لِما يزخر به مجالها العتيق من شبكة كهوف متفردة في حمولتها الانسانية والانتروبولوجية، تعد تازة أول مدينة مغربية في خريطة المغرب الأثرية الكهفية. التي بقدر ما تتوزع على جميع اجرافها المحيطة، بقدر ما هي ببصمات حياة الانسان القديم ومغرب ما قبل التاريخ كما بالنسبة ل "كيفان بلغماري". واذا كان هذا المكون الكهفي المحلي بنوع من التميز والخصوصية في بعده الحضاري، فإن ما يسجل من إهمال وبؤس باد على معالمه ومن محيط مقزز في مشهده. يخدش قيمته كأثر شاهد على تطور وتفاعل الانسان القديم مع محيطه قبل آلاف السنين، يحيلنا على ما هو حياة بشرية ضاربة في قِدم تازة والمغرب، ويخدش أيضا قيمة ما يحتويه من بصمات حضارة إبيروموروسية تعود لفترة غابرة من زمن انسان العصر الحجري الأعلى. وعليه، تعد كفان بلغماري من أغنى مواقع المغرب البانطولوجية الأركيولوجية وكذا مواقع الشمال الافريقي وحوض البحر المتوسط. لِما تم العثور عليه فيها من بقايا عظمية حيوانية تعود لفترة ما قبل التاريخ، بناء على ما أنجز بها من حفريات خلال عشرينات القرن الماضي زمن الحماية بالمغرب. وهذه المخلفات التي يرجعها الباحثون المتخصصون لفترة البلايستوسين الأعلى، تُظْهِر ما كانت عليه البيئة محليا (تازة) خلال هذه الفترة، من تنوع وحيش لا يزال ما عثر عليه من عظامه محفوظا في متحف وهران بالجزائر. وكان مما تم العثور عليه أدوات حجرية وعظمية عدة ومواقد تعود لفترة ما يعرف ب"الموستيري" و"الابيرومغربي"، فضلا عن عظام بشرية وحيوانية تخص الضبع والأسد والنمر والدب والكروكدن وغيرها من الحيوانات، التي منها من انقرض من المنطقة (تازة) ومنها ما لا يزال بمحيطها لحد الآن. ولا شك أن "كيفان بلغماري" كانت مسكنا ومدفنا ايضا لإنسان أزمنة ما قبل التاريخ، بناء على ما تم العثور عليه فيها من شواهد حياة وتفاعل قديم. هكذا إذن هي عظمة موقع تازة الأثري الانساني المتمثل في شبكة كيفان بلغماري، وقد حُفرت في صخور كلسية بأجراف على الجهة الشرقية للمدينة (تازة العليا)، باتساعات وعلو وأعمدة .. وتكوينات تبقى الكلمة عنها لأهل الشأن من باحثين متخصصين اركيولوجيين. وهكذا ايضا ما هي عليه بالمقابل من غياب عناية وتهيئة وحفظ منظر، ومن محيط بيئي مقزز لشدة ما يظهر من ردم وهدم وتراكم أتربة وصور خراب وتخريب .. وروائح كريهة، غير محفزة لا على زيارات تعرفية من قبل راغبين، ولا على بحث علمي ميداني من قبل معنيين منفتحين في بحثهم على مواقع اثرية تعود لزمن ما قبل التاريخ. وعليه، فشروط جعل موقع "كيفان بلغماري" رهن إشارة الورش العلمي ومختبراته لا تزال غير متوفرة، وأن هذا الأفق بحاجة لإرادة تنموية وشجاعة أدبية، فضلا عما ينبغي من اعادة نظر فيما هناك من تمثلات تخص التراث المحلي، باعتباره مصدر ثروة ومورد رافع عبر ما ينبغي من حسن استثمار لمدخراته في ورش البلاد السياحي. وخاصة من هذه كنوزه ما هو متفرد نادر في بعده الانساني الحضاري، الذي من شأنه تحقيق جذب وإقبال عال على وتحفه ودلالاته الأثرية، مثلما ما هو كائن بمغارة هرقل في طنجة مثلا. وعليه، على مستوى تازة فقط ما ينبغي من خطوات أولى وتعريف وإبراز واشهار وتهيئة رافعة لكفان بلغماري، ومن إلتفات يليق بعظمتها وعظمة ذاكرتها الانسانية كموقع أثري رفيع المستوى، افتقر ولا تزال لِما هو شاف من تهيئة داعمة، اللهم ما أقدمت عليه وزارة الثقافة من بادرة نبيلة يتيمة قبل حوالي العقدين من الزمن، ومن خلالها من قِبل ذ. محمد بلهيسي عندما كان مندوبا إقليميا لها، وعيا منه كغيور عارف بأهمية حماية تراث المدينة، وبخاصة منه الذي بنوع من التفرد والاكراه الذي من شأنه الحاق الضرر به واتلاف روحه الاركيولوجية. وعليه، قام بوضع باب مؤثث منسجم على واحد من كفان بلغماري، لعله الكهف الأكبر والأهم من حيث مواده وأعمدته وأثاثه الرمزي الأثري الداخلي. والواقع أن الحديث عن موقع كيفان بلغماري التي بتازة، بقدر ما نستحضر فيه أولا : ما أحيط به من تعرف واستكشاف وتنقيب من قبل فرنسيين عسكريين بعد احتلال المدينة أواسط العقد الثاني من القرن الماضي، ولعل ما جرى من دراسة لم يكن بما هو كاف مساعد لدى هؤلاء من احترافية وتخصص، منهم نذكر جوزيف كومباردو وكان ملازما في رتبته العسكرية، يسجل له ما كان من سبق تنويري عن الموقع من خلال عمله الميداني على امتداد حوالي ثلاث سنوات، وقد مكنته من ترتيب جملة تقارير ذات طبيعة إدارية، صدرت ضمن نشرة لجنة افريقيا الفرنسية Bulletin du Comité de L'Afrique Française، بعنوان "Notes Archéologique sur la région de Taza" . وقد أفاد تقرير هذا الأخير عن هذا الموقع الاركيولوجي بتازة، أنه تم الوقوف على آثار تعود للزمن النيوليتيكي الذي طبع الحياة بشبه الجزيرة الإبيرية ومعها منطقة الشمال الافريقي عموما، فضلا عن صواعد ونوازل داخل هذا الموقع (الكهف)، وغيرها مما تم العثور عليه من أثاث بدائي ضمن مستويات من التنوع والشكل والأدوار والاحالة على ما هو أزمنة حياة انسان، بدليل بقايا بشرية وحيوانية تعود لفترات متباينة في معالمها ومشاهدها عن انسان ما قبل التاريخ، علما كما سبقت الإشارة، أن معظم ما تم العثور عليه من قبل كومباردو وغيره من فريق البحث والتنقيب ب "كيفان بلغماري"، تم نقله صوب متحف مدينة وهران، بحكم ما كان قائما من تقسيم ترابي عسكري فرنسي آنذاك في بداية الحماية على البلاد. أما ثانيا في حديثنا عن كيفان بلغماري بتازة، فنستحضر فيه سؤالا مستفزا للجميع كل من موقعه من معنيين ومهتمين، ويتعلق الأمر بما هو بحث حديث ودراسات أركيولوجية وإضافة، وما يخص أيضا حصيلة عقود من زمن مغرب الاستقلال إن على مستوى اشغال الموقع نفسه، أو ما هناك من شبكة بالجوار فضلا عن مساحة كهوف أخرى على مستوى محيط المدينة، عبر ما ينبغي من بحث اركيولوجي، وحضور ومساهمة وتأطير وتوجيه وفِرق عمل متخصص عن المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث التابع لوزارة الثقافة والذي تم إحداثه قبل حوالي الأربعة عقود من الزمن. مع السؤال أيضا عما هناك من بياض علمي يخص مواعيد محلية ولقاءات لمتخصصين، عبر ما ينبغي من حضور لمصالح وزارة الثقافة محليا وجهويا وكذا من مبادرة للمجتمع المدني، من اجل ما ينبغي من نقاش وتنوير وجديد يهم موقع كيفان بلغماري ومعه باقي مواقع المدينة، ومن ثمة ما ينبغي من خريطة أثرية محلية بمعايير علمية محددة، حتى لا يظل حديث هذا الشأن حبيس تقارير تعود لزمن الحماية بالمغرب قبل أزيد من مائة سنة. وعليه، يحق السؤال حول ما هو بحث اركيولوجي حديث يهم زمن ما قبل التاريخ بتازة؟، ومن خلاله ما هناك من اطروحات عن المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث؟، ومن ثمة أي تمحيص وتدقيق من قبل الباحثين الأركيولوجيين المغاربة حول ما هناك من تراكم عن زمن الحماية؟، وأية حصيلة اركيولوجية رافعة لتاريخ تازة في علاقتها بمحيطها منذ القدم حتى الفترة المعاصرة ؟. وأي موقع للمدينة ولمواقعها الأثرية الضاربة في القدم، في اهتمامات وزارة الثقافة وفي خريطة الأبحاث الاركيولوجية الوطنية عن هذه المؤسسة وتلك ؟. وعيا بما اسهم به علم الاركيولوجيا في أعمال الباحثين ومنهم المؤرخين رغم حداثته، من حيث تعرفهم على وانماط حياة بشرية وحضارة موغلة في القدم وكذا تاريخ وتراث ومعالم عدد من المواقع ومنها مدن. علما أن الأركيولوجيا التي كانت تقتصر على ما هو قديم، باتت بوظيفة امتدت لِما هو حديث ومعاصر من الأزمنة. ومن ثمة ما حصل من إغناء على مستوى مصادر معلومة حقل البحث التاريخي، وانفتاح للباحثين على مجالات بحث جامع بين مجتمع واقتصاد وسلوك وهجرات وتمدين وتعمير وعمارة وتوطن وتوطين وعقليات وذهنيات .. وغيرها. وكان الأستاذ عبد الله العروي قد أشار في أحد نصوصه، الى أن الأثريات باتت ألصق التخصصات بالتطور البحثي العلمي التاريخي. وعليه، يسجل للنهج الأركيولوجي ما كان له من فضل وأثر في جعل المعرفة بكثير من الدقة والمصداقية، تجاه ما هو ماض من أحداث ووقائع تاريخية وبصمات مادية ولا مادية. فأي وعي بتراث تازة المادي واللامادي، وأي بياض وتجاهل لهذه الذخيرة الأثرية التي لو كانت بجهة أخرى لكانت بشأن فيما هو سياحي. ألم يحن بعد ما ينبغي من اجل ورش تازة السياحي وارجاع ما كان عليه من وهج واقبال وعناية وبنية زمن الحماية، من خلال ادماج وادراج كل مؤهلاته في التنمية المحلية، بما في ذلك تاريخ المدينة وموارده الحضارية من قبيل "كيفان بلغماري"، التي بحمولة اركيولوجية وبوح انساني متفرد كواحدة من أعظم مواقع الشمال الافريقي وحوض المتوسط الغربي والمغرب البانطولوجي. مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث