يسود جدل واسع في الأوساط السياسية الأوروبية حول السماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، بحضور حفل إحياء ذكرى المحرقة في بولندا. هذا الجدل يتجاوز حدود الالتزام القانوني باتفاقية روما ليطرح تساؤلات أعمق حول الأخلاق السياسية والعدالة الدولية ومعايير الإنسانية. تواجه نتنياهو اتهامات بارتكاب جرائم حرب خلال الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، من بينها استخدام التجويع كوسيلة حرب، واستهداف المدنيين عمدًا، والقتل، والاضطهاد. هذه الاتهامات لم تمنع بولندا من تقديم دعوة "مرصعة بالسجاد الأحمر" لرئيس الوزراء الإسرائيلي لحضور الذكرى الثمانين للمحرقة، متجاهلةً بذلك التزاماتها كدولة موقعة على اتفاقية روما. يصف جوزيب بوريل، الرئيس السابق للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، هذا القرار بأنه "استهزاء بالعدالة الدولية" و"خطأ جسيم". وهو يرى أن استقبال نتنياهو يعكس ازدواجية في تطبيق القانون الدولي، مما يضعف مصداقية الاتحاد الأوروبي حين يطالب الدول الأخرى باحترام قرارات المحكمة. تبرير بولندا لهذه الخطوة جاء بحجة تكريم "الأمة اليهودية" التي فقدت ملايين الأرواح خلال المحرقة. لكن هذا الموقف أثار ردود فعل غاضبة من ناجين من المحرقة، الذين رأوا في الدعوة إساءة للذاكرة التاريخية. وصف غابور ماتيه، أحد الناجين، هذه الدعوة بأنها "خيانة للمبادئ الإنسانية والقانون الدولي". أما ستيفن كابوس، وهو ناج آخر، فقد اعتبرها "تدنيسًا لذكرى ضحايا المحرقة". نتنياهو، الذي دأب على مقارنة أفعال حركة حماس بالمحرقة، يستخدم الخطاب التاريخي لصالح أجندة سياسية، ما يثير انتقادات واسعة حتى من داخل المجتمع اليهودي العالمي. فكيف يمكن لرجل يتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أن يكون ممثلاً شرعيًا للأمة التي عانت من أحد أسوأ فصول التاريخ الإنساني؟ إن القضية تتجاوز حدود بولندا لتسلط الضوء على التناقضات الأخلاقية والسياسية في النظام الدولي. دول مثل فرنسا وإيطاليا والمجر أعلنت سابقًا أنها لن تعتقل نتنياهو في حال زيارته، مما يعكس انقسامًا بين الالتزام القانوني والمصالح السياسية. هذا الانقسام، بحسب بوريل، يهدد النظام العالمي القائم على مبدأ المحاسبة الدولية. السماح لنتنياهو بحضور مراسم المحرقة في أوشفيتز لا يقتصر على كونه خرقًا قانونيًا؛ بل إنه يشكل رمزًا لصراع أعمق بين العدالة والسلطة، وبين الذكرى والاستغلال. إذا كانت ذكرى المحرقة تمثل "لا نكرر أبدًا"، فكيف يمكن قبول مشاركة رجل متهم بارتكاب جرائم إبادة جماعية؟ إن إحياء ذكرى المحرقة يجب أن يكون تذكيرًا بضرورة الوقوف في وجه الظلم والإبادة في كل زمان ومكان. غير أن استضافة نتنياهو في هذا السياق تعكس أزمة في فهمنا لهذه القيم. ما يحدث اليوم ليس مجرد تهاون قانوني؛ بل هو امتحان للقيم الإنسانية نفسها. في النهاية، يبقى السؤال: هل تُستخدم ذكرى المحرقة كأداة سياسية، أم أنها تظل منارة تحذرنا من الانزلاق في دروب القمع والوحشية؟ الإجابة على هذا السؤال قد تحدد ليس فقط مصير العدالة الدولية، بل جوهر إنسانيتنا المشتركة.