتعلاً طوال الوقت، وفي الغالب، فإن السجّان هو الذي يُنير الضوء ويطفئه، لأن مفتاح تشغيل الإنارة يقع خارج الزنزانة.
هناك مكان يُسمى مجازاً حمام لقضاء الحاجة، وهو قديم جداً، وفي حالة مزرية وبائسة ومحفور بالأرض إلى درجة يغدو معها قضاء الحاجة عملية صعبة وشاقة، وتتجمع مياه الاغتسال في هذا الحمام المفتوح، وتفيض في الزنزانة وتصل إلى البُرش تقريباً، الأمر الذي يقتضي إزالتها يومياً وإعادة المياه إلى الحمام...
في الزنزانة أيضاً حوض صغير مهترئ يُسمى مغسلة، يمكن غسل الوجه واليدين فيها، وتنظيف بعض الصحون البلاستيكية، مع أن المياه تتسرب من ماسورة هذه المغسلة، لتجعل من عملية تنظيف الأواني وترتيبها عملية شاقة تحتاج إلى تجفيف المياه والأرض مرة ثانية.
دخلت إلى الزنزانة الانفرادية هذه، وأنا لم آخذ بعد قسطاً قليلاً من الراحة بعد رحلة تحقيق مليئة بالعذاب والمرارة والذل والمهانة والقهر للنفس الإنسانية والنضالية، وبعد أن أمضيت مئة يوم في زنازين التحقيق الصغيرة القذرة...
صحيح أنني الآن في زنزانة بلا تحقيق، وبلا قيود على كرسي وشبح على مدار الساعة، صحيح أنني أستطيع النوم متى شئت تقريباً ما عدا أوقات العد اليومي والتفتيش واستقبال وجبات الطعام، إضافة إلى الإزعاج الشديد في القسم... إلا أن هذه الزنزانة الملونة بصور الجماجم، تختلف الحياة فيها وتفوح من طبيعتها مرحلة جديدة من التعذيب النفسي والروحي...
الآن أعيش لوحدي في زنزانة موحشة ومعتمة، وما كان يخفف عني قليلاً أنها ليست المرة الأولى التي أعيش فيها في العزل الانفرادي، فقد سبق أن عزلت انفرادياً عام 1978 في سجن رام الله...
تذكرت تلك الأيام التي يفصلني عنها الآن ربع قرن من الزمن، وها أنا ذا أعود ثانية للعزل الانفرادي، كانت آنذاك تجربتي في الحياة محدودة، ولا تتعدى كثيراً حدود القرية والمدرسة والقرى المجاورة ومدينة رام الله، ولم أكن متزوجاً، فليس لدي مسؤولية الأسرة والأولاد وغير ذلك، وكانت تلك التجربة قصيرة على أيّ حال، ولم تتجاوز الخمسة أشهر. أما الآن، فلا أعرف كم ستطول هذه المرحلة الشاقة في ظروف أكثر صعوبة وقسوة.
في عام 1978 كنت في بداية الرحلة النضالية، وبداية رحلة مقاومة الاحتلال، وكان عمري أربعة عشر عاماً، أما الآن فالأمر مختلف تماماً والمسؤولية أكبر بكثير.
في عام 1978 كانت بداية أحلامي بالحرية ضرباً من الرومانسية الشخصية لشاب في بداية المشوار، ولا يزال أقرب إلى سن المراهقة منه إلى الشاب، وكانت المثالية الثورية والرومانسية سيدة الموقف، وكان الحلم يتركز على الحرية الشخصية أكثر منه على لقاء الأم الحبيبة والوالد والأشقاء، والأخت الغالية والأهل وشوارع القرية والأصدقاء، ولم يكن لدي زوجة وأولاد يشتعل قلبي وعقلي ووجداني اشتياقاً لهم، ولم يكن العقل مليئاً بهموم الوطن والشعب العظيم بكل تفاصيله ومعاناته، ولم يكن السجّانون يتعاملون تعاملاً خاصاً معي، فأنا واحد من آلاف المناضلين في السجون...
أما الآن فإن كل سجّان وضابط ومدير سجن ومسؤول يعرفون مروان البرغوثي، وبعضهم يتعمّدون الإساءة حتى يكون ذلك محطة أو علامة هامة في سجله وسيرته الذاتية، ولممارسة غروره وغطرسته.
في تجربة عزلي عام 1978 لم يكن هناك أي إمكانية لمعرفة ما يدور خارج الأسوار، ولم أرَ صحيفة أو تلفزيوناً، أو أسمع إذاعة أو أي شيء. كانت الزنزانة قبراً حقيقياً، والفارق الوحيد أن الميت في هذه الزنزانة يبقى حياً يتنفس ويأكل ويقضي حاجته ويفكر.
أذكر في هذا السياق، أنه بعد نقلي من العزل الانفرادي إلى سجن طولكرم، حيث كان ثمة قسم للعزل الجماعي، فوجئت بالتطورات الخارجية التي جرت خلال فترة عزلي، وأبلغني بها زملائي الأسرى وأبرزها قيام ثورة شعبية بقيادة الإمام الخميني في إيران، أطاحت نظام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان امبراطوراً ودكتاتوراً حليفاً لإسرائيل وأميركا، وشكلت بلاده قاعدة للوجود والنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.
كذلك علمت أن سفارة إسرائيل في طهران تحولت مؤخراً إلى سفارة فلسطين، وأن ياسر عرفات كان أول زعيم تستقبله الثورة الوليدة، التي تقود جمهورية إيران الإسلامية... وغيرها من الأحداث التي عرفتها وتتعلق بالتطورات على الساحة العربية والدولية والفلسطينية.
القصد من كل ذلك هو أن العزل الانفرادي يفصل الإنسان عن العالم... يتوقف الزمن وربما يريدون أن يتوقف العقل والتفكير والتفاعل مع الأحداث والمحيط، إنه موت بطيء بلا أوكسجين الحياة.
في سجن الرملة كان يتواجد أسرى في زنازين متجاورة في القسم، ولكن على الجهة الأخرى بحيث يتعذر مشاهدتهم أو الحديث إليهم إلا في أثناء المرور للخروج إلى ساحة الفورة، في زنزانة رقم (6) الأخوان أحمد البرغوثي «الفرنسي» وموسى دودين، وجدير بالذكر أن «الفرنسي» عمل إلى جانبي مرافقاً ومساعداً ومناضلاً وصديقاً وحبيباً مخلصاً ووفياً، وأظهر صلابة مميزة في التحقيق وحكم عليه بالسجن (13) عاماً بعد أن قاطع المحكمة الصهيونية. و«الفرنسي» الذي هو لقبه يعبّر عن جيل كامل من المناضلين الذين كانوا أطفالاً في الانتفاضة الأولى، وصنعوا هذه الانتفاضة المباركة، وقدم هذا الجيل نموذجاً في الصمود والتضحية والاستشهاد لا مثيل له في تاريخنا، وهو أكثر الأجيال شجاعة وجرأة واستعداداً للاستشهاد في مواجهة المحتلين.
ويعتبر "الفرنسي" من أبرز قادة ومؤسسي كتائب شهداء الأقصى في فلسطين، عمل إلى جانبي وهو لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره إلى أن تم اعتقاله معي. شعرت بكثير من الضعف لوجوده في العزل الانفرادي حيث أمضى فترة طويلة لإدعاء "الشاباك" أنه يواصل إرسال استشهاديين بتعليمات من سجنه، وقرر "الفرنسي" إلى جانب زميله المناضل موسى دودين وهو من قادة كتائب عز الدين القسام ومن أعضاء قيادة حماس في السجون الصهيونية، خوض إضراب مفتوح على الطعام مرتين احتجاجاً على العزل الانفرادي، حيث كانا معاً في الزنزانة نفسها واستمرا في الإضراب أكثر من 35 يوماً وتدهورت حالتهما الصحية ونقلا إلى المستشفى وكانا في حالة خطرة جداً، كما تكرر الإضراب من قِبَلهما مرة أخرى ورغم ظروف القهر والزنزانة فقد انسجما معاً وتعاونا على نحو رائع، وقد تنقلا بين زنازين بئر السبع والرملة.
لا بدّ من الصراخ
بعد دخولي زنزانة رقم (1) في سجن أيالون في كانون الثاني 2003، ومن المعروف أن هذا الشهر واحد من أقسى شهور فصل الشتاء في بلادنا، وغالباً ما تكون نسبة الأمطار هي الأعلى فيه مع ما يرافق ذلك من برد قارس...
والحقيقة وعلى خلاف الكثيرين، فإنني أستمتع بفصل الشتاء حيث عشت كثيراً من فصول الشتاء في فترة الطفولة والشباب في قريتي، وكنت أستمتع بمناظر الأشجار الغارقة بمياه الأمطار، وتفجّر الينابيع والبرك، وفيضان الوديان الرائع، ولا أزال في زنزانتي أحمل معي هذه الذكريات والصور الجميلة للقرية في فصل شتائها، وأعيش في ذاكرتي مشهد الجبال والتلال والشوارع والأشجار والينابيع، وأسمع صوت الرياح وأشم رائحة الزعتر في الربيع...
ومن اللافت أنني لم أشعر بكثير من البرد في هذه الزنزانة، لأنها مغلقة تماماً لا يدخلها الهواء إلا بصعوبة بالغة، علماً أن الرطوبة فيها عالية، ورائحة العفن تنبعث من كل زواياها، إضافة إلى النمل والحشرات والصراصير، ومع ذلك فهي أقل برداً من الزنازين الأخرى...
هذا الصمت يوجعني، ولا بد من الصراخ حتى يعلموا أنني موجود وحي، ولن أتعفن في زنازينهم القذرة، ولا بد من تحوُّل هذا الصمت إلى عادات تكسر حساباتهم، وإلى سلوك يكسر توقعاتهم. لم يسمعوا شكوى أو يروا خوفاً أو فزعاً، بل شاهدوني هادئاً، واستطعت أن أعرف تفاصيل الزنزانة حتى تعودت هي عليّ، أعرف مواعيد تسلل ضوء الشمس لأغتسل بالحياة، أعرف متى يدخل نور القمر إلى الزنزانة لأقيم معه علاقة حميمة ويصبح صديقي...
واتضح لي أن لكل أسير في العزل الانفرادي ساعة واحدة في اليوم، يخرج فيها من الزنزانة إلى ما يُسمى ساحة الفورة أو الفسحة أو النزهة، وعندما حضر السجّان وسألني إن كنت أرغب في الخروج إلى الساحة، أجبته: بالطبع سأخرج. ولم أتأخر عن الخروج إلى الساحة، واستغلال هذه الساعة طوال فترة العزل، علماً أن الكثير من الأسرى يفضلون البقاء في الزنزانة خاصة في الشتاء أو أيام الحر الشديد.
كانت ساحة قسم العزل الانفرادي في الجهة الأخرى من الزنازين وهي ساحة صغيرة جداً لا يزيد طولها على ثمانية أمتار، وعرضها خمسة أمتار، محاطة بجدران إسمنتية مرتفعة جداً ولا يمكن مشاهدة أي شيء سوى الجدران المرتفعة من الجهات الأربع.
الساحة مسقوفة بأربع طبقات من القضبان الحديدية، ونصفها مغطى بالحديد الكامل، بينما النصف الآخر فيه فتحات تُمكّن الأسير من رؤية جزء من السماء المشبكة بالحديد والأسلاك الشائكة، وتصل الشمس إلى الساحة في وقت محدود تقريباً، ويعتمد على حظ الأسير والوقت الذي يخرج فيه إلى الساحة، لكنني تعلمت مواعيد الشمس، وقلت أهلاً بالسماء الزرقاء، وإن كانت مغطاة بالصفيح والحديد.
طوال فترة وجودي في ذلك العزل في سجن أيالون لم أتأخر عن الخروج يوماً، حتى في ظل طقس شديد المطر، وصعوبة في المشي لأن الساحة تمتلئ بمياه الأمطار، وخاصة أنها أشبه بالبئر، مما يجعل السير فيها صعباً، ومع ذلك كنت أفضل أن أبتل من المطر على أن أبقى في الزنزانة، كي أتمكن فيها من معانقة قليل من ضوء الشمس، وأشم الهواء الذي يخترق الجدران والأسلاك الشائكة في السماء...
عندما يحين موعد الخروج إلى الساحة كنت أُخرج يديَّ من نافذة باب الزنزانة الصغيرة ليقوم السجّان بتقييدي، وأحياناً يضع السلاسل في قدمي لأسير في هذا الوضع مسافة 15 متراً، وعند دخول الساحة مقيداً وبعد إغلاق الباب، أضع يديَّ على نافذة الباب ليقوم السجّان بفك القيود. وبطبيعة الحال كنت وحيداً في الساحة كما في الزنزانة، أمضي فترة الفورة ماشياً، أنادي المعتقلين في الزنازين الأقرب إلى الساحة مع أنها مهمة شاقة، شعرت كثيراً بالتعب في الحنجرة بسبب المناداة، ورفع صوتي، حتى يتمكن من تجاوز الجدران الإسمنتية، لعلني أتمكن من الحديث إلى إخوةٍ لا أراهم، ولكنني أسمع أصواتهم ويجب أن يسمعوا صوتي، ولا بد من الصراخ بصوتٍ عالٍ.
كان السجّانون إذا سمعوا صوتاً وصراخاً سارعوا للحضور، طالبين مني عدم الكلام، والتوقف عن الصراخ مهددين بإعادتي إلى الزنزانة...
إن خروجي إلى الساحة لفترة محدودة والدقائق القليلة من الصراخ هما الفرصة الوحيد للتحدث، واختبار الصوت كي لا أنسى الحديث، لأن الدوران في هذه الساحة الصغيرة أو البئر العميقة، يجعلك تشعر بأنك تفقد جزءاً من طبيعتك الإنسانية، حيث تكابد معاناة وقهراً وحرماناً من الحرية والحياة العادية...
لا بد من التأمل العميق والتفكير، لا بد من استدعاء كل مقومات الصمود الذاتي وهي كثيرة، كي لا يطمئن السجّان إلى أن البئر مغلقة، وأن الصوت صار صدى...
(الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون)
جريدة السفير اللبنانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.