كثيرا ما نقول وبنوع من الألم والحسرة تارة، وبنوع من التهكم والتندر من قبل بعض الغافلين تارة أخرى: " مات قاعدا،" وذلك تفكيك لكلمة متقاعد، للتعبير عن واقع لدرجة الموت بصدقية الأوضاع التي يعيشها المتقاعدون بالمغرب في القرن 21 وأين ينتهي بهم المصير وهم في مرحلة العمر الذهبي كما تعرف بالبلاد الأوروبية ، فهؤلاء الذين قضوا زهرة شبابهم في العمل بالإدارات والشركات العامة والخاصة وحركوا عجلة الاقتصاد بكل ما يملكون من قوة جسدية وذهنية ومنحوا الأجيال القادمة أرضية تم بناؤه على حساب صحتهم بضمير يتفانى من أجل عزة هذا البلد وشعبه ، باذلين كل الجهود وكل الاجتهاد والمثابرة وحرق عقولهم وتركيز تفكيرهم وتخطيطهم الفردي والجماعي من أجل إنجاح المهام المكلفين بها ، طبعا كان ذلك مقابل أجرة ، لا تسمن ولا تغني من جوع ورغم ذلك استمروا في البذل والعطاء بكل ما اوتوا من قوة واحساس بوطنية قل نظيرها من أجل الرقي بالوطن لمراتب مشرفة في جميع المجالات وبالرغم من عدم التحفيز وقلة التشجيع واصلوا العمل الى أن انتهت المهمة ببلوغهم سن التقاعد . إن التقاعد في المغرب يشكل ظاهرة اجتماعية، صعب لحد الآن حل عقدتها التي جعلت من المتقاعد كائنا خارج الحياة الطبيعية بعيد من الأحياء وقريب من الأموات، ذات هزيلة، مشيته ثقيلة، أفكاره قليلة، يجلس في المقاهي كثيرا يحكي عن الماضي المجيد ويهرب من الحاضر، غالبا ما ينفرد لوحده ويتحدث لنفسه، من يراه من بعيد قد يعتبره فاقد لعقله… وهكذا وبعد أن كان له شأن في عمله ، أصبح بعد التقاعد نكرة ، وعنصر معطل ، معزولا عن مناطق الحركة ولا يلتفت اليه كأنه غير موجود من طرف المجتمع ومن أقرب الأقرباء اليه، ولا أحد عنه يسأل. ليصبح وحيدا لا يتحرك كأثاث غير صالح للاستعمال لأنه تجاوزه الزمن وتراكم عليه الغبار ولا أحد يلتفت اليه وهناك من لا يستشعر بوجوده حتى. لآ أنه المتقاعد الذي قاد الحافلة في النقل العمومي والشاوش الذي حمل الملفات وأعد القهوة للرئيس الإداري وهو الموظف الذي سهر بأمانة على ميزانية الدولة ،وهو يقدم ملف الصفقات العمومية ويفرز محتواها وتطابقها للشروط المطلوبة قانونيا وفق قانون الصفقات العمومية، مستبعدا كل من يخل بها ، نعم إن المتقاعد هو سائق القطار الذي حرص على الوقت بدقة متناهية ليصل المسافر الطالب والمريض والسائح لوجهته في الوقت المحدد، حتى لا تتعثر عجلة التنمية ويستمر العمل ضمن الوتيرة المرجوة من قبل صاحب القرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني. الحق يقال أ الدولة ساهمت شيئا ما في تحسين أحوال المتقاعدين وإن من جانب الرفع من المعاش ، بعدما كان هزيلا ، إلا أن تلك الزيادة لم تعد تناسبية مع ارتفاع مستوى المعيشة ومتطلباتها، بل ظل المعاش عرضة للتقزيم والتحطيم من قبل موجة ارتفاع الأسعار التسونامي ، والهجمة التضخمية التي جعلت من ذلك المعاش عبارة دريهمات في مواجهة غول الغلاء وارتفاع تكلفة الخدمات الصحية التي هي الشغل الشاغل لأغلب المتقاعدين الذين يعتبرون منخرطين لدى العيادات والمستشفيات والأطباء نظرا لمرض اغلبيتهم بأمراض مزمنة وخاضه تلك التي تتطلب العناية المستمرة. لذا صار أمرا مستعجلا على المسؤولين تقرير مصير المتقاعدين فيما يخص الدعم المالي وتوفير الخدمات الصحية والترفيهية حتى لا يبنى على عالم حياتهم جدرانا من العزلة والتهميش، لأن هؤلاء المتقاعدين هم زبدة المجتمع وعصارة التجارب وجواهره. فالمتقاعد ليس ميتا بل مازال حيا يرزق لذا وجب التعامل أولا كمواطن له حقوق وواجبات وبالتساوي مع باقي المواطنين ، ولذا من حقه أن يعامل بكرامة وأن أول ما يضمن تلك الكرامة هو تمكينه من معاش يليق بالعيش الكريم حتى لا يكون عالة على أحد، أبناؤه والمجتمع ، ورد الاعتبار له من خلال تصحيح النظرة التي ينطر بها سواء من طرف الدولة أو المجتمع كون المتقاعد شخص انتهت صلاحيته ، بل إن المجتمعات المتقدمة تكن كل التقدير والمعاملة الحسنة والتمييز والتحفيز له في اية وجهة اتجه اليها ، مثل الدخول المجاني لزيارة المتاحف والسينما وتخفيضات في الأثمنة لبعض المشتريات عدا عن المؤسسات الرياضية والتأطير المقدم لهم من قبل المجتمع المدني في الرحلات والكثير من المزايا ليس هنا مكان سردها. أما عندنا فالمتقاعد وفي ظل انعدام العناية المادية والمعنوية نجده يشتغل حارسا للسيارات وغاسلا لها أو ناذل في مقهى او يغسل الصحون في المطعم أو حارسا للعمارة ، أو يتخذ من المقهى مكتبه للسمسرة في العقارات او السيارات ، لأنه مضطر للعمل لتسديد ما عليه من سومة الكراء وشراء الدواء وهناك من مازال لديه رعاية لأطفاله غير البالغين ومازالوا متمدرسين، كل دلك مع ما يتعرض له من استغلال لمجهوداته في مثل هذه الأعمال مقابل أجر زهيد، ودون التصريح به لمفتشية الشغل. فهذا المتقاعد قدم جل شبابه وكهولته خدمة للوطن وتنميته ،كل في مجال تخصصه،، بتفانيه كجندي في حراسة الحدود وكشرطي يسهر على السكينة العامة وحارسا على ممتلكاتنا وحافظا على سلامة أرواحنا من العدوان والإجرام وكمعلم ينير الطريق لأبنائنا ويؤسس مستقبلهم على العلم والمعرفة والتربية ،ليستقيموا غدا رجالا لما يأخذوا زمام الأمور بأيديهم، واليوم وبعد كل التضحيات ها هو المتقاعد المغربي في وضعية تجاوزتها كل المقاسات والمعايير للبقاء في ظل الكرامة وفي كنف رعاية صحية تحميه من التقلبات الصحية وضعفها . . فالمعاش لم يعد كافيا والتحولات الاجتماعية والأسرية غيرت كل عادات وتقاليد الاهتمام بشريحة المتقاعدين وكبار السن، وبذات تتشكل ظواهر لم تكن في الحسبان لدى مجتمعنا الذي يرتكز في معتقداته على احترام الشيوخ ومنحهم العناية الفائقة والتقدير الواجب، بحيث هناك من المتقاعدين الذين لم يعد لهم سند من قبل الأهل والأولاد ليتركوا لوحدهم يواجهون صعوبة العيش والعزلة الاجتماعية والأسرية معا . أمام هذا السرد غير المفصل لوضعيات المتقاعدين بالمغرب، ماذا ينتظر أصحاب القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للتدخل لتصحيح ما هو غير طبيعي بل غير لائق لرجال تفانوا في العطاء، ولم يبخلوا بأعز ما لديهم وهي صحتهم. فهل سوف يتداركون الأمر فيما يخص الزيادة في معاشاتهم إسوة بباقي الموظفين، وعدم إخضاع ذلك المعاش على قلته للضريبة على الدخل والحال انه ليس دخلا بل معاشا وشتان بين الإثنين . ألا يلمون أنهم بدورهم سيتقاعدون ، لكنهم يحصنون مستقبل تقاعدهم بما يضمن لهم كل مستلزمات العيش المريح ولقد سيجوا حياتهم الإدارية والسياسية بأسوار عالية من القوانين التي لا رجعة فيها من امتيازات خيالية وتعويضات جمة. لهذا أصبح لزاما على مالكي القرار أن يتقدموا بثبات وعزيمة لتغيير أوضاع المتقاعدين المغاربة، دون تردد لأن وضعيتهم وجب التعامل معها كحالة استعجالية لا تقبل الانتظار ولا التأجيل حتى لا تصدق تلك العبارة: مات ..قاعدا.