التقيت الشاعر المكناسي المرحوم السي عبد السلام المكناسي، في شارع محمد الخامس بالرباط، مباشرة بعد توقف العدوان الثلاثيني على العراق، فسألته عن صحته، فأجابني بالحرف: «لقد خرجنا من هذه الحرب منهوكي القوى». وجدتني أتذكر هذه العبارة مع بداية الهدنة في غزة، مع فارق كبير بين الحربين. لقد عشت منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وإلى الآن كابوسا جعلني شاردا أتنقل بين وسائل الإعلام، والقنوات، وكلما وصلت إلى تلقي أقصى جرعات التوتر والقلق، كنت أتحول إلى القنوات التي تقدم أفلام العنف، والخيال العلمي الهوليوودية. كانوا في البيت يتعجبون من مشاهدة هذه الأفلام، فلم يكن جوابي سوى تأكيد أنها أفلام «الواقع الخيالي» الذي يعلو على «الواقع الحقيقي». بل إنها وهي تبدو أكثر لا طبيعية من أراجيف «السرديات غير الطبيعية» تؤدي إلى جعل الواقع الحقيقي محاكاة لها وليس العكس. وشتان بين السرد الإعلامي والسرد السينمائي. إن دوران هذه الأفلام حول الحروب التاريخية والمتخيلة والمتوقعة وحول الفيروسات، والقيامة، والاغتيالات، والتطهير، وغيرها، ليست كلها سوى اختزال للحضارة الغربية وللسوبرمان، وللتفوق العسكري والاستخباراتي، وأخيرا للرغبة في إحكام القبضة على العالم. هذه هي حضارة الغرب المادية التي بادعائها ممارسة تحضر الآخر تمارس أقصى درجات التوحش. وما مثال تداعيات طوفان الأقصى ببعيدة. إنها تختصر كل تاريخ العنف الذي مارسه الغرب منذ الحروب الصليبية إلى الآن. ولعل فيلم «التطهيرالأبدي» forever Purge The،2021، وهو الجزء الخامس من أفلام التطهير، من بين أدق الأفلام التي تجسد أقصى درجات العنف والسادية التي تمثلها هذه الحضارة ضد من لا ينتمون إليها. تصدر الحكومة الأمريكية قانونا يجعل ليلة 21 آذار (مارس) من كل عام لارتكاب جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب، وذلك باستعمال كل الأسلحة تنفيسا لمواطنيها، وللتقليل من جرائم القتل خلال السنة بكاملها. وفي السابعة صباحا تنتهي الليلة، وتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي. لكن مجموعة من الخارجين عن القانون يقررون تأبيد التطهير. لم تكن حرب الصهيونية على غزة سوى تطهير أبدي، حتى أوقفته صبيحة الهدنة. لكن مجرميها أبوا إلا تحويلها إلى الضفة الغربية، بهدف جعل جنين غزة أخرى. بل إنهم كلما بدأ الحديث عن هدنة عاثوا فسادا وإبادة أكثر مما كان. هذا ما فعلوه في الجنوب اللبناني، والناقورة شاهدة. وما قاموا به في سوريا بعد سقوط الأسد، وجبل الشيخ دالة على التعطش إلى الدماء والتدمير. وإن من نَسبَ إليه فضلَ إيقاف الحرب على غزة هو من أعطى الصهيونية مواصلة الإبادة والتطهير في الضفة الغربية بجعله المجرمين المستوطنين بمنجاة من أية محاسبة. فما العلاقة بين تأبيد التطهير والعصر الذهبي الذي يحلم ترامب باستعادته في ولايته الثانية؟ إن العصر الذهبي الترامبي هو تأبيد التطهير ضد البلاد والعباد. يبدو التطهير ضد البلاد بزعم أن إسرائيل نقطة في الخريطة، وعليها أن تتسع لتبدو واضحة وكبيرة جدا كما يلزم لتكون في حجم أمريكا، وتحقيق إسرائيل الكبرى. أما أمريكا فعليها أن تتوسع لتضم كندا، ويغدو شمال القارة أمريكيا ليكون تطويرا للتطهير الأبدي الذي ابتدأ مع «العصر الذهبي» الذي أباد شعوب المنطقة مع الإسبان والبرتغال ويعد ذلك مع كل التاريخ البريطاني الأمريكي. وما المطالبة بجزيرة غرين لاند، وبناما، وتغيير اسم الخليج ليصبح أمريكيا سوى دليل على هذا التطهير. أما تأبيد العصر الذهبي للتطهير فليس سوى، من جهة أولى، مطالبته بإخلاء غزة للصهاينة، ودفع الأردن ومصر إلى استقبال الغزيين حرصا منه على أمنهم، معترفا لا شعوريا بأن الدولة القومية اليهودية هي أداة للحرب والإبادة في المنطقة، وهي المسؤولة عن آلامهم وعذاباتهم التي تدعمها الإدارة الأمريكية. أما الضفة الغربية فالمجرمون الذين يرفضون انقضاء «ليلة» التطهير الأبدي فهم من يتكلف بإنهائها، وتدمير بنياتها وبنايات أهلها المتهالكة لتبني عليها الصهيونية وأمريكا، ليس مستوطنات، ولكن إقامات أخريات جديرات بالقرن الواحد والعشرين لتكون متلائمة مع العصر الذهبي الذي يحققه ترامب. ويبدو ذلك بجلاء أيضا، ومن جهة أخرى، في توقيعه مراسيم خاصة بالمهاجرين الذين عمد إلى تهجيرهم بطريقة مشينة ليرفع بذلك شعار «أمريكا للأمريكيين» ضاربا عرض الحائط كل الإملاءات المفروضة على دول الجنوب حول حقوق الإنسان، وصيانة كرامته. إن مقارنة ما قام به مع المهاجرين يسقطه على الفلسطينيين، بدعوته إلى إخراجهم من أراضيهم، وكأنهم متسللون إلى أرض الميعاد التي أورثها الله بني إسرائيل، وعليهم أن يخلوها لتكون إسرائيل للإسرائيليين. ولما انتهى إليه الرفض القاطع الذي عبرت عنه الأردن ومصر، يدفعهم إلى البحث عن بدائل لأن في قرارة تفكيره أن الأردن ومصر وسورياوالعراق ستكون جزءا من الشرق الأوسط الجديد الذي هو إسرائيل الكبرى. أما ثالثة الأثافي فهي تفكيره فيمن سيمول مشاريعه لاستعادة العصر الذهبي الأمريكي. ولم تبد له غير دول الخليج التي عليها دفع فاتورة أحلامه المريضة بزعم حمايتها، وفرض القيود الجمركية على كل دول العالم للتنفيس على الشعب الأمريكي الذي صوت عليه، وجعله المنقذَ الذي سيجعل أمريكا «الإلدورادو الجديد» في ولايته كما كان ذلك منذ اكتشاف أمريكا. يمكن لممارسي التطهير الأبدي في فلسطين أن يتوقعوا أو يتخيلوا، لا فرق، أن العصر الذهبي الأمريكي سيحقق أحلامهم التوسعية، والقضاء النهائي على الفلسطينيين. ويمكن لليمين المتطرف، وهو يتجرع مرارة مشاهدة الطريقة التي نفذت بها المقاومة إطلاق الرهائن، أن يفكر في تأبيد التطهير والإبادة، وإلغاء صفقة الهدنة، وإيقاف الحرب. لكن عليهم أن يتأكدوا، جميعا وأشتاتا، أن ليالي التطهير الأبدي، وأيامه طيلة خمسة عشر شهرا دالة على تبخر أحلامهم، وتهاوي طموحاتهم، وهم يتكبدون الخسارة الجسيمة التي طمست الأهداف التي سطروها في الثامن من أكتوبر، أن الزمن لا يسترجع، وأن الماضي لن يعود. لقد خلقت المقاومة حاضرا جديدا، وهي قادرة على المحافظة عليه من أجل المستقبل مهما كانت التضحيات والعوائق والإكراهات. إن هذا التحدي الفلسطيني الذي تولد مع السابع من أكتوبر دال على أن من له قضية عادلة لن يتنازل عنها أبدا، وأن نهاية المستبد الغاشم إلى زوال. إن الإيمان بالقضية نتاج قيم سامية ذات بعد إنساني يؤكده تاريخ البشرية. كما أن الاستبداد الغاشم ليس سوى دليل التوحش الحامل للقيم المناهضة لكل ما هو إنساني. كان يؤلمني كثيرا ما وقع منذ بداية طوفان الأقصى، وكان يدفعني إلى التساؤل عن الإنسان وعلاقته بالإنسان، وبالعالم، وأنا أستعيد تاريخ الحروب البشرية. يختلف العصر الحديث عن العصور السابقة بما حمله من أفكار وفلسفات ودعوات إلى رفاهية الإنسان، وحقوقه. لكن ما كنت أستنتجه إلى حين 19 من كانون الثاني (يناير) وما طرأ مع تبادل الرهائن والمعتقلين لا يتعلق بالنصر أو الهزيمة، ولكن بالتفريق بين وحشية الإبادة وتأبيد التطهير، من أجل فرض الباطل (أسطورة أرض الميعاد)، والذي تسنده الآلة الجهنمية المسنودة من دول العالم المتقدم، وعلى رأسه أمريكا، وبين إنسانية الدفاع عن الحق في الوجود الذي لا تدعمه سوى حركات المقاومة، وصوت خافت مما بقي من الضمير الإنساني. أختزل صورة الوحشية، ليس فقط في حرب الإبادة ودعوات استعادة العصر الذهبي، فهذا مما تشهده الوقائع. ولكن في طريقة معاملة المعتقلين في السجون الإسرائيلية، وكيفية التعامل مع الرهائن في خرائب غزة المدمرة. برزت رهائن الخمسة عشر شهرا وكأنها كانت في فنادق راقية. أما المعتقلون بمحكوميات المؤبد وعشرات السنين، فبدوا وكأنهم خرجوا من قبور منسية. هنا يبرز الفرق بين وحشية دولة إسرائيل، وإنسانية قطاع غزة. إن دعوى استعادة العصر الذهبي في خطاب ترامب تأكيد لتأبيد التطهير العرقي.