غادر بشار الأسد مكرها السلطة بعد ربع قرن من الحكم قضى منها 13 سنة في صراع مع شعب مقهور أيقظته موجة الربيع العربي 2011. ترك الأسد الهارب إلى روسيا بلاده غارقة في وحل حقيقي من المشاكل الداخلية والخارجية، تهدد وحدتها واستقرارها وسيادتها، ترك وطننا مفككا محتلا من قبل قوات أجنبية وتنظيمات إرهابية واقتصادا منهارا وشعبا مشردا ومدنا مخربة وحدودا مستباحة، ومعتقلات سرية وعلنية، مقابر جماعية، مئات الآلاف من المفقودين، وأكثر من 5 مليون لاجئ منتشرين خارج البلاد. حُكْم أراده مبني على القوة الشاملة ونهج الزعماء الديكتاتوريين، كوالده الرئيس الراحل حافظ الأسد (1971/2000)، الذي ابتدع سُنَّة التوريث في النظام الجمهوري، فكانت النتيجة كارثية بأسدها الثاني على سوريا وشعبها، الذي عانى 53 عاما من حكم عائلة الأسد و60 عاما من سلطة حزب البعث، تحت شعارات التأبيد: " الأسد إلى الأبد" " الأسد أو نَحْرق البلد" " بشار أو لا أحد". تحديات تدبير الانتقال من حال الثورة إلى الدولة، هو أصعب تحد يواجه من يقف على رأس السلطة اليوم في سوريا. يأتي في مقدمتها الحفاظ على هيكلة الدولة: الحكومة والجيش والأمن والقضاء والمرافق الإدارية والمؤسسات العمومية، عكس وضع العراق بعد الغزو الأمريكي 2003، ثم القضاء على الفوضى ونزع الأسلحة، وتفكيك التنظيمات الإرهابية، واستعادة الامن وتحسين الأحوال المعيشية وتوفير الماء والكهرباء والوقود، ومنع تخريب الدوائر العامة والخاصة، وتسهيل عودة النازحين إلى ديارهم، هي تحديات داخلية ذات طبيعة سياسية عسكرية أمنية اقتصادية مالية واجتماعية، ودستورية بدرجة أَوْلى. أما التحديات الخارجية فتتمثل في تحديد النظام الجديد لمعايير وكيفية التعامل مع المنتظم الدولي، لاسيما القوى العظمى والإقليمية التي كانت تهيمن على سوريا الأسد: الروس، الأمريكان والإيرانيون الاتراك، وإسرائيل العدو رقم 1 للبلاد. ومن جهة ثانية كيفية تعاطي الدول مع الحالة السورية المنهارة عربيا وإقليميا ودوليا. حال سوريا وشعبها اليوم يبعث على القلق، مستقبل غامض أوضاع متقلبة، وهي نفس الوضعية التي سبقتها إليها شعوب عربية أخرى، نسخة طبق الأصل، خلفها زعماء جمهوريات العرب بكل من مصر مبارك، تونس/بنعلي، ليبيا/القذافي، السودان/البشير، العراق/ صدام، اليمن/صالح، الجزائر/بوتفليقة، زعماء الاستبداد والغطرسة، لم يستفد أي منهم من درس من سقط قبله، فأهلك بلده وقتل وسجن وشرد شعبه ثم رحل غصبا، في أسوإ نموذج للحكم العربي، الذي كانت شعاراته مشبعة برياح الأمة والعروبة والوحدة والثورية والقومية والتقدمية، ومبادئ الناصرية والبعثية والاشتراكية وحتى القبلية، لكنها أيضا كانت مطبوعة بنظام الحكم الحزبي/العسكري الاستبدادي. رفضوا الامتثال لقاعدة الانتقال السلمي للسلطة، عاكسوا كل توجه نحو المشاركة في الحكم، حرصوا على سيادة سلطة الحكم الفردي ومناهضة كل سؤال للإصلاح السياسي، باللجوء إلى الإقصاء والنفي وأحيانا الترغيب للاحتواء دعما لشرعية مزيفة. فكان من نتائج هذه الغطرسة أن تَمَرَّدت الشعوب، دون قناعات إيديولوجية، على قادتها وطالبتهم بالرحيل، تطلعًا للتغيير وتحقيق العدالة واستعادة الحقوق والحريات المستلبة، وهو الانقلاب المدني الذي أطاح بهم في ثورة الربيع العربي وما تلاها من اضطرابات وصراعات وفتن، آخرها وليس أخيرها الأسد. غير أن الرياح لم تجر بما تشتهي سفن ربيع الشعوب العربية، فجمهوريات الخوف ظلت على حالها، بعد استيلاء قادة جدد على الحكم، فعمدوا إلى إعادة تكرار نفس مآسي من سبقهم من الزعماء دون الاستفادة من دروس التاريخ. وباتت ميزة هذه الأنظمة عودتها إلى مستنقع الاستبداد والطغيان والقمع، والانقلاب على المسار الديمقراطي وتزوير الانتخابات الرئاسية وتمديد ولايات الحكم وتغيير الدساتير وتكريس هيمنة النظام العسكري، والتنكر لمطالب الشعوب واستشرافها للحرية والممارسة الديمقراطية، في تناقض صارخ بين الأنظمة وبين المجتمع، تحول معها الربيع إلى خريف. لتظل الشعوب في نهاية المطاف ضحية انحرافات هذا الصنف من القيادات، على حساب أمنها واستقرارها وكرم عيشها، في عودة للمأزق الديمقراطي. فهل التاريخ يعيد نفسه مع الشعوب العربية لتعود إلى سكونها وصمتها المجرد والرضى بالوضع القائم مقابل الحفاظ على لقمة عيش بإكراهاتها؟ أم أن الرهان على التغيير المنشود سيظل حاضرا؟ لم يكن الأداء على المستوى العربي لقادة الجمهوريات أقل سوءً من تدبيرهم لشؤونهم الداخلية، فلن ينس العرب مغامرة الرئيس جمال عبد الناصر الذي ألهب مشاعر الشارع العربي بالنصر وتحرير فلسطين/ حرب 67 فحلت "النكسة"، بعد هزيمة مذلة للجيوش العربية ضاع معها ما تبقى من أرض فلسطين واحتلال لقناة السويس وسيناء والجولان في ستة أيام، حرب لاتزال ظروفها غامضة لم يتم الكشف، قصدا، عن كل تفاصيلها. نستحضر أيضا خيانة الرئيس حافظ الأسد للجيش العراقي الذي حل بدمشق في حرب 1973 دفاعا عن سوريا، فأصدر حافظ أوامره بوقف إطلاق النار مع إسرائيل، مما حال دون هذه المواجهة، في موقف اعتبر فيه الزعيم صدام حسين، حافظ الأسد بأنه " تخلى عن أبسط قيم الرجولة والشرف". خيانة مماثلة تعرض لها الجنود المغاربة الذين لعبوا دورا حاسما في حرب أكتوبر 1973 ونجحوا في تحرير أجزاء مهمة من جبل الشيخ والجولان، لكن الرئيس حافظ الأسد تخلى عنهم وتركهم عرضة لقصف الطائرات الإسرائيلية راح ضحيتها عشرات الشهداء المغاربة، وكان العدد مرشحا للارتفاع لولا تدخل صدام حسين الذي أرسل مقاتلات عراقية لتوفير التغطية الجوية للجنود المغاربة. كافأ حافظ الأسد المغاربة الذين دافعوا عن أرض سوريا، بالتنكر لوحدتهم الترابية والوقف إلى جانب الجزائر ودعم البوليساريو. لم يسجل للأسدين إطلاق رصاصة تجاه إسرائيل لتحرير الجولان المحتل، بل لجأوا إلى التدخل والعبث بالشؤون الداخلية لأشقاهم العرب ب: لبنان، فلسطين، المغرب والعراق… سوريا الأسد من جهة أخرى وقفت إلى جانب إيران في حربها ضد العراق 1980/1988، وفرضت حصارا على العراق بمنع تصدير نفطه المار عبر أراضيها نحو المتوسط. مواقف الخيبة المتبادلة تجلت أيضا في عدم مساندة الجزائر للعراق في حربه ضد إيران، والحفاظ على علاقاتها مع طهران بترحيبها بثورة الخميني 1979، مما أغضب القيادة العراقية التي كانت تتوقع دعما عربيا من الخليج إلى المحيط. قائد عربي "ثوري" آخر ذهب على خط الخيانة العربية المؤلمة، هواري بومدين، الذي أيقض نار الفتنة بالمغرب العربي، لما قرر طرح مشروع انفصالي فاشل منذ بداياته، مناهض لاسترجاع المغرب لأراضيه المغتصبة من الاستعمار الاسباني، في موقف معاكس لمبادئ الوحدة العربية والتضامن، بذور صراع لم يَنْجَل ليله بعد. نماذج أخرى محبطة مخيبة للآمال عصفت بالجسم العربي، تمثلت في احتلال حافظ الأسد لبنان، وغزو صدام حسين للكويت، ومساهمات معمر القذافي في هذا التفتت العربي شرقا ومغربا لا تخفى على أحد. وقد استغلت إيران دعم بعض قادة العرب لها، فاستباحت الأراضي العربية للتدخل وتوسيع نفوذها في عواصمدمشقبغدادصنعاء وبيروت.. وتحت شعارات الصمود والتصدي ومقاومة المد الامبريالي، انشغل قادة الجمهوريات بمناهضة الأنظمة الملكية "الرجعية" والسعي إلى قلب نظم حكمها، كطريق لتحرير فلسطين، في أبرز عنوان لحالة التفرقة والتشرذم التي عصفت الوطن العربي من دعاة الوحدة. وكانت القضية الفلسطينية من أبرز ضحايا توجهات القيادات العربية، فهناك من وظف القضية لخدمة أجندته السياسية داخليا وعربيا/جماهيريا، وهناك من استخدمها لمواجهة خصومه من العرب لتحقيق مصالح سياسية ضيقة على حساب القضية الأم، وهناك من نازع بعض قادتها وعمد على تصفيتهم، وهناك من استغل خلافاتهم وناصر طرفا على حساب الآخر في أبشع صورة لضرب وحدة الصف الفلسطيني وتكريس الخلافات داخل البيت الفلسطيني. تعددت أشكال التوظيف، التي حتمت على الفلسطينيين، أن يظلوا أسرى مواقف متباينة بين مختلف عواصم العرب التي كانت ترغب في التحكم في قراراتها ومصيرها سلما أو حربا. مما أدى إلى المساهمة في تراجع القضية الفلسطينية، وإضعاف المواجهة العربية مع إسرائيل. لا يزال النظام الجمهوري العربي اليوم يواجه العديد من التحديات التي تهدد استقراره وشرعية حكمه، بالرغم من مرور 13 سنة على انتفاضة الربيع العربي وخروج الجماهير إلى الشوارع، لتغيير أنظمتها الاستبدادية، على أمل استعادة دورها في المشاركة السياسية، واسترجاع كرامتها العربية المهدورة، فالسيناريوهات المستقبلية للتفاعلات المحلية والإقليمية والدولية لا تبدو تنساق ورغبات عواصم قادة العرب الجدد، الذين يبدو أنهم ماضون في إعادة إنتاج تجربة الماضي الأليمة مع شعوبهم وجوارهم الإقليمي ومحيطهم العربي، وهو ما يعرض هذه الجمهوريات من جديد لخطر التغيير من الداخل أو تحت طائلة إكراهات خارجية، كما حصل مع نظام بشار الأسد، الذي لم يخف الأمريكان والأتراك صراحة، أنهم كانوا وراء الإطاحة به. لا يرحل الحاكم إلا بعد أن يترك بلده على حافة الانهيار، ليؤكد بذلك شعارات: "…. أو نحرق البلد" "وبعدي الطوفان" " عَلَيَّ وعلى أعدائي" لتعم بعده الفوضى والاضطرابات والصراعات التي لازالت تعاني منها العديد من شعوب جمهوريات العرب. رغم نشوة النصر الشعبي التي عمت شوارع الشام، فكل عربي غيور يتطلع إلى أن يشكل ذلك مدخلا لتعزيز الأمن والاستقرار التدريجي وإعادة ترتيب البيت السوري والتفرغ لإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتدهورة وإعادة بناء سوريا، رغم ذلك فإن الموقف في هذه المرحلة الانتقالية محفوف بمخاطر تبعث على القلق والحذر، سيما أن الإطاحة بالنظام جاءت على يد الأجنبي لا سيما الامريكان ومن خلفهم إسرائيل، الذين ستكون لهم اليد الطولى لتدبير الشأن السوري ومخرجاته، بما يتوافق ومصالحهم ومخططاتهم بالمنطقة، دون إغفال الجار التركي الذي ينظر إلى سوريا كشأن داخلي ويطمح لتأمين مصالحه الاقتصادية. وإذا كانت روسيا منشغلة بحربها الأوكرانية في انتظار الوافد الجديد على البيت الأبيض، فإن إيران فتنة المنطقة ووباءها من غير المستبعد أن تلعب دورها التخريبي المعتاد لإفساد العرس السوري كما أفسدت الأوضاع بالعراق. هناك أيضا العديد من الأيادي بالداخل والخارج في حالة تربص وترقب، مما لا يبعث على الاطمئنان، وخير مثال يتجلى في الأوضاع المضطربة التي لا زال يعيشها العراق وليبيا واليمن والسودان منذ عدة سنوات، فهل يتكرر المشهد، أم أن أبناء الشام قادرين على مواجهة هذه التحديات والاستفادة من دروس الأزمات المستعصية بمحيطهم العربي، وعدم العودة إلى الوراء بتكريس نموذج جمهوريات العرب. دبلوماسي سابق