الأحكام والقرارات القضائية " علمانية " لأنها محايدة لا ارتباط لها بأية ايديولوجية ولا بأية عقيدة ولا باية زاوية، ولا تصدر لا عن مجلس إفتاء ولا مجلس إرشاد و لا مجلس شورى ولا مؤسسة للعلماء ولا عن وزارة ولا وزير، و بالطبع ليس هذا التوضيح لا قدحا ولا تقليلا من مكانة المفتين والعلماء والمجتهدين ولا من غيرهم، بل هو أمر يمهد لمعرفة ما اتى به الدستور في مجال عمل السلطة القضائية الممثلة في قضاة الأحكام، والذين يشتغلون في حدود من سمح لهم بع الدستور والنظام الأساسي للقضاة و مدونة الأخلاقيات القضائية . الأحكام و القرارات القضائية ليست لا آيات قرءانية تفتتح بالبسملة، ولا أبيات شعر، ولا أمْثَال ولا حِكَم، ولا قصائد يختار محررها ما يناسب ذوقه أو ثقافته أو عقيدته ، بل للأحكام صيغتها و خصائصها وقواعد تحريرها من بدايتها إلى نهايتها.
ومما لا خلاف حوله، أن الصيغة الدستورية هي المرجعية الوحيدة التي تصدر بها القرارات والأحكام والأوامر من طرف الهيئات القضائية و قضاة التحقيق ومن سواهما، وهي ما نصت عليه المادة 124 منه والتي تؤكد انه " تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك وطبقا للقانون". وهذه الصيغة الدستورية زادت من قوة للمادتين 365 و 370 من ق.م.ج، و عززتها قرارات عديدة لمحكمة النقض التي أبطلت ونقضت قرارات استئنافية صدرت فقط " باسم الملك " من دون أن تكون مقرونة بكلمة " وطبقا للقانون "، وأكدت رسميا أن الصيغة المحددة بالدستور هي من النظام العام. وعقب ذلك توقف الجدل و علقت كل التأويلات والاجتهادات والخلافات التي أثارتها الصيغة الدستورية الرسمية والتي انزلق قرار فريد لمحكمة النقض في البداية سنة 2021 لما اعتبر بأن صدور القرار باسم الملك فقط لا يؤثر على صحة القرار ولا يفسدها، وهذا التوجه سرعان ما تراجعت عنه محكمة النقض نفسها وانتبهت بأن الدستور الجديد جاء بالكثير من المستجدات لابد من فهمها و استيعابها، و لا يمكن إهمالها ولا تأويلها أو الخروج عن نسقها، اعتبارا أن مقتضيات الدستور الجديد جَبت ما قبلها، وبالتالي فكل مقتضياته هي من النظام العام ملزم للجميع للدولة ولمؤسساتها وخاصة ملزمة للقضاة لانهم هم من يمارس السلطة القضائية بالمحاكم، ويسهرون على نظام وقواعد العدالة وتوجهات السياسة القضائية وإصدار الأحكام القضائية، فكما لا يجوز خرق صحة عقد الجلسات أو تشكيل الهيئات أوخرق آجال الطعون زيادة أو نقصانا، لا يجوز خرق الصيغة المقررة دستوريا للاحكام فلا اجتهاد مع وجود النص... ولقد احتدم تامقاش مؤخرا حول ما اصبح مثيرا، تفاجأت بسببه كل المكونات القانونية والقضائية وخاصة المحامين و القضاة، وذلك لما صدرت أحكام وهي تحمل صيغة جديدة، صيغة ورد في صدرها وفي مقدمتها هكذا: " باسم الله الرحمن الرحيم، باسم جلالة الملك وطبقا للقانون " فهل هذه الصيغة الجديدة تبطُل بها القرارات والأحكام ام لا؟ وهل هي صيغة مطابقة متلائمة مع الصيغة الدستورية أم لا؟ وهل هي الصيغة المفروضة بالمادتين 365 و 370 من قانون المسطرة الجنائية ام لا؟ في اعتقادي انه لابد من التفكير مليا، والتأمل قبل الجواب عن هذه الاسئلة وعن مثيلاتها. أولا: إن البسملة أي " باسم الله الرحمان الرحيم "، هي فَواتح السوَر، وهي عند الفقهاء سُنة يفتتح بها القارئ تلاوة القرآن مع التعَوذ احيانا، وحول مواقعها و قراءتها اختلف كالعادة الفقهاء واجتهد الائمة وذهبوا مذاهب شتى، فمن قائل بأن البسملة تقرأ في أول السورة وليس من وسطها، ومن قائل أنها تقرأ بعد نهاية سورة كما تقرأ عند بداية الاتصال باخرى، ومن قائل أنها لا تقرأ إلا في افتتاح التلاوة لا غير، ومن قائل أنها لا تقرأ أصلا في سورة براءة – التوبة ، ومن قائل بأن باسم الله الرحمان الرحيم ليست من القرآن ولا تجب قراءتها في الصلاة، ومن قائل بأنها آية من الفاتحة فقط وليست من السور الباقية....ومن هنا يبدو إن البسملة طرحت في سياق متصل بتلاوة القرآن و بالتعبد... ثانيا: ان التبرك والاستعانة بالله و البسملة في القول والعمل، في الحياة الخاصة أو الاجتماعية مسألة تعود لقناعة الشخص وإرادته الحرة ، لكن خارج الحياة الخاصة، ولما يتعلق الأمر مثلا بمجال القرارات والأحكام فلا يبقى لأي كان بمن فيهم القضاة أثناء ممارسة وظيفتهم حرية التصرف في صيغة الأحكام وحرية اختيار تطبيق النص القانوني أوعدم تطبيقه أو بمعنى وضع أي عنوان يريدونه عند تحرير حكامهم، وبالتالي يجب ألا يخلط أحد منا وألا يخلط قضاتنا بالاحرى ما بين معتقداتهم وأفكارهم الخاصة ومستوى ميولهم الديني، وما بين القواعد القانونية المكتوبة المؤطرة بالقانون وبالمساطرة، والتي تلزمهم بقيود دستورية آمرة لما لها من ارتباط بالنظام العام. ومن هنا، فالصيغة الدستورية الرسمية والوحيدة عند صدور الأحكام هي" باسم الملك وطبقا للقانون"، و التي تفرض علة القضاة تطبقها واحترامها وعدم تغييرها لا حذفا أو إضافة، لأنهم لا يتمتعون بالحرية لاختيار الصيغة التي تناسبهم دون الصيغة المقررة بالدستور، كما لا حق لهم استعمال عبارات تلائم معتقداتهم الدينية أو الفكرية التي تعنيهم وحدهم ولا تعني المتقاضين سواء كانوا من المؤمنين أو من غيرهم، وهب إن احدا شطب على البسملة معتقدا انها كتبت خطأ أو عمدا في صدر الحكم ليكون الحكم حاملا الصيغة الدستورية الواجبه، فها سيكون هدا الشخص مزورا لهذا الحكم ام لا؟ وعليه: فلما كانت الأحكام تصدر باسم الملك وطبقا للقانون فقط، ولما فوض الملك للقضاة النطق بالأحكام باسمه وحده، فلانه يعرف إن مسالة الدين والعقيدة الخاصة بالمتقاضين ليست شرطا لسماع الدعوى، فالمتقاضي سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن، مسلما أو مسيحيا أو علمانيا أو صليبيا....، فالأمر أمره وليس للقضاة أي دخل فيه، وحتى عند مثول المتقاضين أمام القضاة وهيئات المحاكم فإنهم يسألونهم فقط عن هويتهم، ولا يسألون عن ديانتهم ومعتقداتهم ، فالمساواة وعدم التمييز فَرَضَت استبعاد العقيدة والدين من ساحة العدالة والقضاء، وهذه في اعتقادي هي فلسفة نص المادة 124 من الدستور والمادتين 365 و 370 من قانون المسطرة الجنائية،. من هنا ، فليس للقضاة أن يخلِطوا اسم الملك مع اسم الله في أحكامهم، ويخرجوا عن النص الدستوري الذي صوت عليه المغاربة وأمر الملك بتنفيذ بظهير ملكي بتاريخ 29 /7 / 2011. ولا يمكنهم الخلط ما بين افتتاح الجلسات التي يبدأونها أحيانا بالبسملة شفويا أي باسم الله، وما بين تحرير الأحكام التي تفرض عليهم إصدارها باسم الملك وطبقا للقانون فقط. إنه من باب الشطط أن يصبح قضاة الأحكام مَشرعين مكان المشرع، يُبَدِلون عبارات النصوص الآمرة و يتجاوزوا أحكام الدستور و ظهير الأمر بتنفيذه كما هو على حالته، فالقضاة حسب المادة 117 من النص الدستوري مكلفون بتطبيق القانون، وليس بتغييره أو تمطيط مواده او إضافة فقرات فيها. بل إن تغيير صيغة صدور الأحكام، أو الإضافة للصيغة الرسمية كلمة "البسملة" مثلما تغير الرسائل أو عناوين القصائد أو عيرها، يُسقط الأحكام ويبطلها، وتصبح مصالح المتقاضين في خبر كان، وتصبح الخزينة العمومية مهددة بأداء تعويضات عن أخطاء قضائية كان عليهم بالاحرى تفاديها وتفادي أسبابها. ثم إن الأحكام لها مرجعية واحدة وهي المرجعية الدستورية وليست المرجعيات الشخصية للقضاة، و الأحكام قد تكون غير عادلة، وقد تقع في نسيان أو إغفال عمدي او غير عمدي، بسبب كونها ليست من وحي الله ولا من كلام أنبيائه، وبالتالي تبقى كلها من بدايتها لخاتمتها قابلة للطعون والتظلمات وللمراجعة، وأن النطق بها بالبسملة قد يعطي الانطباع للمتقاضين بأنها مُحصنة ولا يُفترض أن يشوبها اغفال او زلل، وهذا امر فيه استغفال للمرتفقين، و فيه ضغط معنوي عليهم، وقد يؤَوِله المتأسلمون او اصحاب العمامات تأويلا إسلامويا أوسياسويا، يضفي على الأحكام قداسَة ليست لها لانها من اجتهاد بشر، فتصبح شبه سُور أو شبه آيات وهذا نوع من التحريف لا يجوز ولا يليق . و أخيرا، يعرف الجميع بأن القضاء محايد مبدئيا، ومطلوب من القضاة التطبيق العادل والسليم للقانون، بدون خلفيات عرقية أو ايديولوجية، وبدون نَفحَة دينية أو تأثير عقيدة ولا آية لا من القرآن ولا من التوراة ولا من غيرهما، لأن التمييز بين المتقاضين حسب عقيدتهم او معتقداتهم اوعرقهم أو جنسيتهم محرم بالدستور بمقتضى التصدير والمواد 6، 19، 25، ومحرم بالاتفاقيات الدولية، وبالتالي فاضافة عبارة البسملة أو عيرها لصدارة الحكم القضائي مع اسم الملك وطبقا للقانون، هي إضافة ممنوعة دستوريا يريد من أصدر الحكم معها أن يستظل أمَام المتقاضين بظلها ليضفي على نفسه جلالا وعلى حكمة هيبة شكلية لا غير. علينا ألا نكون ملكيين أكثر من الملك، وعلينا أن نطبق القواعد الدستورية في مجال العدالة وعلينا رفض " جر الأحكام القضائية لمجال المزايدات " وعلينا حماية الأحكام حتى " لا تنزلق للنقاشات الهامشية ولكي لا تسقط في التطرف بدورها " كما يتطرف الأفراد أحيانا. ومن هنا وجب التقيد بالصيغة الوحيدة التي أمر بها الدستور وهي إصدار الأحكام بصيغة" باسم الملك وطبقا للقانون" دون زيادة و لا مزايدة ولا حشو، وعلى المجلس الاعلى للسلطة القضائية أن يسهر على التزام محاكمنا وقضاتها بروح مدونة الأخلاقيات القضائية والتعامل بمساواة بين الأطراف دون تمييز كيفما كان أساسه، فالمدونة تلح على الحياد والتقيد بالقانون وبتطبيقه السليم، وخصوصا التقيد بإصدار الأحكام وفقا للصيغة الدستورية وهي باسم الملك وطبقا للقانون، وهي كما يعلم الجميع الصيغة المعمول بها كذلك بالمادة 17 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، لتبقى كل إضافة هي باب الشطط الذي تتناقض مع عدالة الحكم القضائي. ولما كان من المسموح به للقضاة كبقية المغاربة ممارسة حقهم في التعبير عن قناعاتهم في ظل النقاشات السياسية والقانونية والثقافية التي تهم الشأن العام الوطني والعالمي، وازاء الاختلاف حول حرية التعبيرو ارتداء الرموز الدينية كالنقَاب والخِمار و البركة، و النقاشات التي تهم العلاقة بين حرية التعبير والحرية الدينية، ومكانة الخصوصية والكونية ومدى علاقتهما بالشريعة في سياق القانون الوضعي والقانون الدولي، فإن كل هذه المحاور الفكرية والسوسيو سياسية، هي اختلافات مشروعة وصاعدة في هذا القرن بحدة في العديد من المجتمعات بما فيها المجتمع المغربي، وتدفع للبحث في علاقة القانون بالدين وعلاقة الدين بالسياسة، ومدى وجود علاقة الدين بلاحكام القضائية خصوصا في المادة الجنائية كما جاء به المفكر والمحامي عبد الرحيم برادة في كتابه Plaidoirie pour un Maroc Laique و اخيرا، لاشك أن محكمة النقض تصغى جدا لهذا الجدل، ولا شك أنها ستميل لحماية النظام العام، و ستبطل كل حكم أو قرار انحرف عن الصيغة الدستورية الآمرة، إذ و كما فرضت المحكمة راقبتها لما أبطلت كل القرارات الاستئنافية التي حذفت كلمة من الصيغة الدستورية الرسمية لصدور الأحكام، فإنها دون شك ستبطل القرارات التي قد تضيف للصيغة الرسمية ما هو ليس منها، و في كلتا الحالتين ستعزز فلسفة قراراتها بتطبيق المادة 534 من ق.م.ج. لما يتم الخرق الجوهري للقانون. الرباط: 30 يونيو 2024