يمارسون لعبة «الكارطة» و«الضامة»، ويفترشون قطع «الكارطون» الممزقة في شكل دائري، يلعبون ويصرخون بحماسة الأطفال، ملامحهم متشابهة رغم اختلافها وتقاسيم التجاعيد رسمت على وجوههم وكأنها خريطة زمنهم التي اختفت معالمها ولم يتبق منها سوى أمارات ضائعة، مبتسمين تارة وفاغري الأفواه تارة أخرى، لكل منهم قصة معينة، اختلفت بداياتهم لكن النهايات تشابهت، وتوحدت مشاكلهم ومعاناتهم مع «2 فرانك» بعد التقاعد. مناقشات ساخنة تدور رحاها بينهم عن أوضاعهم وأوضاع الأولاد والأحفاد والأدوية والأمراض.. يمزحون طورا ويناقشون مواضيع السياسة طورا آخر، يمضون وقتهم ما قبل الظهر مع بعضهم بشكل شبه يومي ليفرقهم وقت الغداء قبل أن يتجدد اللقاء عشية اليوم، وهكذا دواليك. مشهد يتكرر بشكل يومي على جنبات حديقة «الخيرية» بالبيضاء، على غرار أماكن أخرى عديدة يقصدها من أحيلوا على التقاعد وداهمهم خريف العمر، فللوهلة الأولى يبدو المكان وكأنه بالفعل خاص بالعجزة وكبار السن الذين تجمعوا في تكتلات هنا وهناك في شتى أطراف الحديقة المعروفة لدى العامة بكونها «حديقة المتقاعدين»، فهنا يقضي الكثير ممن أحيلوا على المعاش أوقاتهم منذ بزوغ نور الصباح إلى غروبه. اقتحمنا اجتماعهم المصغر لمشاركتهم أطراف الحديث، استأذنا الجلوس فإذا بالحاج «عبد الله»، عسكري سبعيني متقاعد، ينطق ممازحا «واش غديري معانا، حنا غير كنخرفوا وما بقا عندنا عقل؟» عبارة ما تلبث تتداول لدى العامة في مجتمعنا المغربي، في معرض حديثهم عن المتقاعدين والعجزة على العموم، ولكن التعمق في معانيها يشي بأشياء كثيرة، أهمها أن فئة المتقاعدين في المجتمع المغربي لا تتعدى كونها فئة «انتهت صلاحياتها» ولم تعد منتجة أو بالأحرى لم تعد قادرة على الإنتاج، وبالتالي فهي في نظر البعض «عالة على المجتمع» ليس إلا. بعد التقاعد.. رحلة المعاناة مع «2 فرانك» في ركن من أركان أحد الأسواق الشعبية بالبيضاء يجلس «سي محمد» وراء آلة الخياطة التي لازمته حتى بعد التقاعد، فقساوة الزمن فرضت عليه أن يستمر في مداعبة هذه الآلة بيديه المرتعشتين اللتين كستهما بقع «البرص»، وهو الذي كان يزاول مهنة الخياطة لمدة 30 سنة في إحدى معامل النسيج. بغصة ومرارة يحكي لنا هذا المتقاعد الستيني عن تجربته مع هذه المرحلة، فالأخيرة لم تتوقف معها عجلة العمل فحسب، بل توقفت معها عجلة الحياة ككل. يسرد قائلا: «مراتي فيها السكر والروماتيزم وخاصني نوفر ليها الأدوية لي غالية بزاف، داكشي لي بقاليا فالتقاعد مكيكفي لحتى حاجا» مضيفا «كيعرفو يزيدو فكلشي إلا ديك 2 دريال ديال التقاعد مكرهوش يحيدوها ويخليونا بلاش». الاستمرار في العمل بعد التقاعد وضعية أصبح يتقاسمها الكثير من المحالين على المعاش بالمغرب، فمبلغ 400 درهم أو أكثر منه بقليل أو أقل منه بكثير، لا يمكن أبدا أن يوفر لهذه الشريحة من المجتمع -التي كانت منتجة- عيشا كريما في ظل متطلبات الحياة الكثيرة وغلاء المعيشة مثل ما هو حال «سي العربي» بمدينة طنجة. ففي فجر كل يوم يركب هذا المتقاعد، البالغ من العمر 65 سنة، دراجته النارية المتهالكة حاملا وراءه قفة كبيرة مملوءة بالخبز الذي أعدته زوجته لتوزيعه على المخبزات، مقابل ثمن يعيل به أسرته ويسد به حاجاته من الأدوية وباقي مستلزمات الحياة. حينما سألناه عن شعوره بعد التقاعد، أجابنا بأنه لم يتذوق طعمه بعد، فمن عمل داخل المؤسسة إلى عمل حر «الوقت صعيبة بزاف والناس مكترحمشي، وخا عييت خاصني نخدم باش نعيش»، يقول سي العربي بنبرته الشمالية وبصوته الذي أضعفته متاعب الحياة. فالصورة هنا تكاد تكون معتادة مع الكثير ممن توقفت عقارب نشاطهم المهني لتبدأ معها مرحلة العد العكسي مع ما يصاحبها من حسرة على الدراهم المعدودة التي تجود بها الدولة شهريا. هيحكايات لقصص واقعية أبطالها متقاعدون، أفنوا شبابهم في خدمة مؤسساتهم قبل أن تتقوس ظهورهم وتتجعد بشراتهم ليفعل الزمن فعلته ويرميهم الى عالم يشكل لهم بداية النهاية، لينسحبوا في صمت من الباب الخلفي للحياة. بعد نهاية الطريق.. «الضامة» خير رفيق بالقرب من مقاطعة الزهور بمدينة فاس توجد حديقة لا تحمل من الأخيرة سوى اسمها، وكأنها أحيلت أيضا على التقاعد من أداء وظيفتها المفروضة كحديقة بما في الكلمة من حمولة، لتكتسي بذلك طابع روادها ممن لم تعد لهم وظيفة يؤدونها في الحياة غير لعبة الورق و«الضامة». بهذا المكان يقضي الحاج «عبد الله» وقته رفقة زملائه، وهو عامل سابق في أحد المعامل الصناعية، أضحت حياته روتينية وكل أيامه متشابهة، لا فرق عنده بين بداية الأسبوع أو نهايته، يقول هذا السبعيني: «الأيام كلها ولات فحال فحال ما بقيناش كنميزو ما بين الاثنين والسبت والأحد، فأيامنا كلها عطل»، ليصبح الملجأ المفضل لديه هو لعبة «الضامة» المحبوبة لدى هذه الشريحة في مجتمعنا. معاناة قد تختلف لدى أصحابها إلا أنها تتشابه في صيغها، فالعديد من المحالين على المعاش في المغرب يجدون أنفسهم على هامش الحياة بعدما بذلوا الغالي والنفيس في سبيل خدمة وطنهم، ولا ينتظرون من هذا الأخير سوى الاعتراف بهذه السنين وأن يكفل لهم كرامة العيش في أرذل العمر بعدما خارت قواهم. «نهار لي شديت التقاعد هو نهار العيد بالنسبة ليا» بهذه العبارة عبر عبد الله ماموني من مدينة البيضاء والقاطن بحي «بورنازيل» عن تجربته مع التقاعد. 27 سنة قضاها في الخدمة العسكرية قبل أن يحال على المعاش سنة 2004 بمبلغ 1500 درهم شهريا. في التسعة والستين من عمره، لم تنل السنين من عزيمته وحبه للحياة وروح الدعابة التي تميزه. يوم ولادته، يقول «الماموني»، هو يوم إحالته على التقاعد، والحياة بالنسبة له لم تنته عند هذا الحد، بل بالكاد بدأت: «بعد التقاعد أصبحت أملك وقتا لأفعل فيه ما أريد دون قيد من أحد، أسافر وأخرج، وأنام وأستيقظ متى شئت، بل وألعب «الضامة» مع أصدقائي بكل حرية»، يقول الحاج الماموني والابتسامة تكاد لا تفارق شفاهه المتشققة. سألناه عن الأنشطة التي يقوم بها بعيدا عن لعبة «الضامة»، فأجاب مازحا «إلا ما كانت الضامة كتكون الكارطة وإلى مكانتش الكارطة كتكون الضامة المهم لاعبين لاعبين». وعلى ذات المنوال ينسج «سي حسن»، متصرف سابق (62 عاما) من عروس الشمال طنجة، حياته بعد التقاعد، يقول إن حياته للتو بدأت، فهي فرصة بالنسبة له لمزاولة كل ما لم تسمح به الوقت أثناء العمل. هي مرحلة استراحة محارب وإمضاء الحياة في إجازة دائمة، التقاعد بالنسبة له يعني باختصار «الحرية والانطلاق إلى عالم بدون قيود وضغوط». يحكي «سي حسن» ل«المساء» كيف أنه مباشرة بعد إحالته على التقاعد بدأ ينظر للحياة من زاوية إيجابية، مدركا أن هذه المرحلة لا تعد بالنسبة له بداية النهاية، بل هي «خطوة جديدة للعطاء بمتعة أجمل وألذ». بمقهى «الحنفية» المحاذي لمقهى «الحافة» التاريخي بطنجة، يفضل حسن قضاء غالبية وقته رفقة زملائه، متصفحا بعض الجرائد تارة ومتأملا في أمواج البحر تارة أخرى. فهدوء المكان وجماله يعود به سنينا إلى الوراء لاسترجاع ما مضى من ذكريات الشباب المعاش.. نعمة على البعض ونقمة على الآخر من بين النقط «السوداء» التي تثير حفيظة العديد من المحالين على التقاعد، الذين حاورتهم «المساء» هي عدم المساواة والفوارق الكبيرة على مستوى مخصصات المعاش، حيث يرى الكثير منهم أنه في الوقت الذي يحصل البعض على معاشات كبيرة تفوق نسبة مساهماتهم خلال السنوات التي قضوها في فترة النشاط المهني، تجد في المقابل شريحة واسعة نفسها في أحضان الهشاشة والفقر بمعاشات هزيلة جدا و«محتشمة» قد تصل أحيانا إلى 150 درهما. وهو ما لا يكفي لسد المتطلبات الأساسية للعيش، خاصة أن أغلبهم يعيلون أسرا كبيرة و أبناءهم العاطلين عن العمل، مما يضطرهم، رغم تقدمهم في السن، إلى مواصلة القيام بأشغال وامتهان حرف صغيرة على غرار النماذج المذكورة سلفا. الشهادات الواردة سابقا تعززها العديد من التقارير الدولية والوطنية، آخرها تقرير صادر عن البنك الدولي، الذي صنف المغرب في مرتبة جد مخجلة من حيث الاهتمام بالمسنين والمتقاعدين، حيث جاء المغرب في الرتبة 81 من أصل 91 دولة، وكشف أن 31 بالمائة من المسنين المغاربة محرومون من الرعاية الطبية الضرورية، ولم يتجاوز تنقيط المغرب 39 نقطة على مستوى مؤشر تأمين الدخل، ما جعله يستقر في المرتبة 71، في حين احتل الرتبة 84 في مؤشر توفير مناخ العيش الملائم بما مجموعه 51.4 نقطة ، ونتيجة لذلك صنف المغرب من بين الدول «السيئة» بالنسبة لعيش المتقاعدين والمسنين. ويمكن القول، حسب العديد من المراقبين، إن المحالين على المعاش في المغرب-خاصة من الطبقة الكادحة – يعيشون على وقع أزمة حقيقية من كافة النواحي المادية والصحية والاجتماعية والنفسية . فإذا كان التعاطي مع مشروع إصلاح ملف التقاعد من طرف الحكومة لم يتجاوز سقف الرفع من سن التقاعد، والتقليص من أجرة المعاش ورفع نسبة المساهمة، وهو ما يراه البعض شر لا بد منه لإصلاح أنظمة التقاعد التي يتهددها الإفلاس خلال السنوات المقبلة، فإن البعض يتساءل عن ذنب هؤلاء الذين يدفعون ضريبة غالية، على اعتبار أن أملهم لا يتعدى تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية بما يكفل لهم عيشا رغيدا كعربون تقدير ووفاء بعد سنوات من العطاء. شهادة باحث في علم الاجتماع في اتصال هاتفي أجرته «المساء» مع الباحث في علم الاجتماع «فؤاد بلمير»، رأى الأخير أنه يجب أولا إعادة النظر في مفهوم التقاعد في حد ذاته وطريقة تمثل المغاربة له «فحينما نتحدث عن التقاعد في قاموس اللغة العربية، فمعناه أن الإنسان أصبح عاجزا عن فعل أي شيء ، وبالتالي فهذا يؤثر على نمط حياته وعلى فلسفته المعيشية، لذا لا أحبذ استخدام كلمة متقاعد لما لها من حمولة دلالية سلبية»، يقول بلمير. فتمثل المتقاعد في مخيال الإنسان المغربي نابع من هذا المفهوم، الذي أضفى دلالة سلبية على حياة المحال على المعاش، وكأن الأمر وصل إلى مرحلة ينتظر فيها المتقاعد نهايته والرحيل إلى دار البقاء، في حين أنه يمكن الحديث خلال هذه الفترة عن مرحلة ثالثة يعيشها الإنسان المتقاعد، خاصة مع ارتفاع معدل الحياة في المغرب مقارنة مع السنوات الفارطة، بعيدا عن التمثل السلبي للمفهوم على أساس أنه بداية النهاية. ومن هنا تبدأ نقطة قضاء وقت الفراغ بالنسبة لهذه الفئة، التي أنهت مهمتها في العمل، ويصبح المقهى ملاذها للعب «الكارطة والضامة» وما شابههما، وبالتالي يقلل الشخص المتقاعد هنا من حركته، وهو ما ينعكس سلبا وبشكل مباشر على مستوى حياته ككل. ويضيف بلمير قائلا: «فمثلا حينما نقارن الأمر بالأجانب في الدول الغربية الذين أنهوا خدمتهم، نجد أن تمثل هؤلاء لمرحلة التقاعد مختلف تماما، إذ أنهم يبدؤون مرحلة جديدة ولا يتوقفون عندها». ويشير الباحث في علم الاجتماع إلى أنه مع ذلك، يمكن القول إن هناك نوعا من التحول نحو ما هو إيجابي على مستوى تصور مفهوم التقاعد لدى فئة معينة، والتي تسعى بعد إحالتها على المعاش أن تخلق أنشطة موازية لها، فمنهم مثلا من يتوجه إلى ممارسة أعمال وأنشطة ترفيهية، ومنهم من يحاول أن يكتب عن تجربته في الحياة، وغيرها من النماذج الإيجابية لتمثل مفهوم التقاعد، لكن الأمر في نظر بلمير، ما يزال مقتصرا على فئة محددة، متوقعا أن تنتشر هذه الثقافة الإيجابية وتعمم بالنسبة للأجيال القادمة.