في شوارع مراكش الصاخبة، أصبح عبد الإله، الذي كان مجرد بائع سمك عادي، رمزًا للمقاومة الاقتصادية. من خلال عرضه للأسماك بأسعار لم يكن المغاربة ليجدوا ما يقابلها في أي مكان آخر، كشف عن نظام مترسخ من التضخم المصطنع، والتلاعب بالأسعار، والاحتكار. لقد كانت أفعاله، رغم بساطتها الظاهرة، ثورة في جوهرها، إذ أزاحت الستار عن التفاوتات البنيوية التي تحكم الأسواق المغربية منذ زمن طويل. وكان ردّ الفعل السريع ضده إغلاق محل بيعه، وتهديدات من جهات مجهولة لكنها نافذة حسب قوله يكشف عن نظام لا يتسامح مع أي اضطراب، حتى لو كان لصالح الشعب. قضيته ليست مجرد مسألة بيع السمك؛ بل هي تعرية لوهم الاقتصاد الحر في سوق تتحكم فيه نخبة قليلة على حساب الأغلبية. في صميم هذه الأزمة يكمن غياب العدالة التنظيمية، وهو عرض من أعراض أزمة اقتصادية أوسع تعرقل المبادرة وتكافئ الاحتكار. إن منطق السوق، الذي من المفترض أن يوازن بين العرض والطلب من خلال المنافسة العادلة، قد تم تشويهه بفعل الجشع غير المقيد والتواطؤ المؤسساتي. إن حالة عبد الإله تبرز كيف يمكن للقطاع غير الرسمي، الذي يتم تجاهله غالبًا من قبل صناع القرار، أن يكون مرآة تعكس إخفاقات الحوكمة. لم تتحدَّ استراتيجيته في التسعير قوانين الاقتصاد، بل أزالت فقط الطبقات المتراكمة من الهوامش الربحية المبالغ فيها التي فرضها الوسطاء الذين استغلوا المستهلك المغربي لعقود. لكن معاقبته تشير إلى حقيقة قاتمة: أن القدرة على تحمل الأسعار نفسها باتت فعلًا متمردًا. هذه اللحظة تستدعي إعادة النظر بعمق في كيفية تداخل السياسات الاقتصادية مع النضالات اليومية. عندما يُعامل رجل يبيع السمك بأسعار معقولة كمُخرّب بدلاً من أن يكون نموذجًا يُحتذى به، فإن ذلك يجبرنا على التساؤل حول السرديات السائدة عن التقدم والإصلاح. إذا تم سحق المنافسة الحقيقية لصالح المصالح الراسخة، فما الأمل المتبقي للطبقة الوسطى التي تئن تحت وطأة ارتفاع تكاليف المعيشة؟ القضية هنا ليست اقتصادية فحسب؛ بل هي مسألة كرامة، وحق في الوصول إلى الضروريات الأساسية دون الوقوع ضحية لاستغلال منظم. إن معاناة عبد الإله المراكشي تكشف الفجوة المتزايدة بين من يملكون القوة الاقتصادية ومن يحاولون بالكاد البقاء داخل منظومتها القاسية. وكما قال فرانك سيربيكو في فيلم Serpico (1973): "الحقيقة أننا لا نغسل قذارتنا بأنفسنا، بل نتركها تزداد سوءًا." لقد استمرت آليات الفساد وآليات السوق التي تخدم المصالح الذاتية لفترة طويلة إلى درجة أن الإصلاح يبدو مستحيلًا حتى يأتي شخص مثل عبد الإلاه ويفضح حقيقة النظام. لقد كان، ما يُسمى ب"الربيع العربي"، في 2011 و2012 غير متوقع، لكنه لم يندلع فقط بسبب الفقر، بل لأن الكرامة كانت غائبة لعقود. لم يخرج الناس إلى الشوارع لأنهم كانوا فقراء، بل لأن فقرهم كان مفروضًا عليهم، وليس خيارًا اتخذوه بأنفسهم. لكي يمضي المغرب قدمًا، عليه أن يدرك أن القوة الحقيقية لاقتصاده لا تأتي من حماية الاحتكارات، بل من تعزيز المنافسة الحقيقية وحقوق المستهلكين. أمام السلطات خيار واضح: إما أن تنحاز إلى الامتيازات الراسخة، أو أن تدافع عن مبادئ العدالة التي تخدم الصالح العام. قد تبدو قصة بائع السمك مجرد حدث عابر في سياق أوسع، لكنها في الواقع اختبار جوهري للبوصلة الاقتصادية والأخلاقية للبلاد. والسؤال الذي يظل معلقًا: هل سيختار المغرب إسكات من يكشفون الظلم، أم سيصغي أخيرًا لصوت الحق؟ أستاذ التعليم العالي بالولايات المتحدة الأمريكية