كان الشاب معلقا من قدميه ومتدليا رأسا على عقب وتسيل رغاوى بيضاء من فمه وكان أنينه غير بشري. هذا مشهد من مشاهد كثيرة للامتهان الإنساني التي رأيتها خلال استضافتي بالإكراه في المخابرات السورية حين اعتقلت في دمشق بعد أن قمت بتغطية أنباء الاحتجاجات في مدينة درعا بجنوب سوريا. في غضون دقائق من اعتقالي وجدت نفسي داخل مبنى جهاز المخابرات. كنت في قلب دمشق لكن نقلت إلى عالم مواز مروع من الظلام والضرب والترويع. لمحت رجلا معلقا من قدميه أثناء مرافقة أحد السجانين لي إلى غرفة التحقيق لاستجوابي. «انظر إلى أسفل» هكذا صاح في السجان حين رأيت ما رأيت. داخل غرفة الاستجواب أجبروني على الركوع على ركبتي وقيدوا ساعدي. يبدو أن تغطيتي للأحداث في درعا حيث اندلعت الاحتجاجات في مارس ضد الرئيس بشار الأسد لم تعجب مضيفي الذين اتهموني بأنني جاسوس. والسبب الرئيسي لاعتقالي الذي قدمته السلطات لرويترز هو أنني لا أحمل تراخيص العمل اللازمة. لم يكن عملي كصحفي لحساب رويترز، أؤدي عملي المهني، حجة كافية لمن يكسبون قوتهم من امتهان كرامة الإنسان. وصاح محقق «إذن أنت عميل أمريكي حقير... جئت لتبث أخبارا عن الدمار والفوضى. يا حيوان جئت لتهين سوريا يا كلب». استطعت أن أسمع خارج الغرفة قعقعة السلاسل وصراخا هستيريا مازال يدوي في رأسي حتى يومنا هذا. مارس المحققون عملهم باحتراف وبلا كلل ليضعوني في حالة من التوتر في كل خطوة من عملية الاستجواب على مدى عدة أيام. وقال محقق آخر ظل يصرخ قائلا «اعترف يا كذاب... اخرس يا حقير ... أنت وأشكالك غربان بدكم تشوفوا سوريا تتحول إلى ليبيا». في 18 مارس مع بداية الاحتجاجات في درعا كنت قد عبرت الحدود قادما من الأردن حيث عملت لحساب رويترز لنحو عقدين. قضيت معظم الأيام العشرة التالية وأنا أغطي الأخبار من المدينة. واستلهمت الاحتجاجات سقوط رئيسي مصر وتونس فتصاعدت بسرعة إلى تحد هائل لحكم عائلة الأسد الممتد من 40 عاما. اعتقلت في 29 مارس في دمشق حين كنت ذاهبا لأقابل شخصا بالحي القديم بالعاصمة السورية. اقترب مني رجلا أمن في ملابس مدنية وطلبا مني ألا أقاوم وأمسكا بي من ذراعي واصطحبوني إلى محل حلاق إلى أن جاءت سيارة بيضاء اللون لتنقلني إلى المخابرات. أظهر المحققون اهتماما خاصا بأمرين في تغطيتي وهي أنني كتبت أنني شاهدت محتجين يحرقون صورا للرئيس الراحل حافظ الأسد والد الرئيس الحالي وسمعت هتافات تهاجم ماهر الأسد شقيق بشار وقائد الحرس الجمهوري. وتنتشر تماثيل الأسد الأب وصور الرئيس الحالي في الطرقات والمكاتب بمباني جهاز أمن الدولة. شعرت أن مضيفي يريدون أن يقدموا لي بصفتي صحفيا أجنبيا عرضا توضيحيا للأساليب التي يستخدمونها مع السوريين. وكي أعد نفسي لما قد يحدث تاليا وأنقذها من الانهيار التام حاولت تركيز ذهني على ذكريات الطفولة. ساعدتني هذه الألعاب الذهنية على تجنب التفكير في طفلي التوأم الصغيرين وزوجتي في الديار بعمان والتي لم تكن لديها أي وسيلة لتعرف أين أنا أو حتى ما إذا كنت حيا أم ميتا. استمر الاستجواب ثماني ساعات حتى منتصف الليل في اليوم الأول من اعتقالي. كنت معصوب العينين في معظم الأحيان لكن العصابة أزيلت لبضع دقائق. وعلى الرغم من أوامر المحققين بأن أظل خافضا رأسي حتى لا أستطيع رؤيتهم تسنى لي أن أرى رجلا وقد وضعوا رأسه في كيس يصرخ من الألم أمامي. حين طلبوا منه أن ينزع سرواله رأيت أعضاءه التناسلية المتورمة مربوطة بسلك بلاستيكي. وقال الرجل الذي قال إنه من محافظة ادلب بشمال غرب سوريا «ليس لدي ما أقول لكنني لست خائنا ولا ناشطا. أنا مجرد تاجر». وأصبت بالفزع حين انتزع رجل ملثم زوجا من الأسلاك من قابس كهربائي وصعقه في رأسه. في لحظات أخرى كان المحققون معي رائعين لكنهم ينتقلون سريعا إلى الأجواء التي لا تعرف الرحمة والتي بدت كمحاولة منظمة لإنهاكي. وهددني أحدهم حين ضربت للمرة الثالثة على وجهي «حانخليك تنسى من أنت». لم أستطع رؤية ما الذي ضربت به. بدت مثل قبضة يد. جلدت على كتفي مرتين خلال احتجازي مما خلف كدمات ظللت أحملها لأسبوع. في بعض الفترات بالطرقة حين كنت أقف وظهري للحائط رافعا ذراعي إلى أعلى كان يمر علي ما لا يقل عن 12 من رجال الأمن الذين كانوا يدفعونني ويهيلون علي الاهانات. لكن الإنسانية كانت تظهر في أسوأ اللحظات. في إحدى المراحل كان المحقق يصرخ ويسبني قائلا «يا كلب» وجاءه اتصال هاتفي على هاتفه الجوال. تحولت نبرته على الفور إلى نبرة دافئة وعاطفية وقال «بالطبع يا حبيبي سأحضر لك ما تريد» ليتحول من اختصاصي تعذيب محترف إلى آب حنون. تمددت لفترات طويلة على حشية في زنزانة بلا نوافذ مضاءة ببعض الأنوار النيون مليئة بالصراصير التي تابعتها جيئة وذهابا. تذكرني الصرخات التي أسمعها من وقت لآخر أين أنا وما قد يحدث. وضعوني في الحبس الانفرادي وكان السجانون يعطونني قطعة من الخبز الجاف أو حبة من البطاطا وأخرى من البندورة /الطماطم/ مرتين يوميا. حين كنت أريد الذهاب إلى المرحاض كنت أدق على باب زنزانتي. يظهر سجان حينذاك لكن الاستجابة لمطلبي قد تستغرق أكثر من ساعة. فكرت في آلاف المحبوسين في السجون السورية وكيف يتحملون الحبس الانفرادي والاهانة المستمرة وكثير منهم على هذا الحال منذ عقود. فكرت فيمن قرأت عنهم من الروس الذين يعيشون بالمنفى في سيبيريا وعن معنى الحرية بالنسبة للسوريين وغيرهم من العرب الذين يعيشون في ظل حكم استبدادي في شتى أنحاء المنطقة. بالطبع لست أول النزلاء في هذه الزنزانة. أحد أسلافي غير المعروفين حفر عبارة على الحائط بأظافر يديه فيما يبدو تقول «ربنا على الظالم». استرجعت الأحداث في درعا وآلاف الشبان الذين كانوا يهتفون «حرية» والتعبيرات التي كست وجوه النساء والأطفال والشيوخ الذين خرجوا للشوارع للمشاهدة في مزيج من الدهشة والسعادة وروح التحدي المثيرة. رأيت عقودا من الخوف الذي زرع في قلوب وعقول الناس تتداعى حين تحدى مئات الشبان بصدورهم العارية الأعيرة النارية التي أطلقها رجال الأمن والقناصة من على أسطح المباني. لن أنسى أبدا جثث الرجال الذين قتلوا بالرصاص في الرأس أو الصدر والذين كانوا يحملون في شوارع درعا الملطخة بالدماء وعشرات الأحذية المتناثرة في الشوارع لشبان يفرون من نيران الأسلحة. في اليوم الرابع لاحتجازي جاء من يستضيفونني لنقلي فوضعوني في سيارة أخذتني إلى ما تبين أنه مقر جهاز المخابرات على بعد بضع بنايات في دمشق. كان مجمعا ضخما به المئات من رجال الأمن في ملابس مدنية بالفناء وهم جميعا متجهمون. وقال رجل فيما جرني اثنان آخران نحو القبو «فتشوا حتى أظافره». قضيت ساعتين في زنزانة فكرت خلالهما كيف سأتعايش مع السجن في الأشهر القادمة. ثم نقلت إلى حجرة قريبة. اندهشت حين قال لي رجل يبدو أن له سلطة «سنعيدك إلى الأردن». أدركت لاحقا عند مطالعة الصور في وسائل الإعلام أن هذا كان اللواء علي مملوك رئيس جهاز أمن الدولة السوري بنفسه وهو المسؤول الذي يحتجز رجاله آلاف السوريين في سجون مماثلة في أنحاء البلاد. وقال إن تغطيتي للأحداث في درعا كانت غير دقيقة وأضرت بصورة سوريا. في غضون ساعات عبرت الحدود وعدت إلى دياري حيث علمت أن الأسرة الحاكمة الأردنية بذلت جهودا لإطلاق سراحي وجنبتني مصيرا بائسا. كما طرد صحفيون آخرون من رويترز وبعضهم تم طرده أيضا بعد احتجازه والآن أصبحت سوريا محظورة على معظم وسائل الإعلام الأجنبية. وبعد شهرين تقريبا وبمرور الوقت استطعت أن استوعب أثر هذه الأيام الأربعة بدرجة تسمح لي أن أسجل تجربتي بالكتابة. لكنه مازال يلاحقني هذا الثمن الإنساني للانتفاضات العربية التي قامت بها شعوب تطلب بعض الحريات التي يعتبرها آخرون في أجزاء أخرى من العالم أمرا مسلما به.