مرة أخرى نجدنا مصنفين، قسرا، ضمن البلدان العربية، ففي كل الأحداث الكبرى والتحولات التي تعرفها المنطقة العربية يكون بعضنا أكثر عروبة من العرب... فعندما جاءت فكرة القومية العربية، وتبنتها أنظمة في المشرق وواكبتها حملات إعلامية ضخمة ومستمرة و إمكانيات مالية للدعاية و الاستقطاب، تحول بعضنا، هنا في المغرب ، إلى كبار دعاة القومية العربية،و الذي كان بعضهم يقضي من الوقت في بغداد أو دمشق أو طرابلس أو بيروت أكثر مما يقضيه في مدينته وبلده، وعمل هؤلاء الدعاة على كل الواجهات الرسمية و الحزبية و الإعلامية والجمعوية لترسيخ فكرة أن المغرب جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، رغم أن المغرب ليس بلدا عربيا ! وعندما جاءت موجة الأصولية، بمختلف تلاوينها، والقادمة من الشرق أيضا، تحولت عدد من فضاءاتنا العمومية والمؤسسات التعليمية و غيرها من الفضاءات إلى مجال تأثير واضح لهذه الموجة التي طرحت نفسها كبديل عن "النظام العربي" القومي الفاشل... ووجدنا أنفسنا، مرة أخرى عنوة، نشكل جزءا لا يتجزأ من هذه "الأمة العربية" . وسميت بلاد تامزغا ب" المغرب العربي" رغم انف التاريخ والجغرافيا والحضارة والثقافة والانتروبولوجيا والاثنولوجيا وعلم الاحتماع والبيولوجيا وكل علوم الانسان... وكاد يترسخ هذا الخطاب لولا ظهور حركة ، مغربية خالصة هذه المرة، وهي الحركة الأمازيغية، لتدعو إلى عودة الأمور إلى نصابها، لأن المغرب ليس بلدا عربيا، بل هو بلاد الأمازيغ أساسا، و الباقي تأثيرات خارجية... اليوم، كل الخطابات الرائجة تؤكد ، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن ما يحدث عند العرب يجب أن يحدث عندنا، لأننا" جزء لا يتجزأ من الأمة العربية".... فلأن هناك اليوم ضرورة لإسقاط النظام العربي الفاشل، عبر إسقاط الأنظمة، ولأننا جسد واحد فإن أصيب عضو منه، أصابت الحمى كامل الجسد كما يقال... فلابد ان يحدث عندنا مايحدث عنده العرب، وحتى بعض الناشطين الأمازيغ لا ينتبهون، وهم في غمرة الحماس و التأثر بما يحدث في البلدان العربية، أنهم يرسخون، بشكل غير واعي، فكرة أن المغرب بلد عربي، ويمسه ما يمس كل البلدان العربية... والواقع أن المغرب ليس بلدا عربيا بل فقط تجمعه مع البلدان العربية بعض العناصر مثل الدين و اللغة العربية، كلغة ثانية ومفروضة، دون اختيار الشعب، الذي يتشكل في غالبيته العظمى من الأمازيغ، وتفرقه مع هذه البلدان أشياء كثيرة ، ومنها التركيبة الاجتماعية وحتى الدينية، ونظام الحكم، وتدبير الاختلاف ونمط الحياة، و الثقافة الشعبية، والاقتصاد والجغرافيا... هل يكفي الدين واللغة الثانية ( الرسمية الآن) لتكون جزء من أمة؟ هل يمكن لبلدان في أمريكا اللاتينية التي تتقاسم اللغة والدين المسيحي، أن تكون جزء من أمة واحدة تقودها إسبانيا؟ وحتى الذين يقولون بفكرة أن المغرب يشكل حالة استثناء عربي، فإنهم يؤكدون أنه جزء من هذه الأمة، هو فقط يشكل استثناء، استثناء من ماذا و لماذا؟ خلف هذه العبارة تقبع فكرة عروية المغرب... والحال أن المغرب ليس عربيا، وانطلاقا من ذلك فهو لا يشكل استثناء ولا تميزا، بل هو مختلف، و هويته الحقيقية طمسها الدستور في صيغته الحالية، وطمسها العروبيون الذين تحكموا في الفضاء العام، من داخل السلطة ومن خارجها، وطمسه مثقفون وجدوا كل الدعم المادي والمعنوي من الأنظمة العربية التي استعملت فكرة القومية العربية كايديولوجية ، وصحفيون عديدون مرتبطون بهذا الشكل أو ذاك بمراكز نفوذ القوميين العرب في الداخل أو في الشرق... لقد كان الحديث منذ وقت قريب عن هوية المغرب الأمازيغية واختلافه عن الشرق بمثابة جناية و ارادة تقسيم الأمة، و الارتباط بالغرب ، و فتنة و قس على ذلك.... ومثقفونا الكبار، ماعدا أقلية، انشغلوا بالقضايا العربية و بالفكر العربي، و بالعقل العربي، وبالنظام العربي وبالقومية العربية و... فاكبر مشروع فكري لمواطن مغربي هو الراحل محمد عابد الجابري، أنصب على بنية الفكر العربي، وعندما أراد أن يكتب شيئا عن المغرب، بارتباط مع انتمائه الحزبي، دعا إلى محو ما اعتبره لهجات أمازيغية لأنها تهدد القومية العربية و عروبة المغرب ! وحظي هذا المكفر العربي ( المغربي الأصل) بكثير اهتمام مقابل اهتمام ضئيل لمفكر مغربي حقيقي دعا إلى جعل المغرب أفقا للتفكير وهو الراحل عبد الكبير الخطيبي.. وباستثناء حزب التقدم والاشتراكية الذي أصدر سنة 1980 وثيقة بعنوان "اللغات والثقافات الأمازيغية جزء لا يتجزأ من التراث الوطني"، وتتحدث وثائقه عن تعددية المغرب واهمية المكون الامازيغي في هويته، وحزب الحركة الشعبية الذي جعل من القبلية والأمازيغية عقيدة سياسية، فإن باقي الأحزاب الوطنية ظلت لعقود تحارب الأمازيغية وترفض الاعتراف بالهوية الحقيقية للمغرب، حتى جاء الخطاب الملكي بأجدير قبل 11 سنةالذي تحدث فيه الملك عن الهوية المتعددة للمغرب المكانة المركزية للأمازيغية في هذه الهوية، وما تلا ذلك من مبادرات رسمية مثل إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، وإقرار تدريس الأمازيغية، و إنشاء التلفزة الأمازيغية.. بعد هذا الخطاب فقط أصبح الكل يتحدث عن الأمازيغية وضرورة الاهتمام بها وكان الأمازيغ في المغرب ينتمون إلى أقلية عرقية ولغوية أو إلى ما يسمى بالشعوب الأصلية مثل الهنود الحمر، يحتاجون إلى عناية حتى لا ينقرضوا، هم الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من ساكنة البلاد، وهم الأصل والأساس... بل أن أغلب العائلات التي حكمت المغرب في الماضي عائلات أمازيغية، وحتى الذين اعتبروا من أصل عربي ليسوا إلا أنصاف عرب، لأن الأمهات دوما أمازيغيات، وحتى الذين جاءوا من الشرق كغزاة (يقال عنهم الفاتحون) لم يأتوا بزوجاتهم، بل تزوجوا من مغربيات أمازيغيات، وعلميا فان الابن لا ينسب فقط لأبيه بل إلى أمه أيضا مناصفة، وإن كانت المعرفة العامية السائدة تنسب الابن للأب فقط، وهي معرفة لا يعتد بها ومتجاوزة. نختلف عن المشرق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وجغرافيا وثقافيا (في العمق لأن الثقافة الحقيقية بالمعنى الواسع للمفهوم هي ثقافة الشعب وليست ثقافة الكتب و اللغة الرسمية)، ومع ذلك يصر الكثير من المغاربة، الذين يعتقدون أنفسهم عربا ( لأنهم تعلموا أو ورثوا اللغة العربية) وحتى بعض الأمازيغ، إن المغرب بلد عربي ومرتبط عضويا بالعالم العربي و ب " المغرب العربي" لدرجة أن الكثيرين يعتبرون القضية الفلسطينية قضية وطنية للمغرب مثلها مثل قضية الصحراء ! ويتظاهرون ويشكلون لجانا للدفاع عن وحدة العراق بحماس كبير أكثر من دفاعهم عن وحدة وطنهم المغرب و فتور واضح في الدفاع عن تحرير سبتة ومليلية ! أعتقد، كرأي شخصي سوف لن يعجب الكثيرين بالطبع، أن هذا البعد، بعد الهوية الوطنية التي من المنتظر أن ترسخ دستوريا مع دسترة الأمازيغية، كمطلب شعبي حقيقي وليس نخبويا، هو ما يشكل اختلاف المغرب عن العرب وبالتالي اختلاف مساره السياسي، الذي كان دوما مختلفا عن الشرق في تدبير اختلافه و تعدده بتوافقات غير معلنة، منذ نظام بلاد المخزن و بلاد السيبة الذي هو شكل من تدبير هذا التعدد الغني لهذه الأمة العريقة، التي ليست واحدة من من مدن الملح والنفط ولامن جيتوهات عسكرية وبوليسية التي يثور عليها العرب اليوم... إلى التناوب التوافقي، وانتهاء إلى ما هو مطروح اليوم من توافق وطني جديد على الدستور واشياء اخرى ، لكن قبل كل شيء على هويتنا وإنهاء هذا الانتماء المزعوم للأمة العربية... أكيد أن المغرب غير معزول عن محيطه العالمي والجهوي (ولا أقول العربي) ، فهناك العولمة التي يتأثر بها بالضرورة، وهناك المحيط الجهوي شمالا و علاقة بالوضع المتقدم مع الاتحاد الأوربي، وهناك أخيرا تحولات جنوب و شرق المتوسط، لابد أن يكون لكل ذلك تأثير على تطورنا كدولة و كأمة... وكل تلك التأثيرات هي التي تفرض اليوم توافقا تاريخيا جديدا !ليس فقط في الجانب الدستوري، الذي يهم النخبة بالأساس (والنخبة ليست هي الشعب دائما، والدليل على ذلك أن النخبة ظلت تعتبر نفسها عربية بينما الشعب في غالبيته أمازيغي !) بل في الاختيارات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمس الشعب فعلا في حياته اليومية، وفي صلب كل ذلك الإقرار بالهوية الحقيقية لهذه الأمة وبلغتها الأولى دستوريا وعمليا وفي الحياة العامة، وهذا ليس ترفا كما يعتقد البعض بل مرتبط بحياة الشعب وكرامته، وأهمية ذلك لا يعرفها سوى من يقف أمام القائد أو القاضي أو الدركي وينهره بكل فضاضة و يقول له "تكلم بالعربية " وتضيع حقوقه، ويتشكل إحساس ب " الحكرة" والحرمان من حق من حقوق الإنسان وهي الحقوق الثقافية واللغوية و بالكرامة... المغرب الجديد الذي يريد الكثيرون بناءه (ولا أقول الجميع لأن هناك من يريد إبقاء الوضع على ما هو عليه وهناك من يريد الرجوع بنا إلى 14 قرن مضت ! ) يجب، في نظري، أن ينبني أولا قبل كل شيء على هوية واضحة، مغرب متعدد مختلف، قادر على استيعاب الثقافات الأخرى في محيطه المتوسطي ومنها الثقافة العربية، دون ذوبان في الآخر، دون تنكر لأصوله و حضارته وتاريخه و ثقافته... إنه المغرب و كفى بدون أي صفة أخرى ... لينطلق إذن حوار وطني جدي لصناعة هذا التوافق التاريخي الجديد انطلاقا من المغرب ومن أجل المغرب، الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى أمر إيجابي بل وضروري، لكن استنساخها لن يؤدي، في تصوري، سوى لمولود مشوه... وبالمناسبة فإن ما يحدث هناك عند العرب لم يتضخ مساره بعد بكامل الوضوح... أول المؤشرات مصادقة المصريين ب78 % في التعديلات الدستورية التي دعت كل أطياف ساحة التحرير (ماعدا الإخوان المسلمون) إلى التصويت عليها ب" لا "، ولم تحصل "لا" سوى على 22% ... درس آخر لم ينتبه إليه أحد في غمرة الانشغال بالمسار الدموي في ليبيا، وبما يحدث عندا من حراك قد يساهم في بناء مغرب جديد ديمقراطي حداثي ومتقدم كما قد يؤدي إلى أشياء أخرى غير متوقعة أو غير مفكر فيها بما يكفي من العمق والجدية... هذا مجرد رأي للنقاش والحوار، لكن المؤكد أن تيارين سيرفضانه جملة وتفصيلا، الأول أنصار القومية العربية والمتحمسون لها والذين سيصبحون أيتاما بسبب الصعوبات التي يواجهها البعث بسوريا بعد انهياره بالعراق وبسبب ذهاب نظام الأخ العقيد إلى زوال، والتيار الثاني هو التيار الأصولي بكل ألوانه وأشكاله لان الدين عندهم هو محدد الهوية واللغة العربية مقدسة لأنها لغة القران... والامازيغ عجم، وهو كذلك مثل الأتراك والإيرانيين وغيرهم من الأمم التي دخلت الإسلام دون أن تكون ملزمة بالدخول للعروبة...