شهادة جديدة في كتابات الأدباء والمفكرين من المغرب والوطن العربي والأجانب تؤكد أهمية وجدارة المرحوم الزعيم علال الفاسي في الصدع بالحق والدفاع عن الحرية، ومقارعة الاستعمار الذي إستبد بأوضاع الأمة العربية. كان اهتمام علال الفاسي بالمظاهر الاجتماعية والثقافية والسياسية للأمة العربية انعكاسا لأحاسيسه القومية العميقة. ونقدم هذه الورقة للأستاذ محمود صالح الكروي من جامعة بغداد، وقد نشرها في العدد 462 من مجلة المستقبل العربي بتاريخ أبريل 2009. واجهت الأمة العربية فجر القرن العشرين، وهي تجتاز أخطر مرحلة من مراحل تاريخها الطويل والمثير. وعلى الرغم من أنَّ الاستعمار فُرض على الأمة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، لكن صوت الحرية لم يخبُ في ضميرها قط، كما أن إرادة الحياة لم تكن إلا في قوة وثبات وتنامي وعيها الجماهيري. وردّاً على تلك الإحباطات التي أصيبت بها القوى الوطنية والقومية، بدأت الأمة العربية تشهد حالة نهوض من جديد موجّهة ضدّ السيطرة الاستعمارية الأوروبية، وكان ذلك دافعاً للعديد من قادة الفكر والثقافة العرب إلى أن يجنّدوا أنفسهم لخدمة أهدافها الوطنية والقومية، وكان علال الفاسي واحداً من هؤلاء. نشأته ونضاله بدأ علال الفاسي نضاله ضدّ الاستعمار الفرنسي منذ صغره، واستطاع أن ينظم الشعر الوطني وعمره لايتعدى خمسة عشر عاماً. وقد أسهمت في تكوين فكره عوامل عدة نذكر منها، فضلاً عن الأحداث التي عاشها المغرب في مطلع القرن العشرين، انتماءه الاجتماعي إلى أسرة محافظة ومن علماء الدين، عربية النسب، تدعى عائلة الفاسي، وهي من أصل قريشي. وإذا ما أردنا التعرف على أبعاد المضمون القومي العربي لعلال الفاسي نجد أن أول الخيوط التي يمكن الإمساك بها هو الانتساب إلى الأمة العربية، ذلك النسب الذي طالما افتخر وتغنى به، ولم يكن هذا الفخر بمعزل عن الفخر بالأمة العربية وأمجادها، فطالما دافع عن تاريخها وتراثها وحضارتها ووحدتها، وتأتي في هذا الإطار تحذيراته في إطار المحافظة على الطابع القومي العربي، إذ يقول: «إن الأمة العربية ولدت يوم ولدت كاملة الأجزاء لاهي بالمشرقية ولا بالمغربية. ومن الخيانة لهذه الأمة أن تجزأ إلى أقاليم أو تقسم إلى شعوب. إنّما هناك آسيا العربية وأفريقيا العربية، وكلاهما وطن واحد نعيش فيه أمة واحدة». ترسّخ هذا الوعي الوطني والقومي العربي لدى علال الفاسي وهو في بواكير صباه بعد أن أدرك بوعي مبكر نتائج فشل ثورة الريف في شمال المغرب عام 1926 بقيادة عبد الكريم الخطابي، ومن ثمّ إقدام فرنسا على تنفيذ حملة تبشيرية ترمي إلى تصفية الإسلام والقضاء عليه بعد أن أدركت أنه الحصن الحصين للدولة المغربية، وبالمحصّلة تهدف إلى طمس معالم الشخصية العربية الإسلامية. واستخدمت لتنفيذ ذلك وسائل شتى توجتها بإصدار الظهير البربري بتاريخ 1930/5/16، الذي يعدّ حادثاً سياسياً خطيراً علّم نقطة البداية في تاريخ الحركة الوطنية الجديدة. في هذه الفترة بالذات، بدأت تظهر شخصية علال الفاسي في مقدمة الذين تزعموا حركة مقاومة الظهير البربري من أجل المحافظة على وحدة المغرب وعروبته وإسلامه. ومنذ التاريخ المذكور أعلاه، قاد علال الفاسي معركة النضال والتصدّي للسياسة البربرية الفرنسية من خلال توظيف دروسه في القرويين ومحاضراته في المدارس والمساجد لإثارة الحماسة الوطنية لدى الشعب بما يذكره بمواقف البطولة للسلف الأول في الدولة العربية الإسلامية. وقد أسهمت محاضراته في إيقاظ الوعي العروبي في المغرب، وذلك بتثقيفه بلغته العربية شارحاً مبادئ الفكر القومي العربي والإسلامي من أجل إحباط سياسة الفرنسة، وقد كانت هذه اليقظة جزءاً من الوعي الوطني، إذ لم يشعر المغاربة في يوم من الأيام بوجود اختلاف بين الوطنية والقومية. وكان يؤمن بأن اللغة العربية هي أحد مقومات الأمة الأساسية ومميزاتها، لا بَلْ يؤكد بالقول: «اللغة العربية هي اللغة الوطنية والأداة الفعالة في التعبير عن الحضارة العربية، وهي كفيلة بأن تساير الركب وأن تستعيد قوتها العلمية». وهو يؤمن بأن الأمة التي تفقد لغتها، إنما تفقد وجودها إذ يقول : «فاللغة ذات أثر فعال في تكوين الأفكار وفي خلق الاتجاهات، وبقدر ما يتناسى المواطن لغته أو يجهلها بقدر ما يندمج كل الاندماج في لغة الآخرين، أي في فلسفتهم وكل ما به يشعرون»، لأن اللغة ثقافة وفكر ووجدان، لا بلْ إنها تمثل تصورا للوجود والعالم، فضلا عن أنها أصبحت رمزاً للشخصية، والدفاع عنها ظاهرة إيجابية، لكل ذلك قاد علال الفاسي معركة النضال من أجل التعريب، وقد أكد ضرورة أن تكون اللغة العربية اللغة الوحيدة المعتمدة للتعليم في المغرب. وفي الوقت نفسه، طالب العرب أن يتبنوا كلّ النتائج الحسنة التي تسفر عنها التجارب الإنسانية. كان اهتمام علال الفاسي بالمظاهر الاجتماعية والثقافية هذه انعكاساً لأحاسيسه القومية العميقة التي لم تقتصر على هذه المظاهر فحسب، وإنما امتدت لتطغى على مواقفه السياسية أيضا التي غلب عليها طابع الدفاع عن الأمة العربية في مواجهة الأطماع الاستعمارية للدول الغربية، التي تهدف إلى القضاء على الوجود العربي الإسلامي في المغرب. هذا الموقف الوطني والعروبي عرّضه لملاحقة سلطات الاحتلال الفرنسي في المغرب وقيامها بنفيه عام 1937 إلى الغابون، وبقائه هناك لغاية عام 1946، عاد بعدها إلى المغرب وكان أكثر صلابة وإيماناً بشرعية نضاله ومقاومته للمحتل الفرنسي. واستمر في قيادة نضال حزب الاستقلال، وأصبح مناضلاً سياسياً معروفاً ومطارداً من قبل السلطات الفرنسية، مما دفعه إلى أن يغادر المغرب عام 1947 ويهاجر إلى القاهرة لاجئاً سياسياً، ويتخذ منها مقراً لنشاطه السياسي في التصدّي للسياسة الاستعمارية الفرنسية في المغرب. ولاشك أن هجرته هذه، والتقاءه بالعديد من الشخصيات الوطنية والقومية في مصر وخارجه، قد أسهما في توضيح مخاطر الأطماع الغربية والاحتلال الفرنسي للمغرب على السواء. واستمر علال الفاسي يواصل نضاله بعزم وإصرار إلى أن تحقق استقلال المغرب عام 1956، وعاد بعد ذلك إلى المغرب ليواصل قيادته الميدانية لحزب الاستقلال والمشاركة في إدارة الشأن السياسي. من هذه الحيثيات انطلقت تلك المشاعر القومية العربية الجيّاشة التي تحوّلت من خلال نشاطه الواسع إلى صياغات فكرية ذات تأثير في الفعل القومي العربي المناهض للاستعمار، ولم يكن ذلك النشاط محصوراً في نطاق جغرافي محدّد، بل امتد على طول الوطن العربي وعرضه بشكل جعل علال الفاسي حالة عربية. لذا، نجد في فكر علال الفاسي تشعباً كبيراً نظراً إلى وفرة نتاجات علال الفاسي وتناولها لميادين فكرية متعددة توجب البحث المتخصص، وعلى هذا الأساس، حدّد هذا البحث بأبعاد المضمون القومي العربي في فكره السياسي. أولاً: القضية الفلسطينية شغلت القضية الفلسطينية جزءا مهما من نضاله في تعميق الوعي القومي العربي في المغرب، وأسهمت كغيرها من العوامل في نشأة حزب الاستقلال الذي يرأسه علال الفاسي. وعندما انعقد المؤتمر الإسلامي العام من أجل القضية الفلسطينية في القدس عام 1932 اشترك وفد من الحركة الوطنية المغربية مكوّن من المكّي الناصري ومحمد بنونة، وأعلن الوفد تضامنه مع القضية الفلسطينية وشجبه الوجود الصهيوني في فلسطين، وقدم الوفد إلى المؤتمر تقريراً عن حالة الاستعمار في المغرب، وهو التقرير الذي نشر في ما بعد في القاهرة بعنوان: فرنسا وسياستها البربرية. ونظراً إلى اهتمام علال الفاسي المبكر بالقضية الفلسطينية، فقد شكل «لجنة حماية فلسطين والأماكن المقدسة»، وقد جسّد تشكيل هذه اللجنة وعياً قومياً مبكراً بالقضية الفلسطينية، واهتماماً خاصاً بها تمثل بالجهود الجليلة التي بذلتها تلك اللجنة من أجل القضية الفلسطينية، التي يمكن تلخيصها بالآتي: 1- العمل على إشعار الرأي العام المغربي بخطر الصهيونية على العروبة. 2- إعلان المنشورات التي تصلها عن القضية الفلسطينية من المشرق. 3 إرسال برقيات الاستنكار والاحتجاج إلى الهيئات العربية والدولية ضد السياسة الصهيونية في فلسطين قبل قرار التقسيم وبعده. 4 القيام بإحياء يوم فلسطين من كل سنة. 5 فضح وتعرية النشاطات الصهيونية حتي في أوساط اليهود المغاربة إلى حد أن الحزب الوطني وقع مع اليهود المغاربة وثيقة مشتركة وجهت إلى الخارجية الإنكليزية احتجاجا على قرار تقسيم فلسطين، وبذلك شكلت هذه اللجنة إحدى قنوات الاتصال ما بين الحركة الوطنية في المغرب العربي والمشرق العربي. وقد تطور هذا الموقف القومي العربي في ما بعد في تقديم مساعدات مالية وعينية للثوار الفلسطينيين أرسلت عن طريق الجامعة العربية، وكذلك بتشجيع الشباب الوطني المغربي على التطوع في صفوف الثوار الفلسطينيين من أجل المشاركة في تحرير فلسطين. وبذلك اعتبر علال الفاسي القضية الفلسطينية قضية الجماهير العربية في المغرب العربي عموما، والمغرب على وجه الخصوص، وكان متضامنا مع الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل الحصول على حقوقه، كما اعتبرها القضية التي وحدت صفوف العرب وجمعت كلمتهم وعلمتهم مالهم من قوة معنوية ونفوذ روحي. نستنتج مما سبق أن القضية الفلسطينية أثرا كبيرا في إنضاج الفكر القومي لعلال الفاسي، خاصة بعد الاتصال بالحركة الوطنية في المشرق العربي. ثم أدى تطور القضية الفلسطينية بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس الكيان الصهيوني إلى بلورة موقف أكثر جدية لتأييد قضية فلسطين واعتبارها جزءا من قضية الشباب الوطني المغربي التي يناضلون من أجلها. وفي ذلك يقول علال الفاسي «لقد ظلت قضية فلسطين منذ ربع قرن الشغل الشاغل للبلاد العربية، لكنها لم تنل في يوم من الأيام العناية الجديرة بها. فضاعت من أيدي العرب فرص كثيرة، كان يمكنهم معها أن يعدوا للصهيونية ما يستطيعون من قوة». وفي إطار اهتمامه بالقضية الفلسطينية، أشارت جريدة العلم إلى البرقية التي بعثها علال الفاسي باسم حزب الاستقلال الى هيئة الأممالمتحدة متضمنة تأييده لاستقلال فلسطين وعروبتها، كما أشارت إلى الرسالة التي تلقاها مكتب المغرب العربي في القاهرة من مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني يبدي فيها شكره لعلال الفاسي ومكتب المغرب العربي لاهتمامهما بالقضية الفلسطينية. واتسمت مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين بضعف نشاط علال الفاسي وحزبه إزاء القضية الفلسطينية بسبب الظروف الاستثنائية التي تعرض لها، والتي يمكن إيجازها في الآتي: 1 مطاردته وكذلك مطاردة كادر حزبه وأعضائه وزجهم في السجون. 2 حظر نشاط حزب الاستقلال رسميا بعد نفي الملك محمد الخامس في 20 آب / أغسطس 1953. في ضوء هذه المستجدات اضطر علال الفاسي إلى توجيه نشاطه إلى القضية الوطنية المباشرة والنضال من أجل الاستقلال، بيد أن ذلك لايعني التخلي عن القضية الفلسطنية، واستمر هذا الموقف حتى إلى مرحلة ما بعد استقلال المغرب عام 1956. وبعد الاستقلال، انشغل علال الفاسي أيضا بالمسألة الوطنية بسبب الظروف التي رافقت استقلال المغرب، ولم يتطرق الى القضية الفلسطنية في مؤتمر المجلس الوطني لحزب الاستقلال المنعقد في الرباط بتاريخ 19 20 8 1956، وكذلك لم يشر إليها في ندوة لجان العمل واليقظة للحزب في مؤتمرها المنعقد بتاريخ 7 / 5 / 1959 والمتضمن الخطوط الرئيسية لبرنامج حزب الاستقلال، وكذلك في مؤتمر الحزب العام المنعقد في 8 10 1 1960، وإنما انصرف الى معالجة أوضاع الحزب الداخلية وما ترتب عليها إثر الانشقاق الذي تعرض له الحزب في 25 1 1959. في ضوء ذلك أصبحت القضية الفلسطينية من المسائل الثانوية في اهتمامات علال الفاسي، حيث نلاحظ أنه لم يولها أي اهتمام في المؤتمر السادس للحزب المنعقد عام 1962، سوى إشارة عابرة في خطابه الذي ألقاه إذ قال: «وقد ساهم وطننا في بلورة الفكرة العربية في أمر فلسطين والاعتراف للفلسطينيين بكيان خاص يمكنهم أن يتكلموا داخل وطنهم وخارجه للدفاع عنهم واسترجاع بلادهم من يد الصهاينة» . هذا الموقف ترك ظلاله أيضا على المؤتمر السابع للحزب المنعقد عام 1965 ، الذي هو الآخر لم يتطرق إلى القضية الفلسطينية وما تعرضت له سوى بإشارة عابرة لما آلت إليه قضية فلسطين. إن التقصير بشأن القضية الفلسطينية في تلك الفترة يعد من المآخذ القومية على علال الفاسي، ولا سيما أنها أوضح مركز إشعاع في النضال العربي. ويبدو أن علال الفاسي شعر بذلك التقصير، لهذا فإنه في المؤتمر الثامن للحزب المنعقد في 24 26 11 1967 ، أولى القضية الفلسطينية اهتماما كبيرا، ولا سيما أن المؤتمر انعقد بعد نكسة حزيران/ يونيو، حيث أعلن تأييده وتضامنه مع القضية الفلسطينية بحيث تضمن خطابه في المؤتمر 24 صفحة عن القضية الفلسطينية، مبينا فيه أسباب النكسة، وكيف اغتصب اليهود فلسطين، مع إيضاح تاريخي لكل المحاولات الصهيونية الهادف الى احتلال فلسطين وغايتها من ذلك، ثم يتطرق الى موقف الغرب من قيام دولة إسرائيل، وكذلك عن خطة إسرائيل البعيدة المدى، وقد طرح علال الفاسي مقترحا لحل المشكلة الفلسطينية تضمن الآتي. 1 تخلي اليهود عن الصبغة الدينية والسلالية التي أعطوها لدولتهم. 2 تخلي العرب عن فكرة إجلاء اليهود الذين استوطنوا فلسطين. 3 جلاء الجيوش الاسرائيلية عن الأراضي العربية التي احتلتها في الأردن وسورية وغزة وسيناء وإرجاعها إلى حكوماتها. 4 عودة اللاجئين العرب إلى ديارهم وتعويضهم ما فقدوه من مال بسبب تشردهم. 5 تأسيس دولة لادينية في الضفة التي تسمى اليوم بإسرائيل وإعطاؤها اسم الجمهورية الديمقراطية الفلسطينية. 6 طبقا لما يقرره المؤتمر التأسيسي يوضع دستور الجمهورية على أساس وفاقي بين الديانات والطوائف بحيث توزع السلطة بصفة عادلة شبيهة بالصفة الجاري العمل بها في لبنان، وتكون اللغتان العربية والعبرية رسميتين للدولة. 7 تتمتع الطوائف المقيمة في الجمهورية بكامل حريتها الدينية، ويمكن أن تنظم شؤونها على الطريقة التي تريد، وتقوم الدول بواجب الرعاية والمساندة المادية والمعنوية للجميع. 8 تقبل الجمهورية عضوا في الجامعة العربية وفي المؤسسات المنبثقة عنها إذا رغبت في ذلك. ليس من المستغرب أن يكون لنكسة حزيران/ يونيو مثل هذا التأثير في موقف علال الفاسي، خاصة إذا ما ذكرنا الاثار الكبيرة التي جاءت بها هذه النكسة، حيث أذكت روحا نقدية واسعة على الساحة العربية كانت لها آثارها الواضحة والمعروفة لدى الشعب العربي. كذلك نجد اهتمام علال الفاسي ينصب على القضية الفلسطينية ليس فقط بكونها جزءا من اهتماماته الوطنية، بل بكونها قضية العرب الأولى، لذلك نراه في خطاب له بمناسبة ذكرى وثيقة الاستقلال عام 1970 يقول: «إننا لا نقبل أبدا أي حل لقضية فلسطين لا يرضي الشعب الفلسطيني ومنظمته المجاهدة» . وهو بذلك يؤكد شرعية نضال الشعب الفلسطيني معبرا عنه بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية، وكان اسمه الحركي في هذه المنظمة «الوالد» وفوق كل ذلك يعتبرها قضية العرب والمسلمين فيقول: فلسطين ستكون غاية العمل الأولى، سيناضل عنها. كل أولي الأمر وكل أفراد الشعب من المسلمين، لأنها لن تعود قضية الفلسطينيين أوالعرب وحدهم» . وضمن هذا السياق، يؤكد ضرورة التضامن العربي والإسلامي من أجل الدفاع عن قضية فلسطين، واعتبارها القضية التي يجب أن تأخذ الحيز الأول في اهتمامات العرب والمسلمين، ويذهب علال الفاسي إلى محاربة الحلول السلمية المطروحة لحل القضية الفلسطينية، ومنها مشروع روجرز الذي رأت بعض الحكومات العربية ضرورة الاستجابة لمناقشته ظنا منها أنه ربما يساعد على فتح أبواب الحوار، فيقول: «من الواجب أن أنبه إلى خطأ واضح، وهو اتخاذ هذه المبادرة دون توضيح أو تفاهم مع إخواننا المناضلين الفلسطينيين الذين يموتون باختيار ورضا في صفوف المعارك وفي جبهة القتال» . وفي هذا الخطاب يؤكد علال الفاسي أن الكفاح الطويل الدائم هو الحل الحقيقي لقضية . ويطالب في خطابه المواطنين بزيادة المعونات للثورة الفلسطينية للتمكن من مواجهة ظرفها العصيب. وضمن هذا السياق، يرى علال الفاسي أن القضية الفلسطينية مرتبطة أشد الارتباط بالقضايا الوطنية الداخلية، وكل إصلاح أو نضال داخلي هو دعامة للكفاح الفلسطيني، ويعبر عن هذا بقوله: «إنّ ما نقوم به من كفاح مهماكانت قيمته، وما نتخذه من مواقف من أجل قضايانا الخاصة يعتبر في العمق جبهة قوية لمساندة الكفاح الفلسطيني وموازاة في العمل للثورة الفلسطينية، لأننا نعتقد أن الاستعمار واحد، وأن الصهيونية التي هي أخبث استعمار يهودي رأسمالي جزء لا يتجزأ من الاستعمار الأوروبي والأمريكي» . وكنتيجة لذلك يتبين مدى رؤية علال الفاسي ووعيه الثاقب، وتفهمه لطبيعة الصراع بين قوى التحرر والإمبريالية. ومن هذه المنطلقات ربط علال الفاسي القضية الفلسطينية ربطا مصيريا بالأمة العربية. وتأسيسا على ما تقدم، نخلص إلى أن المضمون القومي العربي في فكر علال الفاسي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية يشكل عملا إيجابيا في إطار التضامن العربي، إلا أنه كان بحاجة إلى تحديده كهدف مركزي وبلورته بشكل يجعله يخرج من دائرة ارتباطاته القطرية التي جعلته يدور في فلك الصراعات الداخلية، التي حدت من ممارساتها القومية وجعلته غير قادر بشكل كامل على تعبئة الجماهير المغربية وتنظيمها تنظيما يرتفع بها إلى المسؤولية القومية، وكانت هذه الصفة أكثر وضوحا في مرحلة قبيل نكسة حزيران/ يونيو. ثانيا: وحدة المغرب العربي لقد أطّر علال الفاسي في بداية نضاله الزخم الشعبي باسم الوطن، وليس باسم الوحدة، إلا أنّه وقع توظيف هذه الفكرة (الوحدة) في خدمة قضية الاستقلال بسبب ما آلت إليه مستجدات ظروف المواجهة مع المستعمر الفرنسي وخصوصياتها بعد فرض الحماية الفرنسية على المغرب عام 1912. بعد إنشاء الجامعة العربية في عام 1945 تحوّل مركز نشاط الحركات الوطنية المغربية (المغرب، تونس، الجزائر) إلى القاهرة، وكان هناك نوع من التنسيق في ما بينها، كان لعلال الفاسي دور مؤثر فيه، وقد تمثّل هذا الدور في ما بعد في تأسيس مكتب المغرب العربي في القاهرة في 15 فبراير 1947 (29) وبذلك شكّل مكتب المغرب العربي في القاهرة أوّل نواة لوحدة أقطار المغرب العربي (30). توّج هذا الوعي الجديد والمتزايد بفكرة وحدة المغرب العربي في 9 ديسمبر 1947 بإنشاء لجنة تحرير المغرب العربي التي شكّلت البداية للتفكير في صياغة الاشكال الملائمة لهذه الوحدة وتنسيق البرامج والخطط لضمان التحرر والاستقلال. وقد ترأس لجنة تحرير المغرب العربي قائد الثورة الريفية عبد الكريم الخطابي، وشارك في قيادة هذه اللجنة: علال الفاسي، رئيس حزب الاستقلال المغربي، والحبيب بورقيبة، وعبد الخالق الطريس، وغيرهم من كبار القادة الوطنيين في أقطار المغرب العربي. وقد نصّ الميثاق المعلن عن اللجنة أعلاه على أن 1 المغرب العربي بالإسلام كان، للإسلام عاش، وعلى الإسلام سيستمر في حياته المستقبلية. 2 المغرب العربي جزء لا يتجزأ من بلاد العروبة، وتعاون في دائرة الجامعة العربية على قدم المساواة وبقية الأقطار العربية أمر طبيعي ولازم. 3 مبدأ استقلال كلّ قطر على حدة مع الالتزام بمساعدة الباقي. وقد انتخب علال الفاسي أمينا عاما للجنة تحرير المغرب العربي (32) واستطاع أن يقوم بدور مؤثر وفاعل لخدمة القضية المغربية وتكريس عروبتها على الصعيدين العربي والدولي، واستمر يؤدي هذا الدور حتى في مرحلة ما بعد الإعلان عن استقلال المغرب. وفي 16 كانون الثاني/ يناير 1958، أعلن علال الفاسي ضرورة العمل الجادّ لتحقيق وحدة المغرب العربي، إذ قال: والآن وقد تحقق الاستقلال، فمن واجبنا أن نبذل أقصى مجهوداتنا لتحقيق التعاون الذي كان شعار الحركات المغربية، وأن نتجه إلى توحيد الشمال الافريقي في دولة واحدة متحدة، لأنه لم يعد هنالك مجال للعزلة ولا الوطنية الضيقة في هذا العصر، وقد بيّن التاريخ أن أحسن عصورنا هي كانت فيها الأقاليم الثلاثة موحّدة. إن على إخواننا في تونسوالجزائر، وعلينا نحن في المغرب أن نفكر في هذا، وأن نعدّ العدة له، إننا نريدها وحدة مغربية إسلامية، بعيدة عن كلّ نفوذ أجنبي أو كتلة أجنبية، نريدها خالصة للمغرب العربي (33). وفق هذه الرؤية المستقبلية للوحدة، لعب علال الفاسي دورا بارزا في تنشيط الأحزاب الوطنية المناهضة للاستعمار الفرنسي في المغرب العربي. ولم يتوقف علال الفاسي عند حدود الفكر والتنظير، وإنما قرن الفكر بالعمل لتحقيق أسس هذه الوحدة وحدة المغرب العربي فقد دعا علال الفاسي كمبادرة منه، إلى عقد مؤتمر الوحدة. وبعد مشاورات واتصالات عقد المؤتمر في طنجة للفترة من 27 30/4/1958/(34)، واجتهد في أن يجعل من السمات الإسلامية التي ميزت فكره العروبي دفقاً وسنداً لتيار العروبة في المغرب العربي. وقد شارك في هذا المؤتمر (مؤتمر طنجة) زعماء الأحزاب الثلاثة في المنطقة، وهي: حزب الاستقلال المغربي، والحزب الدستوري التونسي، وجبهة التحرير الجزائرية. وفي ختام المؤتمر صرح علال الفاسي قائلا: «في هذا اليوم سيعرف العالم من دار طنجة نبأ عظيما طالما تشوّقت إليه آذان المغاربة وخفقت قلوبهم، وهوت إليه أنفسهم، ذلك هو خبر نجاح مؤتمر طنجة لوحدة المغرب العربي في وضع الأسس لتحقيق هذه الوحدة. ذلك أن الوحدة شيء قار في النفوس، ثابت في الأذهان، يجري به الدم المشترك، ويسري به الإيمان الموحد» (35). وبذلك شكّل مؤتمر طنجة نقطة تحول في الفكر الوحدوي لعلال الفاسي، لأنه حدّد وأرسى لأول مرة وبشكل رسمي مضمونا واضحا لفكرة المغرب العربي، أي أنّها لم تعد مجرد تنسيق الأعمال، بل أصبحت تعني العمل من أجل قيام الوحدة المنشودة. إلا أن نتائج المؤتمر أصيبت بالفشل، ولم ينتج منها أي عمل جدّي لتحقيق ما اتفقت عليه الأحزاب نتيجة التناقضات السياسية التي تباينت في اختياراتها السياسية والتنموية وكذلك نتيجة الانشقاق في قسم منها مما انعكس على اختلافها في المبادئ والأهداف. هذا الفشل لتجربة مؤتمر طنجة الوحدوية قد فوّت فرصة للتطور في مجال تعميق الوعي القومي العربي والعمل الوحدوي في المغرب العربي خصوصا، والوطني العربي عموما. ورغم هذه الاخفاقات، فقد ظلّ علال الفاسي متشبثاً بوحدة المغرب العربي، ورغم عدم حصول تقدّم في تحقيقها، إلا أنّه استمر مؤمنا ومناضلاً من أجل هذه الوحدة، وداعياً في مختلف خطبه وبمختلف المناسبات إلى تجاوز الخلافات الثانوية بين الأنظمة والنضال من أجل تحقيق تلك الوحدة. وقد كان بحق رائد العروبة في المغرب.