وأخيرا ترجل الفارس الهمام من على صهوة جواده ليلتحق بكوكبة طويلة ممن سبقوه على طريق القدس، ونال ما كان يتمناه دائما من شهادة، وهو الذي كان دائما مشروع شهادة منذ توليه أمانة حزب الله بعد استشهاد قائده المؤسس عباس الموسوي قبل أكثر من ثلاثة عقود، انتقل خلالها بالحزب ببصماته الشخصية من حزب لبناني مقاوم لإسرائيل إلى رأس حربة لمحور مقاومة كان هو ملهمه ومؤسسه امتد من لبنان إلى العراق واليمن وسوريا بل حتى إيران (حيث ينسى الكثير أنها هي من التحقت بمحور المقاومة وليس العكس). هذا المحور الذي يقف الآن صامدا ومساندا لغزة في مواجهة العدو الصهيوني إثر ملحمة طوفان الأقصى، بل أكثر من ذلك صار هذا القائد الفذ ملهما لكل أحرار العالم وعابرا لكل الطوائف والأديان، في مقاومة الهجمة الصهيونية الغربية ونزعتها للهيمنة على الصعيد الأممي. لقد كان الشهيد بحق قائدا فذا واستثنائيا نادرا ما يجود الزمان بمثله: حيث كان عالما كبيرا في علوم الدين، وقائدا عسكريا واستراتيجيا، وخطيبا مفوها، وسياسيا وحكيما وعالم نفس واجتماع على اطلاع واسع بتفاصيل عدوه الصهيوني، يعرف كيف يخاطبه ويؤثر في وعيه، صادقا في كلامه يصدقه عدوه قبل صديقه، ذا تواضع وأخلاق عالية. لقد كان بالفعل صاحب عمامة ليست كباقي العمائم! بحيث صدقت فيه تنبؤات الأمين العام المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، الذي كان بدوره قائدا فذا وألمعيا، حيث قال عن نصر الله بعد لقائه به في بداية التسعينيات حين كان مسؤول حزب الله في الجنوب: "إنه فعلا شخص من طينة خاصة، وإن قُدر له أن يعيش فسوف يكون خميني العرب" بحسب تعبيره، في إشارة لإشعاعه وقدراته القيادية وإمكانياته على صناعة التغيير. لعل من أهم ميزات حزب الله، التي زاد تأصيلها الشهيد، هو تأسيسه لفكرة المقاومة في بداية الثمانينات بديلا عن فكرة الاستسلام والمذلة التي صاحبت الغزو الصهيوني للبنان حينئذ، إلى أن ترسخت ثقافة المقاومة وانتشرت في كل المنطقة بحيث أصبح لها محور يضرب له ألف حساب على المستوى الإقليمي والدولي وكان السيد هو صاحبه وملهمه دون منازع. وكان أيضا من أهم ميزاته هو تأصيله وتأسيسه لنموذج جديد من الحركة الإسلامية تركز على محورين أساسيين: إعطاء الاولوية لمقاومة العدو الصهيوني من أجل تحرير فلسطين، وأيضا السعي للتصالح بدل التناحر مع باقي فرقاء المجتمع والوطن، لأن ذاك التناحر لن يكون إلا في خدمة للعدو. وهما لعمري مبدآن طالما تغافلت عنه كثير من الحركات الإسلامية التقليدية بما أدى ببعضها إلى تكفير وتضليل فرقاء من مجتمعاتها وبالتالي السقوط في فخ العدو الصهيوني الذي طالما استثمر في موضوع التدمير الذاتي للمجتمعات العربية والإسلامية عبر اختلاق وتمويل صراعات طائفية ومذهبية. إن إنجازات الشهيد طوال العقود الثلاثة الماضية كانت كثيرة يصعب حصرها، ولعل من أهمها: -تصديه وقيادته لمعركة عناقيد الغضب سنة 1996. -قيادته لملحمة تحرير الجنوب سنة 2000 دون قيد أو شرط، حيث أجبر العدو على الهروب ليلا حتى دون أن يغلق بوابات الحدود. -قيادته لمعركة مجابهة عدوان تموز 2006 التي تعتبر بحق أول معركة تنتهي بهزيمة العدو منذ تأسيسه. وتكمن أهمية هذا الانتصار الكبير كونه انتصارا على الإدارة الأمريكية بقيادة جورج بوش التي كانت حينئذ تبشر بمشروع الشرق الأوسط الجديد في ذروة غرورها وغطرستها بعد احتلال العراق سنة 2003، حيث ظل المجرم بوش الصغير يرسل موفديه كولن باول وكوندوليزا رايس إلى كل من دمشق وبيروت حاملين العصا والجزرة طالبا من الحكومة السورية فك الارتباط مع إيران وقطع إمدادات السلاح عن حزب الله عبر سوريا تحت طائلة مواجهة مصير العراق وصدام حسين. وعند فشل تهديده أوعز لكيان الاحتلال الإسرائيلي بالهجوم على لبنان للقضاء على حزب الله، فكان الأخير هو الحجرة التي انكسر عليها هذا المشروع. ولما فشل مشروع إخضاع حزب الله، الذي كان لسوريا حينها دورا محوريا في إفشاله، شرع نتنياهو في الترويج لفكرة الهجوم على إيران الداعم الرئيسي للحزب، فاقترح الرئيس أوباما سنة 2009 بديلا أقل تكلفة هو إسقاط سوريا لقطع إمدادات الحزب، فاستغل اندلاع الربيع العربي سنة 2011 الذي انطلق بمظاهرات سلمية تطالب بالحرية والديموقراطية، ليقوم أوباما بعسكرة الثورة السورية بهدف إسقاط النظام وأوعز لأعراب أنظمة الخليج بتمويل وتسليح متطوعين من أكثر من ستين بلدا عربيا وإسلاميا وأوروبيا برعاية إسرائيلية ودعم لوجستي من الأردن وتركيا الذين فتحا حدودهما للمتطوعين ومدهم بمختلف أنواع الأسلحة. وكان أول ما قام به الثوار هو الاندفاع للسيطرة على بلدة القصير الحدودية مع لبنان والتي تمثل الشريان الرئيسي لإمدادات حزب الله، فكان أن اتخذ قرار الدخول في الحرب لطرد هذه الجماعات المسلحة وحماية طرق إمداده عوض تركها تلف الحبل حول عنقه استعدادا لخنقه، وكان ذلك الدخول عنصرا حاسما في إسقاط المشروع الصهيوأمريكي الهادف لإسقاط الدولة السورية إسوة بما فعلوه في العراق وليبيا. – دوره البارز في إسناد المقاومة الفلسطينية إبان عدوان 2014 عبر امدادها بمختلف الأسلحة لاسيما صواريخ الكورنيت السورية التي كان لها دور أساسي في المعركة، حتى إنه توسط لدى سوريا لتزويدها لكل من الجهاد الإسلامي وحماس التي كانت حينئذ في عداء وقطيعة مع النظام السوري ووافق على ذلك. -دوره الأساس في إتمام المصالحة بين سوريا وحركة حماس لإعادة اللحمة لمحور المقاومة نظرا لما كان يحظى به من احترام لدى الجانبين. -إسناده للمقاومة في غزة إبان حروب 2021 و 2023. -ولعل آخر إنجازاته رحمه الله قيادته معركة إسناد غزة منذ اليوم الثاني لعملية طوفان الأقصى مقدما مئات الشهداء من خيرة أبناء تنظيمه وقياداته، ورافضا كل أشكال الترغيب والترهيب لوقف هذا الإسناد، فكان أن دفع روحه مع كوكبة من خيرة قياداته فداء لهذا الإسناد، فربح البيع ونعم التجارة ! لا شك أن استشهاد السيد يمثل ضربة قاسية لحزب الله ومحور المقاومة ولكنها بالتأكيد لن تكون ضربة قاصمة للحزب كما يروج العدو، بل بالعكس إن دماءه الطاهرة ستكون وقودا يزيد المواجهة مع العدو تألقا واشتعالا، وأكبر دليل على ذلك هو هذا الكم الهائل من الصواريخ والمسيرات التي انهالت وستنهال على الكيان وصولا إلى القدس وتل أبيب رغم أن دم سيد الشهداء لم يجف بعد. ولمن كان له ذرة من شك في ذلك فلينظر إلى مصير الجهاد الإسلامي بعد استشهاد قائدها المؤسس الدكتور فتحي الشقاقي، وحماس بعد استشهاد مؤسسها الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإخوانهما، بل ومصير حزب الله بعد استشهاد قائده المؤسس عباس الموسوي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد استشهاد أمينها العام أبو علي مصطفى، كل هذه الحركات لم يزدها اغتيال قادتها إلا توهجا وإصرارا على العطاء والجهاد. "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون". رحم الله سيد الشهداء وأسكنه فسيح جناته وجازاه عن العرب والمسلمين وأحرار العالم خير الجزاء.