يتذكّر بوب وودورد Bob Woodword، الكاتب الصحفي وأحد من كشف فضيحة واترغيت عبر تحقيقات مثيرة في صحيفة الواشنطن بوست في بداية السبعينات، في كتابه الجديد War "الحرب" أنّه وزميله السابق في صحيفة واشنطن بوست كارل بيرنشتاين التقيا دونالد ترمب في أمسية في مدينة نيويورك في فبراير 1989 بعد أن أصدر كتابه "الصفقة" The Deal. وكان كارل متحمّسا لأن يتعرف بوب على ترمب. يقول بوب: "نظر إلينا ترمب ونحن نقف معًا، وكان عمره حينها 45 عاما، ثم اقترب وقال: ألنْ يكونَ مذهلًا إذا أجرى وودورد وبرنشتاين مقابلة مع دونالد ترمب؟ نظرتُ أنا وكارل إلى بعضنا البعض. فقال كارل: "بالتأكيد. ماذا عن الغد؟" قال ترمب: "نعم، تعالوا إلى مكتبي في برج ترمب." أكّد لي كارل بعد أن غادر ترمب: "هذا الرجل مثير للاهتمام." فأجبته: "ولكن، ليس في السياسة." لقد جذب اهتمامي على الفور رجل الأعمال المحتال وشخصيته الفريدة التي تمت رعايتها وتنميتها بعناية، والتي تم تصميمها حتى ذلك الحين للتلاعب بالآخرين بدقة ولمسة من القسوة." (صفحات 9-10). ظلت علاقة ترمب بالسياسة والفكر السياسي حتى الآن مثار سجال بين منتقديه الديمقراطيين الذين يعبرونه مهرّجا في حلبة السياسة على طريقة مصارعي الأجساد الاستعراضية فوق الحلبة، وهي بالمناسبة رياضة يستهويها ترمب منذ عقود، وأنصاره اليمينيين الذين يناصرونه في التمردّ على المؤسسة السياسية (الدولة المركزية)، وأَمْوَلَة نظام الحكم من خلال تطويع السياسة لقوة المال وإقحام منطق الصفقة في كل أزمة أو بقية أوجه التعامل بين الدول. وقد استسهل ذات مرة في عام 2016 حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قائلا إنه يكفي أن يجلس محمود عباس وبنيامين نتنياهو إلى جلسة شاي ويُبْرِمَانِ صفقةً تنهي صراعا مركبا متشابكا منذ 1948.
تابعتُ بتمعّن أول خطاب سياسي ألقاه ترمب في الخامس عشر من يونيو 2015 في نيويورك، عندما أعلن ترشيحه لانتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016 في مواجهة غريمته الديمقراطية هيلاري كلنتون. وأهم ما أثار استغرابي أنه أسّس خطاب حملته الانتخابية على سرديتين تُمْعِنَانِ في التطرف وتنقلب على قيم التعايش والتعددية والبوتقة الاجتماعية: 1. مكافحة الإرهاب الإسلامي الراديكاليRadical Islamic Terrorism ، و2. مكافحة هجرة من اعتبرهم "مغتصبي نساء" rapists القادمين من المكسيك وبقية دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية. وتابعتُ خطب ترمب عن كتب منذ ذلك الحين، وكتبتُ وحاضرتُ عن موضوع "الترامبية كفلسفة سياسية جديدة وتأثيرها على العلاقات الدولية المعاصرة." كان التنافس الانتخابي بين ترمب وكلنتون عام 2016 محتدما في اتجاهين متوازيين جسدا الاستقطابات الأيديولوجية بين يمينية مرشح الحزب الجمهوري ويسارية مرشحة الحزب الديمقراطي. ويمكن تأمل مدى التشابه بين تنافس ترمب/كلنتون عام 2016 وترمب/هاريس عام 2024. ولا يجد المراقب تحوّلا يُذكر في الشعارات الانتخابية التي لوّح بها ترمب آنذاك، ويعيد ترديدها حاليا خلال 2024. ويتكرر السؤال حاليا حول مدى تمسك الولاياتالمتحدة بمبادئ فلسفتها السياسية. فظهر الفرق جليّا بين كلما نحى المرشح ترمب منحى الانعزالية والعودة إلى المذهب الميركانتيلي. شاركتُ في ندوة نظمها مركز الجزيرة للدراسات والجزيرة مباشر في الحادي عشر من أكتوبر 2016 حول تحليل انتخابات الرئاسة الأمريكية ومآل نتائجها. وفي نهاية الجلسة ردّا على سؤال أحد الحاضرين من الجمهور، تمسّك كل من زميلايَ في الجلسة، مروان بشارة وشفيق الغبرة (رحمه الله)، بأنه ليس من الوارد أن تكون نتيجة الانتخابات لغير صالح هيلاري كلنتون بفرضية أن خطاب ترمب يتعارض مع الثقافة السياسية الأمريكية. لكن، كان لي رأي مختلف، وقلتُ وقتها إن كلنتون وإن دافعت عن القيم الأمريكية، فإنها لم تلجّم خطاب ترمب. وبالتالي، فإنه ينبغي أن ننتبه إلى الزّخم أو Momentum الذي حافظ عليه ترمب بعد هزيمة ستة عشر من المرشحين الجمهوريين، ومنهم حكام ولايات متمرسون وأعضاء في مجلس الشيوخ وغيرهم من محترفي السياسة، قد يمنح الأفضلية لترمب على منافسته كلنتون يوم الاقتراع. تمرّ أربعة أعوام، وتحتدم المنافسات الانتخابية مجدّدا بين الرئيس ترمب ومنافسه الديمقراطي جوزيف بايدن. قبل نهاية المناظرة التلفزيونية الثانية بين الرجلين مساء الثاني والعشرين من أكتوبر 2020، نشرت تدوينة مطولة بلورتُ فيها عشرة أسباب لما توقعته بشأن هزيمة ترمب وفوز بادين في اقتراع نوفمبر 2020. وأوضحت أن خسارة ترمب في البقاء في المنصب أربع سنوات أخرى لم يكن بسبب تفوق البرنامج الانتخابي أو الكاريزما الشخصية لبادين، بل بسبب أن الرئيس ترمب هو الذي هزم المرشح ترمب. واليوم ماذا يتراءى لي ونحن على أبواب عملية الاقتراع يوم الثلاثاء الخامس من نوفمبر الجاري؟ هي قراءة استشرافية تتوخى الطرح القياسي بمؤشرات معينة تفيد بما يمكن اعتباره انحسارًا انتخابيًا لدى حملة ترمب، مما ينالُ من حظوظه بالفوز بمنصب الرئاسة الأمريكية. ويعزّز بالتالي فرص كامالا هاريس في أن تخلف جوزيف بايدن في البيت الأبيض خلال الأعوام الأربعة المقبلة، وإن كانت حملتها تعاني الضعف في عدة مناح، ولا تجسد طفرة مرتقبة في درجة الاختلاف أو التميز بين برنامجها الانتخابي وبرنامج بادين، أو أنها تخرج من عباءة أنها "أوباما بصيغة التأنيث": 1. يكمن المؤشر الأول في تضاءل الزخم السياسي لدى حملة ترمب، وهي حملةٌ لم تبتكر خطابا جديدا أو شعارا ملهمًا لقلوب وعقول الناخبين، بل تعتمد الشعار ذاته "لنستعيد عظمة أمريكا من جديد" Make America Great Again، وإن استنفد بريقه الانتخابي خلال السنوات الثماني الماضية. 2. تبدّد جلّ البريق الذي كان لشخصية المرشح المناوئ للمؤسّسة السياسية أو الدولة العميقة Anti-establishment candidate. وهو خطابٌ كرّسه في جل خطبه الانتخابية عام 2016، ولاقى تصفيقا لدى فئات واسعة من الناخبين الرافضين لسلطات الحكومة الفيدرالية في الولايات الحمراء في العمق الأمريكي. 3. لم يستطع ترمب الاستفادة من تراجع التهديدات الأمنية ضد الأمريكيين، وإن حاول توظيف محاولتيْ الاغتيال اللتين كانتا "مدبّرتين" ضده خلال حملته الانتخابية. ولم يتسنّ له هذا العام ركوب صهوة الفارس المغوار National Security Hero on the Rise الذي سيحمي الأمن القومي الأمريكي من التهديدات الإرهابية الواقعية أو المتخيلة. 4. يحافظ الاقتصاد الأمريكي على عافيته وانخفاض معدل الفائدة على الرغم من مضاعفات وباء كورونا وتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا. وعندما قلّص بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية في سبتمبر/أيلول الماضي، أرسل إشارة واضحة إلى السوق بأنه على استعداد لاتخاذ إجراءات جريئة لدعم سوق العمل والحفاظ على الهبوط الناعم في الاقتصاد. فتحقق النمو بنسبة 2.6% في الولاياتالمتحدة عام 2024 مقارنة ب 2.5% عام 2023 وفق تقديرات بنك مورجان ستانلي. بعبارة مختصرة، مؤشر قوي عن تحسن الاقتصاد، وهو وضع بنيوي ليس في صالح المرشح ترمب. 5. أدخل البيت الأبيض بقيادة بادين تغييرات مهمة على السياسات العامة في الولاياتالمتحدة التي اعتبرتها فئات واسعة من الأمريكيين بأنها حركة تصحيحية لسياسات ترمب (2017-2021)، وامتص كثيرا من المضاعفات السلبية بسبب أزمة الطاقة بسبب حرب أوكرانيا منذ فبراير 2022. 6. لم تنكشف فضائح جديدة في أداء فريق بادين في الحكومة، ولم يظهر تلوثهم بملاحقات قانونية، على خلاف عدد من الذين عملوا في حكومة ترمب. 7. لم يظهر مرشحون آخرون من الحزب الديمقراطي يتنافسون مع الرئيس بادين أثناء ترشيح نفسه، ولا مع كامالا هاريس بعد انسحابه من السباق الانتخابي في أغسطس 2024. 8. ليس هناك مرشح ثالث عن حزب آخر يهدّد بهدر أصوات المرشحين الرئيسيين الآن، على خلاف ظهور روس بيرو المرشح المستقل عام 1992 لينافس المرشح الجمهوري جورج بوش الأب والمرشح الديمقراطي بيل كلنتون. 9. لا يبدو أنّ الديمقراطيين من العرب والمسلمين الأمريكيين وغيرهم من الأقليات الناقمين على سياسة الرئيس بادين إزاء حرب غزة والسماح بما يرقى إلى إبادة جماعية ضد الفلسطينيين سيمنحون أصواتهم جزافا أو انفعالا إلى المرشح ترمب، حتى وإن أيده بعض مئات من العرب في ولاية ميشغن المتأرجحة قبل ثلاثة أسابيع من يوم الاقتراع. 10.لم تحدث اضطرابات مجتمعية أو مظاهرات بين الشرطة وأفراد بعض الأقليات العرقية، خاصة الأمريكيين السود. واستعاد الأمريكيون ثقتهم في أنهم مواطنون في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات بمنطق التعايش والتساهل وقوة القانون، على خلاف ما كرسه الرئيس ترمب بسياساته ومواقفه التي أيدت مركزية فئة البيض الأنجلوسكسون البروتستانت WASP خلال رئاسته في البيت الأبيض. هذه عشرة مؤشرات أستند إليها في ترجيح كفة كامالا هاريس يوم الانتخابات. وهي نفس المعادلة التي حالت دون فوز ترمب عام 2020 ليس لأنها خصميه الديمقراطيين تفوقا عليه، بل ببساطة لأن الرئيس ترمب هو من يهزم المرشح ترمب!