دالية غانم- يزبك* 28 أبريل, 2016 - 11:08:00 أمضى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة سبعة عشر عاماً في منصبه، وهو يقضي الآن فترة ولايته الرابعة. لاقى انتخابه للمرة الأولى، في العام 1999، ترحيب الكثير من الجزائريين والمجتمع الدولي. إذ لم يكن بوتفليقة رئيساً مدنياً وحسب، بعد سلسلة من الرؤساء العسكريين، بل كان أيضاً رئيساً منتخباً انتخابا حراً، حيث فاز بنسبة 73.5 في المئة من الأصوات. على الرغم من أن الرئيس مريض الآن (تعرّض بوتفليقة البالغ من العمر تسعة وسبعين عاماً إلى سكتة دماغية في العام 2013 وقام بحملته الانتخابية بعد عام واحد وهو على كرسي متحرّك)، إلا أن إجراء تقييم لإرثه السياسي يبدو في محلّه. إذ يبرز إنجازان سياسيان كبيران من السنوات التي أمضاها في السلطة: الأول هو إشرافه على انتقال الجزائر إلى مجتمع مابعد الحرب، والثاني هو إعادة إحياء السياسة الخارجية الجزائرية، ما أنهى عزلة البلاد خلال سنوات الحرب الأهلية. وبينما تبدأ الجزائر التحضير لمرحلة مابعد بوتفليقة، سيكون للإرث السياسي للرئيس تأثير كبير على مستقبل البلاد. وعلى الرغم من عودة الاستقرار، تبدو سياسة المصالحة الوطنية هشّة لأنها فشلت في معالجة جذور العنف في البلاد. ومع ذلك، قد تصبح المصالحة الوطنية أمراً لامناصّ منه للتعاطي بصورة أفضل مع مروحة من التحدّيات، من بينها البطالة والفقر ونقص المساكن والفساد وغياب الحوكمة والتهديد الجهادي. إضافةً إلى ذلك، تعمل الجزائر في منطقة غير مستقرّة للغاية، مايعني أن سياستها التقليدية المتمثّلة بعدم التدخّل في شؤون الآخرين، لم تعد عملية. مهندس المصالحة غير الكاملة تكمن أهم إنجازات عبد العزيز بوتفليقة في أنه كان صانع السلام في أعقاب الحرب الأهلية الجزائرية في الفترة 1991-2001. فبُعيد انتخابه، جعل بوتفليقة المصالحة في صلب برنامجه، ومنح ملايين الجزائريين الأمل في حياة أفضل بعد "العشرية السوداء"، ما أكسبه شعبية وشرعية كبيرتين، مع أن سمعته تدهورت مذّاك. بدأ الصراع الجزائري بعد الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية في كانون الأول/ديسمبر 1991، عندما كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على وشك الفوز بأغلبية برلمانية. ألغت الحكومة الجولة الثانية من الانتخابات، ثم استقال الرئيس الشاذلي بن جديد بضغط من الجيش، الذي تولّى السيطرة الفعلية على البلاد. ثم تم استبدال بن جديد باليمين زروال في العام 1995. حظّرت السلطات الجبهة الإسلامية للإنقاذ واعتقلت قيادتها والكثير من المتعاطفين معها. ساهم القمع الوحشي والعنف العشوائي اللذان مارسهما بعض عناصر قوات الأمن، في تطرّف الآلاف من الجزائريين الذين لم يكن الكثير منهم يرتبطون بالحركة الإسلامية. وقد تسبّب الصراع الذي أعقب ذلك بمقتل أكثر من 150 ألف شخص، واختفاء 7 آلاف آخرين، ونزوح حوالى مليون جزائري داخل البلاد. إضافةً إلى ذلك، عُذِّب الآلاف أو خُطِفوا أو اغتُصِبوا، حيث تشير التقديرات إلى أن الأضرار المادية الناجمة عن الحرب بلغت نحو 20 مليار دولار. تمثّلت خطوة بوتفليقة الأولى لدى تسنّمه الحكم بالضغط من أجل اعتماد قانون الوئام المدني، وتمديد العمل بقانون الرحمة الذي بدأه زروال في العام 1996. وقد تم الإعلان عن قانون الوئام المدني في تموز/يوليو 1999، وتمت الموافقة عليه بأغلبية كبيرة بلغت 98.6 في المئة في استفتاء أُجري في 16 أيلول/سبتمبر 1999. كان الإطار الزمني للقانون محدوداً واستمرّ حتى 13 كانون الثاني/يناير 2000. من الناحية النظرية، حدّد القانون فترة ستة أشهر يُمكن خلالها للإسلاميين المسلحين الذين لم تتلطّخ أيديهم بالدماء أو لم يرتكبوا أعمال اغتصاب أو لم يفجّروا قنابل في أماكن عامّة، أن يلتمسوا العفو؛ واستُبعد أولئك الذين تورّطوا في مثل هذه الأعمال، إلا أنهم كانوا سينالون عقوبات مخفّفة. بيد أن الأمور كانت مختلفة من الناحية العملية. فالكثيرون ممّن التمسوا العفو نفوا أن يكونوا شاركوا في الأعمال المحظورة، وتم العفو عنهم بناءً على هذا النفي فقط. ولم تجرِ أي تحقيقات للتأكّد من صحة ادّعاءاتهم. في غشت 2005، وبهدف "تجاوز المأساة الوطنية نهائياً"، ووضع حدٍّ ل"الفتنة الكبيرة [الصراعات الأهلية] التي ضربت الجزائر"، أصدر بوتفليقة ميثاق السلم والمصالحة الوطنية. وفي تصريحات كان قد أدلى بها قبل بضعة أشهر من ذلك وعكست تفكيره في هذا الشأن، قال: "في السلام، تعلّم الجزائريون كيف يعيشون معاً، وكيف يتقبّلون اختلافاتهم في الرأي، وكيف يتمسّكون بحقيقة أنه ليس لدى أي منهم، في نهاية المطاف، وطن بديل يلجأ إليه". حدّد الميثاق مجموعة من التدابير، بما في ذلك تعليق الإجراءات القانونية ضد أعضاء الجماعات المسلحة الذين استسلموا قبل 26 آب/أغسطس 2006، والذين لم يشاركوا في أعمال عنف محدّدة. كما قدّم الميثاق تعويضات لضحايا الحرب، مثل أُسر المفقودين وأعضاء الجماعات الإسلامية المسلحة؛ ومنح حصانة للشرطة والدرك، وأفراد الجيش المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان؛ ومنع كل المسؤولين عن استغلال الدين كأداة لتحقيق أهدافهم- ما أدّى إلى مأساة وطنية- من الانخراط في أي نوع من الأنشطة السياسية. وحدّد الميثاق خطوات، بما في ذلك أحكام بالسجن وغرامات، لمعاقبة من عارضوا أحكامه أو انتقدوها. وفقاً لمروان عزّي، المحامي ورئيس اللجنة الرسمية المكلّفة بالعمل على تنفيذ الميثاق، سمح هذا الأخير بإعادة دمج حوالى 15 ألفاً من المقاتلين السابقين في المجتمع. من بين 27 ألفاً من الإسلاميين المسلحين الذين كانوا يقاتلون في تسعينيات القرن الماضي، لقي ما يُقدَّر ب16930 منهم مصرعهم. ومع ذلك، لم يتم تأكيد هذه الأرقام، حيث لم تنشر السلطات الجزائرية الأرقام الكاملة لعدد قتلى الحرب. اعتبر الكثيرون مبادرة الحكومة، مثل أحد أفراد أسرة شخص مفقود قابلته صحيفة لوموند، محاولة من جانب الدولة ل"دفن الأسرار" وفتح صفحة جديدة. إضافةً إلى ذلك، رفضت أُسر الضحايا والمفقودين إدراجها في فئة أُسر مرتكبي الجرائم. وفي سياق الرد على الميثاق، أنشأت تلك العائلات منظمات مثل "التنسيقية الوطنية لعائلات المفقودين في الجزائر" (Le Collectif des Familles de Disparus en Algerie)، و"جمعية إنقاذ المفقودين" (SOS Disparus)، و"صمود"، و"جزائرنا". وقد سعت هذه الجمعيات إلى الدفاع عن ضحايا الإرهاب وطلبت من السلطات قول الحقيقة بشأن حالات الاختفاء القسري والاعتقال التعسّفي وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها قوات الأمن. كما وّفرت المساعدة الإدارية والقضائية والنفسية إلى أقارب المفقودين. ومنذ بدء عملية المصالحة، تدعو هذه الجمعيات إلى إلغاء ماتعتبره قانون الإفلات من العقاب. في وجه هذه الانتقادات، تذرّعت الحكومة بالدعم الشعبي للميثاق في الاستفتاء الوطني، للتأكيد على شرعيته. على الرغم من العيوب التي شابتها، ساهمت مبادرات بوتفليقة للمصالحة في مرحلة مابعد الحرب الأهلية، إلى حدٍّ كبير، في إعادة إرساء السلام والاستقرار في البلاد، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته جماعات معيّنة مثل أُسر الضحايا. إضافةً إلى ذلك، تم دمج بعض الإسلاميين (باستثناء أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ) في العملية السياسية، وانضمّت بعض الجماعات، مثل حركة مجتمع السلم، إلى الحكومات الائتلافية وحصلت على عدد من المقاعد البرلمانية والحقائب الوزارية. لابل إن بوتفليقة عيّن أحد الإسلاميين، عبد العزيز بلخادم، وزيراً للخارجية في العام 2000 ورئيساً للحكومة في العام 2006. أتاحت هذه التحركات للنظام استعادة شرعيته، وذلك بفضل استعداده للسماح للإسلاميين بالمشاركة في النظام السياسي. وقد أفادت هذه الإنجازات عموماً مكانة الجزائر الدولية، وساعدت في إرساء أسس التعاون مع المجتمع الدولي. نهاية العزلة إلى جانب الدور الذي اضطلع به في عملية إعادة الأوضاع إلى طبيعتها في الجزائر بعد الحرب الأهلية، أعاد بوتفليقة أيضاً إحياء السياسة الخارجية للبلاد. فقد أنهى عزلة البلاد الدبلوماسية خلال سنوات الحرب، عندما تم توجيه اللوم للنظام لإلغائه الانتخابات البرلمانية، وواجه حظراً على توريد الأسلحة فرضته الولاياتالمتحدة. استندت عودة السياسة الخارجية الجزائرية إلى دعامتين رئيستين: مشاركة البلاد باعتبارها شريكاً أساسياً في الحرب العالمية ضد الإرهاب بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001؛ وتعاظم دورها في أفريقيا، ولاسيّما في جوارها القريب. بسبب الهجمات التي تعرّضت إليها الولاياتالمتحدة، أصبحت الجزائر، بين ليلة وضحاها، شريكاً هامّاً في مكافحة الإرهاب على المستوى الدولي. وسرعان ما أصبح يُنظر إلى الجزائر، التي كانت تُعتبر طيلة عشر سنوات مصدراً للتطرّف العنيف، باعتبارها ندّاً أمنياً رئيساً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على حدٍّ سواء. ورفعت واشنطن الحظر المفروض على توريد الأسلحة للبلاد، وضمّت الجزائر إلى "مبادرة مكافحة الإرهاب عبر الصحراء"، التي سُمّيت لاحقاً "الشراكة المعنية بمكافحة الإرهاب عبر الصحراء"، و"حوار الناتو المتوسطي". كانت كل هذه المبادرات تهدف إلى تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب. ومنذ العام 2004، شاركت الجزائر في اجتماعات منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل، وفي مناورات عسكرية مشتركة مع الحلف. وفي المقابل، قدّمت واشنطن معلومات الأقمار الصناعية للقوات المسلحة الجزائرية. عندما تسلّم بوتفليقة الحكم في العام 1999، بعد تولّيه لفترة طويلة منصب وزير الخارجية في عهد هواري بومدين، كان مصمّماً على استعادة مكانة الجزائر على المستوى الدولي. وعلى الصعيد الإقليمي، استمرّت الجزائر في ممارسة دورها كعضو نشط في منظمة الوحدة الأفريقية، خلال سنوات الصراع الداخلي، لكنها فقدت دورها القيادي في المنظمة لصالح كلٍّ من مصر وليبيا والمغرب. وضع بوتفليقة في صلب أولوياته التواصل مع نظراء الجزائر في القارة الأفريقية. وفي العام 1999، استضافت الجزائر قمة منظمة الوحدة الأفريقية الخامسة والثلاثين. وفي مؤشّر على التوجه الذي اعتزم بوتفليقة تبنّيه، أنشأ مكتباً للشؤون الأفريقية والمغاربية في وزارة الخارجية في العام التالي، وعيّن عبد القادر مساهل، الصحافي السابق والسياسي المتخّصص في الشؤون الأفريقية، رئيساً له. وبالمثل، كان تعيين بوتفليقة لرمطان لعمامرة في أيلول/سبتمبر 2013 وزيراً للخارجية، ذا دلالة في هذا الصدّد. فالعمامرة، الذي أطلقت عليه وسائل الإعلام لقب "سيد قارّة أفريقيا"، دبلوماسي معروف عُيِّن سفيراً لبلاده لدى إثيوبيا وجيبوتي، ومفوّضاً للسلام والأمن في الاتحاد الأفريقي الذي حلّ محل منظمة الوحدة الأفريقية في العام 2002. كما توسّط العمامرة في العديد من النزاعات الأفريقية، بدءاً من الصراع بين بوركينا فاسو ومالي في العام 1985. نجحت الجزائر في منظمة الوحدة الأفريقية في الترويج لخطة تهدف إلى استبعاد المنظمة للأنظمة التي تسلّمت زمام السلطة عبر انقلابات. كما وظفت تجربتها الأخيرة في مكافحة الإرهاب للضغط باتجاه اعتماد اتفاقية منظمة الوحدة الأفريقية حول الإرهاب. اضطلعت الجزائر بدور بارز في إنشاء وتمويل المنظمات التابعة للاتحاد الأفريقي. فقد دفعت باتجاه اعتماد اتفاقية الاتحاد لمنع ومكافحة الإرهاب، وهي الوثيقة التي أُتْبِعت بالبروتوكول المتعلق بإنشاء مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، الذي دخل حيّز التنفيذ في العام 2003. ومنذ العام 2004، شغل جزائريون منصب مفوّض السلم والأمن في المنظمة. إضافةً إلى ذلك، لعبت الجزائر دوراً رائداً في عملية نواكشوط، التي بدأت في العام 2013، والتي تعزّز التعاون الأمني الإقليمي. وفي مايتعلق بالتعاون الاقتصادي، كانت الجزائر طرفاً أساسياً في إنشاء الشراكة الجديدة من أجل تنمية أفريقيا، التي تهدف إلى تحقيق إدماجٍ أفضل للبلدان الأفريقية في الاقتصاد العالمي. وفي محاولة منها لمساعدة الدول الأفريقية الفقيرة، ألغت الحكومة الجزائرية منذ العام 2010 ديون أربع عشرة دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي، من دون قيد أو شرط، مايعادل شطب أكثر من 920 مليون دولار أميركي. التزم بوتفليقة أيضاً بالمبادئ الثابتة لسياسة الجزائر الخارجية المتمثّلة بعدم التدخّل في الخارج، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واحترام حرمة الحدود، والمساواة في السيادة. وقد اعترف حتى أشدّ منتقدي الجزائر بأنشطة الحكومة الدبلوماسية وتعزيزها للحوار السياسي باعتباره الخطوة الأفضل للتخفيف من حدّة الانقسامات في العالم العربي، بدلاً من الانخراط في الحرب، كما أثنوا على معارضتها لتدخّل حلف الناتو في ليبيا ورفضها الانخراط في الصراعين السوري واليمني. تمشياً مع هذا الموقف، شرعت الجزائر، في عهد بوتفليقة، في جهود وساطة رفيعة المستوى في تونس وليبيا ومالي. في تونس، ساعدت الجزائر في تحقيق استقرار البلاد خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت إطاحة الرئيس السابق زين العابدين بن علي. ففي العام 2013، على سبيل المثال، سهّلت الجزائر المحادثات بين حزب نداء تونس العلماني وحركة النهضة الإسلامية، في محاولةٍ لتجنّب نتيجة مشابهة لما حصل في الجزائر. إضافةً إلى ذلك، ثمة تعاون وثيق بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب، حيث تعتبر الجزائرتونس بمثابة حصن منيع في وجه عدم الاستقرار في ليبيا. عارضت الجزائر تدخّل حلف الناتو في ليبيا، ولاتزال تضغط من أجل إجراء حوار سياسي بين مختلف الفصائل الليبية، بما في ذلك الإسلاميون والمسؤولون السابقون في نظام معمّر القذافي. وقد فسّر الكثيرون، وخاصة في ليبيا، رفض الجزائر إدانة النظام والاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي، في البداية، باعتباره دليلاً على دعمها للقيادة الليبية السابقة. لكن موقف القيادة الجزائرية كان نابعاً أساساً من مخاوفها من أن يؤدّي الصراع إلى حدوث أزمة لاجئين كبيرة، وانتشار الأسلحة والمسلحين في أنحاء المنطقة كافة، وتمدّد الجماعات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية سعياً إلى الاستفادة من الفوضى في ليبيا. وهذا ماحدث بالضبط. ولم تغيّر الجزائر سلوكها، إذ لاتزال ترفض التنسيق مع أي تدخّل عسكري غربي جديد في ليبيا، حتى وإن كان محدوداً ويهدف إلى إنهاء وجود تنظيم الدولة الإسلامية المُعلَن ذاتياً على مقربة من أوروبا. في مالي، سعت الجزائر أيضاً إلى تسهيل الحوار بين الحكومة المركزية في باماكو وفصيلين مرتبطين بجماعة الطوارق الإثنية، هما جماعة أنصار الدين الإسلامية المتشدّدة والحركة الوطنية لتحرير أزواد. ومع ذلك، عندما انضمّ الفصيل الأول إلى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (وهي العلاقة التي تنفيها جماعة أنصار الدين، على الرغم من أنها غامضة) في أوائل العام 2012، وأعلن الفصيل الثاني استقلال أزواد في نيسان/أبريل، ساعدت الجزائرفرنسا في عملية سرفال، على الرغم من موقفها المناهض للتدخّل. كانت تلك عملية عسكرية تمّت في 2013-2014 لطرد المتشدّدين من شمال مالي. فتحت الجزائر مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية، ووفّرت لها الوقود مجّاناً، وقطعت الطريق أمام تراجع الجماعات الإرهابية، كما قطعت مصادر تمويلها. بالنسبة إلى الجزائر، كانت النزعة الانفصالية بين الطوارق تشكّل تهديداً لأمنها القومي وسلامة أراضيها. اعترفت الحكومة الجزائرية بحقوق السكان الطوارق فيها ابتداءً من ستينيات القرن الماضي، وأدارت شؤون الجماعة بصورة فعالة منذ ذلك الحين عبر دمجها في الدولة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وكانت السلطات ترغب في إبقاء الأمور على هذا النحو، وتجنّب حدوث تداعيات في الداخل الجزائري ناجمة عن حملة استقلال الطوارق في مالي المجاورة. وهذا هو سبب قيام الجزائر بدور الوساطة بين الحكومة المركزية في مالي وفصائل الطوارق المختلفة في 2013-2014، بعد أن فعلت ذلك في العام 1990 والعام 2006. والواقع أن الجزائر تمكّنت في المحادثات الأخيرة من إقناع ستّ مجموعات مسلّحة من الطوارق على التقارب مع باماكو وتجنّب تقسيم مالي. شيءٌ من عدم اليقين في المستقبل لاشكّ في أن الجزائر في العام 2016 هي في وضع أفضل ممّا كانت عليه في العام 1991. فقد ساهم ميثاق بوتفليقة للسلم والمصالحة الوطنية إلى حدٍّ كبير في إعادة إرساء الاستقرار والأمن في البلاد. ولاتزال سياسة المصالحة تمثّل إنجازاً رائعاً. وحتى إن كان هناك تهديد جهادي إلى الآن، فإنه محلّي وعَرَضيّ للغاية، ولا يمكن بحال من الأحوال مقارنته بما شهدته البلاد خلال تسعينيات القرن الماضي. علاوةً على ذلك، أتاح التعاون مع الجهاديين السابقين للأجهزة الأمنية الفرصة لجمع قدرٍ كبيرٍ من المعلومات حول الجماعات المسلّحة وشبكاتها وأموالها لاستخدامها عند الحاجة. مع ذلك، فإن العيب الرئيس الذي تنطوي عليه آلية المصالحة هو أنها لم تتعامل مع الأسباب الهيكلية للعنف في زمن الحرب. فقد فشلت هذه الآلية في الشروع بعملية لدراسة الظروف التي دفعت آلاف الجزائريين للانضمام إلى الجماعات المسلحة. كما أن مسألة المفقودين لم تُحَلّ تماماً، حيث لاتزال هناك 3104 حالة معلّقة لم تتم تسويتها وفقاً للأمم المتحدة. في الواقع، سعت الدولة الجزائرية إلى فرض السلام على شعبها. لكن لايمكن لنهجٍ من القمّة إلى القاعدة أن يُؤدّي إلى مصالحة حقيقية. فالحل المتسرّع الذي لجأت إليه الحكومة أجّل فقط الأزمة التي من المرجّح أن تعود قريباً، ولاسيّما أن الجزائر تعاني حالياً من الجمود السياسي، وتواجه تحديات مالية حادّة بسبب انخفاض أسعار النفط والغاز العالمية، والاقتصاد الريعي الذي جعل الدولة عرضة إلى التأثّر بالصدمات الخارجية. من بين العوامل التي لم تُسعف كثيراً أن بوتفليقة، الذي كان يُنظر إليه في السابق على أنه يبعث الأمل في نفوس الملايين من الجزائريين، يُعتبر اليوم الرجل الذي لطّخ سمعة الجزائر. فقد قام بتعديل الدستور حتى يتمكّن من الترشّح لمنصب الرئاسة متجاوزاً الفترتين الرئاسيتين المقرّرتين. وتستّر على الفساد في المستويات العليا، وأيّد القوانين التي أضعفت المجتمع المدني. وبمزيجٍ من القمع والهبات السخيّة بفضل ثروة النفط والغاز في الجزائر، تمكّن أيضاً من شراء السلم الاجتماعي، ونزع فتيل احتجاجات العام 2011 التي ردّدت صدى الاحتجاجات في أماكن أخرى في المنطقة، والحفاظ على الوضع القائم. مع ذلك، أسعار النفط والغاز، على غرار صحة بوتفليقة، لاتشهد تحسّناً. وعليه، فإن عدم وجود آلية لتقاسم السلطة بين جميع الأطراف ذات الصلة (أي بين الأحزاب السياسية، والمعارضة، والمجتمع المدني، والسلطتين التشريعية والتنفيذية)، ووجود صراعات داخلية في النظام، يجعلان من الصعب تصوّر إمكانية تجديد النظام السياسي في الجزائر. وفي مايتعلق بسياسة الجزائر الثابتة في عدم التدخّل، فهي قد تثير أيضاً مشاكل للبلاد، باعتبار أن المنطقة تتغير بسرعة كبيرة. وإذا ما أرادت الجزائر أن تكون عامل استقرار في منطقة غير مستقرّة للغاية، فسيتعين عليها أن تُعيد النظر في سياستها بعدم التدخّل في بلدان أخرى. فقد عنى رفض الجزائر التدخّل في مالي، أنها أضاعت فرصة للانخراط في العمل الجماعي لاحتواء الجماعات الإرهابية الإقليمية، خاصة بعد أن طلبت منها باماكو ذلك. وهذا أضعف فعلياً الغرض المعلن من "لجنة عمليات الأركان المشتركة"، التي أُنشئت للتنسيق بين الجزائرومالي وموريتانيا والنيجر بشأن عمليات مكافحة الإرهاب. وكما أظهر الهجوم على منشأة تيقنتورين للغاز بالقرب من عين أميناس في كانون الثاني/يناير 2013، سيواصل عدم الاستقرار في دول الجوار التأثيرَ على الأمن الوطني الجزائري بصورة كبيرة. فالتهديدات المقبلة من جنوب ليبيا وتونس، وكذلك من منطقة الساحل عديدة. وهي تتراوح بين تهريب المهاجرين غير الشرعيين (120 ألفاً يمرّون عبر النيجر سنوياً)، فضلاً عن الأسلحة الصغيرة والمخدّرات، وبين انتشار الجماعات الجهادية العنيفة. لم يعد كافياً أن تعزّز الجزائر حدودها، بل يتعيّن عليها استخدام قدراتها العسكرية الهائلة (فهي أكبر مشترٍ للأسلحة في أفريقيا، حيث يتجاوز الإنفاق العسكري السنوي 10 مليارات دولار اعتباراً من العام 2014) للحفاظ على الاستقرار في المنطقة. بعد سبعة عشر عاماً من حكم بوتفليقة، تواجه الجزائر واقعاً جديداً سوف يُضطر خلفه إلى التكيّف معه. بيد أن عجز قادة الجزائر عن تجديد النظام السياسي المحلّي أو إعادة النظر في طبيعة السلوك الجزائري في الخارج، يمكن أن يطرح مخاطر حقيقية على مستقبل البلاد. - المصدر: كارنيغي للشرق الأوسط * باحثة زائرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط