تعتبر الثوراث التي دشنتها شعوب المنطقة تحولا عميقا في التاريخ؛ تحول سيكون له ما بعده، وستثبث الأيام المقبلة، بكل تأكيد، حجمه وآثاره المستقبلية. فكما غيرت أنظمة بوليسية جثمت لعقود على صدور هذه الشعوب، فإنها غيرت الكثير من المفاهيم والقناعات، وكانت أيضا دافعا قويا لرفع سقف مطالب الشعوب والنخب على حد سواء، حيث حررت الجميع من الخوف الذي أنبثه الطغيان في قلوب الناس، ووفر له كل شروط الإستمرار والإستدامة. ولأن المغرب جزء من هذا الحراك الذي تشهده المنطقة، فإنه بكل تأكيد، لن يكون بمنأى عن تأثيرات الزلزال السياسي الذي زعزع وأسقط أنظمة شمولية لم يكن يتصور أشدنا تفائلا أن تزول بتلك السرعة والفجائية التي شاهدناها. ولأن الأمر كذلك، فقد كان الشعب المغربي في شخص قواه الشبابية على موعد مع محطة 20 فبراير من أجل التعبير عن حقه في العيش تحت ظل نظام سياسي ديموقراطي حقيقي يضمن له الحق في تقرير من يدير شؤونه، ونظام اجتماعي وثقافي واقتصادي عادل يضمن تكافئ الفرص أمام جميع أبناء الشعب المغربي دون تمييز أو اقصاء. وقد أكدت المسيرات والوقفات الشعبية التي دشنتها ثورة الشباب المغربي خلال 20 فبراير وما تلاها من محطات نضالية، أكدت، جاهزية الشباب لرفع تحدي النضال من أجل مغرب الحرية والكرامة، وأثبتت أن هؤلاء الشباب في مستوى تطلعات الشعب المغربي. وقد ساهمت هبة الشباب المغربي تلك، في بعث الروح في جسد كثير من المطالب الشعبية التي فضلت الدولة المغربية صم آذانها عنها وتجاهلها، وأسترجعت هذه المطالب بريقها ووهجها، والأهم من ذلك كله، أنها استرجعت راهنيتها وملحاحيتها، وأصبحت بين ليلة وضحاها محور كثير من المطالبات. وتعتبر قضية دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية، من هذه المطالب التي أصبحت مثار أخد ورد بين النخب، أو على الأقل بين جزء منها. ولأن موقف العديد من الأطراف الفكرية والسياسية ينحو منحى غريبا ومحافظا بشكل مثير للإستغراب، بل يمكن أن نعتبره بدون تحفظ، موقفا يتماشى وموقف المعسكر المقاوم للتغيير الذي ينشده المغاربة. فمطلب القوى الشبابية في البلد بشأن اللغة الأمازيغية واضح لا لبس فيه؛ نعني: اعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب أختها العربية. ويمكن، ونحن بصدد هذه القضية، أن نسجل الملاحظات التالية: يبدو على من يتحدث عن مطلب وطنية اللغة الأمازيغية في الدستور المأمول، أنه يعيش خارج التاريخ أو ما قبله، ويبدو أنه لا يعرف عما يتحدث، أو يهرف بما لا يعرف، أو أنه يتحدث عن لغة أخرى غير اللغة الأمازيغية التي لا تعرف أرضا تنتمي إليها غير هذه المنطقة، فوطنيتها بهذا المعنى تحصيل حاصل، فلا جدال بأشنها. لذا فالحديث عن التنصيص عليها في الدستور المغربي كلغة وطنية عبث ما بعده عبث، ومطلب يفتقد كليا للمصداقية والجدية. أما من يتذرع بعدم جاهزيتنا لمقتضيات ترسيمها، فأشبه بأولائك الذين يتحدثون عن عدم جاهزية الشعب المغربي ونخبه السياسية للديمقراطية، فينتقصون بذلك من نضج وذكاء المغاربة، ويستكثرون عليه حقوقه الكاملة في العيش الكريم. وإذا سلمنا جدلا بهذا الإدعاء المردود ابتداءا على أصحابه، فإنني أقول والحال هذه، أن المجتمع المغربي، ونخبه السياسية والفكرية، غير جاهز أيضا للتأسيس لقضاء مستقل ونزيه، ولإعلام حر يقوم بدوره كاملا، وغير جاهز أيضا لبناء مؤسسات ديمقراطية، وبالمحصلة، فلسنا في حاجة لأي إصلاح كيفما كان نوعه وحجمه، طالما فقدنا أهلية ذلك، أو بالأحرى أفقدونا إياها !!!. أما أغرب ما سمعت، – رغم قولهم في الأثر: "إذا كنت في المغرب فلا تستغرب"- فهو ما صرح به الأستاذ فؤاد أبو علي لإحدى الجرائد الوطنية مؤخرا، واعتبر فيه أن من يقترحون دسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية "يهددون الوحدة الاجتماعية للمغرب من خلال خلق صراع إثني وعرقي سيغدو مع الزمن عنوانا للانفصال"، مضيفا أن "التجارب العالمية وفي المنطقة العربية كثيرة مثل صورتي جنوب السودان وأكراد العراق حيث يبدأ الأمر بالدفاع عن لغة إقليمية ليتحول في ما بعد إلى البحث عن الاعتراف بالهوية الخاصة وصولا إلى الحكم الذاتي فالاستقلال"(جريدة التجديد عدد يوم 1404 2011). إن كل ملاحظ نبيه يمكن أن يكتشف أن الحقل المعجمي الذي يمتح منه هذا الكلام، لا يبتعد كثيرا عن الحقل المعجمي الذي دأب زعماء الجملوكيات العربية - واستسمح الأستاذ خالص جلبي أن أستعير منه هذه العبارة- على ترديدها على مسامع شعوبهم طيلة عقود من التسلط والطغيان. ولأن هذه الشعوب ملت من ترديد أسطوانات مشروخة من قبيل: "تهديد الوحدة الإجتماعية"، "الفتنة الطائفية والعرقية"، "الإنفصال"، وغيرها من الأساطير المؤسسة للدكتاتويات العربية، فإنها شمرت على ساعدها وهبت بشكل غير مسبوق لتطهير أراضيها من هؤلاء الطغاة، فمنهم من أسقط ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. ويحق لكل ديموقراطي في هذا البلد أن يتساءل: منذ متى كان الإعتراف للشعوب بحوقها كاملة غير منقوصة يهدد الوحدة الوطنية للدول؟ ولماذا هذه الإنتقائية الفجة في الإعتراف للناس بحقوقهم؟. إن ما سيكفل ويضمن الوحدة الوطنية لأي شعب من الشعوب، هو الاعتراف التام بكافة المكونات اللغوية والثقافية لهذا الشعب دون تمييز أو إقصاء، والعمل على إفساح مجال الفعل والإبداع لها على قدم المساواة. وتبقى الحماية القانونية والدستورية لهذه المكونات والتعبيرات الثقافية واللغوية هي الشرط الأساس لجعله عنصرا من عناصر الوحدة والتماسك، لا عاملا من عوامل التوتر والتجزئة. أما الأمثلة والتجارب العالمية والعربية التي ساقها أستاذنا فؤاد أبو علي فهي حجة عليه لا حجة له. إن الذي زرع بذور النزعة الإنفصالية في نفوس أكراد العراق وغيرهم من أكراد المنطقة، هو الأنظمة السياسية التي حمكت الدول التي يتوزع فيها هؤلاء، حيث كانوا ضحية أنظمة سياسية ديكتاتوية عسكرية قومية وإقصائية، حرمت شعوبها من أبسط حقوقها، لذا فقد كان رد فعل الأكراد من نفس طبيعة فعل هذه الأنظمة. إن الذي ألجأ هؤلاء إلى المطالبة بحقوقهم القومية، ودفع بعضهم، أقول بعضهم لا جميعهم، إلى رفع السلاح من أجل الإنفصال، هو إحساسهم بالظلم والإضطهاد والغبن في كنف دول لا تعترف بهم وبحقوقهم اللغوية والثقافية. ويكفي القارئ الكريم أن يتأمل في دلالات ما يسمى في سوريا ب"إحصاء الحسكة 1962"، الذي جرى في أكتوبر من عام 1962، وبموجبه حرم أكثر من 300 ألف كردي من الجنسية السورية، وبالتبع من كافة حقوق المواطنة. وسيكون لكلام أستاذنا الكريم معنى لو أن الأكراد حصلوا على كامل حقوقهم، ثم حملوا السلاح بعد ذلك ضد بلدانهم، أما والحال عكس ما قيل، فإن هذا الكلام لا حجية له، ومردود على صاحبه. ولأن السياق المغربي مفارق للسياق الذي تحدث عنه أستاذنا، فإنه لا وجه للمقارنة بوجود الفارق، إذ بالرغم أنني أختلف مع كثير من تحليلات التيار الأمازيغي، طبعا كما أختلف مع تصورات العديد من الفاعلين في الساحة السياسية والفكرية في البلد، فإنني لا علم لي بأصوات معتبرة تطالب بالإنفصال، كل ما في الأمر أن هناك مطالب مشروعة يجب أن يلتف حولها كل المغاربة، باختلاف مشاربهم الفكرية وانتماءاتهم اللغوية والثقافية. فالتنصيص على اللغة الأمازيغية كلغة رسمية في الدستور المقبل قضية كل ديموقراطي، وقضية كل المغاربة، لا قضية فئة بعينها. وأخيرا أود أن أهمس في آذان الجميع، وأقول بأن الإحياء اللغوي والثقافي ومعالجة التهميش التي تعانيه الثقافة واللغة الأمازيغية، والحماية القانونية لهما في مجالهما أمور لا ينبغي أن يتحفظ عليها أحد، بله أن يعارضها. ورغم أنه قد تمت في هذا الباب جهود محمودة، فإن المشوار لا يزال طويلا وشاقا. فتكريم الإنسان الأمازيغي لا يتم إلا بإحياء لغته وثقافته والإعتراف بهما قانونا اعترافا تاما غير منقوص، لا بمصادرتهما. والإعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي في مغرب اليوم، ووجود لغتين رسميتين في الدستور المقبل لا يعني بحال من الأحوال وجود أكثر من مغرب، بل مغرب واحد متماسك وأقوى من ذي قبل بروافده الثقافية والحضارية المتعددة. فلا يمكن لبلدنا أن يجابه التحديات الكبرى التي تنتظره دون أن يرفع الظلم عن جزء من ثقافته وهويته وتاريخه، باعتبار ذلك واجبا لا باعتباره منحة وامتيازا، ولا يمكنه أيضا أن يحدث قفزة ديموقراطية دون الإعتراف التام باللغة الأمازيغية كلغة رسمية، كجزء أصيل وأساسي من ثقافتنا الوطنية، وهو الأمر الذي سيسمح بتصحيح وضع تاريخي غير طبيعي، وسيزيح الغبن الذي لحق بقطاع واسع من أبناء هذا الوطن.