في الوقت الذي يعاني فيه حوالي نصف المغاربة فوق 15 سنة (48,9%)من اضطراب نفسي طفيف أو كبير، يعيش قطاع الصحة النفسية على وقع خصاص حاد، سواء على مستوى الموارد البشرية أو البنيات التحتية، مما يحول دون ولوج فئات واسعة من المرضى إلى حقها في العلاج، ويدفع الأسر إلى سلك طرق تقليدية كزيارة الأضرحة واللجوء للرقية الشرعية، بما ينطوي عليه الأمر من مخاطر. في هذا الحوار مع عمر لطفي رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، نتعرف على أهم مكامن النقص في منظومة الصحة النفسية بالمغرب، وما يجعل التخصص غير ذي جاذبية لمهنيي الصحة، وأبرز الصعوبات التي يواجهها المرضى في رحلة العلاج، مع تسليط الضوء على الطرق التقليدية التي تلجأ لها الكثير من الأسر لعلاج أبنائها، فضلا عن تتبع مآل "ضحايا بويا عمر" بعد إغلاقه، ومدى الوفاء بوعود النهوض بمجال الصحة النفسية والعقلية للمغاربة.
وفيما يلي نص الحوار هناك اليوم إجماع على أن الصحة النفسية بالمغرب تعاني من خصاص كبير، أين يتجلى هذا الخصاص أساسا؟ لا يزال الطب النفسي في المغرب يعاني من عدة مشاكل تنظيمية ومالية وبشرية، في الوقت الذي تتزايد فيه أعداد المصابين بسبب عوامل متعددة اجتماعية وأسرية، كالفقر والبطالة، وبسبب الأعباء الاجتماعية التي تؤثر على الصحة النفسية، وتفشي ظاهرة استهلاك المخدرات، وهو ما يعكسه ارتفاع معدلات الانتحار والإدمان. وفي المقابل، يشكو المغرب من نقص حاد في عدد الأطباء النفسانيين، حيث لا يتوفر إلا على 418 طبيبا مختصا في الطب النفسي، منهم 171 بالقطاع العام و247 بالقطاع الخاص، إضافة إلى 47 مختصا في الطب النفسي لدى الأطفال، و40 أخصائيا فقط في طب الإدمان، أي إن التغطية الطبية في هذا المجال ضعيفة جدا، بنسبة أقل من طبيب نفساني لكل 100 ألف نسمة، في حين أن المعدل العالمي يقدر بطبيبين لكل 100 ألف نسمة. هذا إضافة إلى قلة الممرضين المتخصصين في التمريض النفسي، حيث لا يتجاوز عددهم 1460 ممرضا وممرضة مختصين في الصحة العقلية، و719 مساعدا اجتماعيا بالقطاع العام وفق معطيات رسمية لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية. كما أنه ورغم مجهودات وزارة الصحة في السنوات الأخيرة، فإن عدد المستشفيات الأمراض العقلية لا تتجاوز 36 مستشفى، و25 مصلحة للأمراض العقلية داخل المستشفيات العمومية، وقسمان للطب النفسي للأطفال، و18 مركزا لطب الإدمان. أما الطاقة الاستيعابية الوطنية من الأسرة (القطاع العمومي والقطاع الخاص والطب العسكري) تبلغ 2431 سريرا أي ما يعادل 6.2 سريرا لكل 100 ألف نسمة، وهو رقم يظل جد محدود مقارنة بعدد السكان المغرب الذي تجاوز 35 مليون نسمة. ما أسباب هذا الخصاص في الطب النفسي وما الذي يجعل المجال غير جذاب؟ خلافا للاهتمام الدولي والإنساني بالصحة النفسية وأولويتها في الرعاية الصحية للمجتمعات، فإن الطب النفسي بالمغرب لم يحظ بعد بالأهمية التي يستحقها بسبب عدة عوامل ثقافية واجتماعية واستراتيجية وتشريعية، ما يجعل وضع المغرب لا يتماشى والصكوك الدولية لحقوق الإنسان وحقوق المرضى. وقد ساهم في ضعف الإقبال على هذا التخصص الطبي عدة عوامل منها الوصم، أو بسبب ضعف المدخول المادي في القطاع الخاص، أو بسبب الفراغ التشريعي؛ خاصة أن المسؤوليات والمهام الطبية الشاقة تتقاسمها عدة جهات طبية وأمنية وقضائية وتعقيداتها الإدارية في عدد من الحالات، فضلا عن التهديدات والاعتداءات التي يمكن أن يتعرض لها الطبيب أو الممرض أثناء مزاولة عمله من طرف المرضى في حالات الهيجان دون حماية ودون تأمين، وقد وقعت أحداث نتجت عنها وفيات أطباء وممرضين وممرضات، مما يدفع عددا كبيرا من الأطباء والممرضين إلى التوجه نحو تخصصات أخرى أكثر مردودية على المستوى المادي. وأخطر ما في الأمر أن قانون الصحة النفسية لا يزال معلقا بالبرلمان المغربي منذ أزيد من 15 سنة لضعف مضامينه وعدم ملاءمته مع التشريعات والصكوك الدولية لحقوق الإنسان وحقوق المرضى النفسانيين بمن فيهم السجناء، ويتطلب مراجعة شاملة بإشراك المهنيين والخبراء المختصين في المجال الأمني والقضائي والمجتمع المدني والحقوقي. إلى جانب الخصاص في المهنيين وقلة البنيات الاستشفائية، ما هي أبرز المعيقات التي تواجه المرضى النفسيين في رحلة علاجهم؟ يعاني قطاع الصحة من إشكالية تمركز موارده البشرية بمحور الدارالبيضاء، الرباط، طنجة، وتزداد أكثر بالنسبة لأطباء الصحة النفسية بسبب قلة عددهم وضعف البنية التحتية والتجهيزات، والنقص الكبير في مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية وتوزيعها المجالي، حيث تتمركز في الدارالبيضاء وبرشيد وسلا وطنجة ومراكش، مما يستوجب على مواطني عدة مدن وقرى الانتقال، في حال القدرة المادية، إلى مستشفيات المدن الكبرى التي تتيح إمكانية الاستشفاء. لكن، غالبا ما تضطر الأسر للعودة من حيث أتت بسبب غياب سرير، والمواعيد طويلة الأمد، مما يدفعها إلى التوجه للطب الشعبي وزيارة الأولياء، فمن الصعب جدا استكمال رحلة العلاج في ظل وضع يتسم بالخصاص في كل جوانب العملية الصحية من تشخيص وعلاج ومتابعة، نتيجة ضعف استثمار الدولة في منظومة الرعاية النفسية، حيث الغلاف المالي المخصص للصحة العقلية بالمغرب من ميزانية قطاع الصحة لا تتجاوز 2%. كما يواجه المرضى ارتفاع أسعار الأدوية الخاصة بعلاج الأمراض النفسية، وصعوبة الحصول عليها بسبب الشروط الموضوعة لتفادي التلاعب بها والاتجار بها كمخدرات عقلية، إضافة الى النقص الشديد في الأدوية الأساسية للعلاج حتى داخل الصيدليات المغربية، علما أن ستيرادها عن طريق الإنترنت مخالف للقانون، الذي يحظر بالمطلق بيع الأدوية خارج الصيدليات، ويفرض -في المقابل- توفير مخزون ستة أشهر من الأدوية. هل يمكن القول بأن الخصاص وصعوبة الولوج للعلاج في المستشفى، يدفع المواطنين إلى اللجوء لطرق "تقليدية" مثل الرقية الشرعية وزيارة الأضرحة؟ يتموقع المغرب فعلا ضمن أكبر الدول التي يعاني فيها الأشخاص من اضطرابات عقلية ويحتاجون إلى علاج دون أن يستفيدوا منه، حيث تصل نسبة هذه الفئات إلى 85% حسب الجهات. و تجب الإشارة إلى أن الوصم الاجتماعي والنظرة السلبية للأشخاص الذين يعانون من الاضطرابات النفسية والعقلية مستمران في المغرب، مع طغيان الثقافة التقليدية المبنية على الجن والشعوذة والأضرحة في عدة جهات من المملكة؛ حيث تظل أفضل الخيارات في البحث عن العلاج التقليدي في ظل غياب استراتيجية وطنية شاملة في الوقاية وعلاج الأمراض النفسية والعقلية. و ما تمت الإشارة اليه بخصوص ضعف الإمكانيات المادية والبشرية ونقص كبير في البنية التحتية والتجهيزات وغلاء أسعار الأدوية وفقدانها أحيانا، يعد أحد العوامل المشجعة على التوجه نحو المؤسسات التقليدية للعلاج والتي تعتمد على زيارة الأولياء الصالحين والأضرحة، أو الفقيه، أو الرقية الشرعية لإزالة أثر السحر أو استخراج الجن والقِوى الخفيّة التي تعتبرها أسر المرضى هي السبب في الاضطراب النفسي. كما يتم اللجوء إلى تقنيات العلاج النفسي التقليدي حسب ما هو متداول في الأوساط الشعبية من طرق وأساليب؛ كاستهلاك خليط من الأعشاب أو الغسل أو حمل معادن أو الطقوس العلاجية الأخرى كإيقاعات موسيقية والرقص او تقديم الهدايا و الذبح. وإضافة إلى ما سبق، هناك أسر تقوم بحجز وسجن دائم لمريضها خوفا من "وصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي"، فيصبح المريض منعزلا عن المجتمع وتزداد حالته خطورة، وتتراجع النتائج المتوقعة من العلاج إن كان يتابعه في مستشفى، هذا في الوقت الذي يضطر فيه البعض الآخر من المرضى إلى العيش في وضعية تشرد دائم في شوارع المدن وأسواق القرى، مما يجعلهم مصدر تهديد لسلامة وأمن الأشخاص والممتلكات، كما يشكلون تهديدا دائما لأنفسهم. ولا ننسى أيضا أن السجناء الذين يعانون من الأمراض النفسية والعقلية، وهم رقم لا يستهان به، إذ يمثلون ما يقارب 8% من السجناء، يعانون من ضعف الرعاية الصحية حسب تقارير سابقة للمرصد المغربي للسجون، وأحينا تكون من أسباب الوفيات. ارتباطا بالطرق التقليدية للعلاج، اشتهر ضريح "بويا عمر" بعلاج الأمراض النفسية، قبل أن تغلقه الحكومة سنة 2015، وتعد بعلاج المحتجزين فيه، مع النهوض بمجال الصحة النفسية عموما، إلى أي حد تم الوفاء بهذه الوعود؟ كان هناك شبه إجماع على ضرورة إغلاق المعتقل القصري أو سجن ضريح بويا عمر باعتبار أن ما كان يمارس داخله يتنافى كلية مع حقوق الإنسان وحقوق المرضى النفسانيين، وتم إجلاء جميع المرضى الذين كانوا محتجزين بمحيط ضريح بويا عمر، بعد خضوعهم للفحوصات الطبية، على أساس نقلهم إلى المستشفيات العمومية المتخصصة للقيام بفحوصات تشخيص مرضهم وعلاجهم، ثم القيام بعملية إعادة إدماج هؤلاء المرضى في المجتمع، حيث استقبلت المستشفيات العمومية 795 مريضا، من بينهم 5% من النساء. لكن ما صاحب العملية من مساندة سياسية وحقوقية وطبية وأهدافها الإنسانية، تبخر بعد أسبوع من إيداع المرضى في مستشفيات عمومية وخاصة، تلك التي لا علاقة لها بالمستشفيات المتخصصة في الأمراض العقلية والنفسية. فالأغلبية الساحقة منهم غادروا هذه المستشفيات إما لدى أسرهم او تم تسريحهم للشارع العام او عادت بهم أسرهم إلى اضرحة أخرى، بحكم أن المغرب يتوفر على عدد كبير من الأضرحة والأولياء. وبذلك تبخرت كل الوعود التي أطلقتها الحكومة آنذاك ومبرراتها لإخلاء "بويا عمر" والتزامها ببناء وتجهيز المستشفيات الخاصة بالأمراض النفسية والعقلية وتوفير أدوية مجانا للمرضى وإعادة إدماجهم في المجتمع. فأغلب المستشفيات والمراكز الصحية التي وضعت رهن إشارة المرضى في يونيو 2015، سرعان ما تخلت عنهم، فقامت أسرهم بإعادتهم الى أضرحة أخرى او وضعهم في حجز بمنازلهم، ومنهم من اختار الهرب في غياب أسرة أو قريب للإقامة في الشارع. لذلك، فقد كانت العملية كزوبعة في فنجان رغم الأهداف النبيلة والإنسانية التي ناضلت من أجلها عدة جمعيات حقوقية وإنسانية من أجل إغلاق سجن بويا عمر، لما يمارس به من انتهاكات لحقوق الانسان والاتجار بالبشر، لكن الوزارة التي قامت بهده العملية تخلت عن التزاماتها. في ظل هذا الواقع، ما الذي ينبغي القيام به لتجاوز الاختلالات التي يعرفها مجال الصحة النفسية بالمغرب؟ استجابةً للعبء المتزايد من اضطرابات الصحة النفسية وللتحديات التي تواجهها المنظومة الصحية الوطنية، خاصة والمغرب يعرف تحولات كبرى على مستوى إصلاح المنظومة الصحية، فإن على وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، -أولا- إعادة فتح ملف قانون الصحة النفسية بالبرلمان بإشراك الأطباء والممرضين المتخصصين والصيادلة والخبراء في المجال الأمني والقضائي والحقوقي والمجتمع، المدني المهتم بالموضوع، في إعداد مشروع قانون يستوعب جميع مهن الأخصائي النفسي، ويحدد مجالات اشتغالها وحدودها، والشروط اللازم توفرها، مع مراعاة الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، بما يضمن الكرامة الإنسانية للمرضى وحقوقهم الأساسية. كما ينبغي الرفع من الميزانية المخصصة سنويا للاستثمار في الوقاية والرعاية وعلاج الأمراض النفسية والعقلية، وسد الخصاص في الموارد البشرية المتخصصة في المستشفيات الحكومية، وتشجيع القطاع الخاص، وتحسين جودة الرعاية النفسية والعقلية المقدمة للمرضى، وضرورة مواكبتها لما بلغته العلوم الطبية والنفسية والاجتماعية من تقدم وتطور. وإلى جانب ذلك، من المطلوب الاهتمام ببرامج الرعاية الصحية والاجتماعية لإعادة إدماج المرضى في المجتمع، والاستجابة للاحتياجات الخاصة بهم وبأسرهم، لاسيما تلك المتعلقة بالسن والشيخوخة والحالة الاجتماعية والاقتصادية، خاصة الفقراء والذين يعانون من الهشاشة، والشباب في حالة الإدمان على المخدرات، بإنشاء مرافق جديدة للصحة النفسية لرعاية المرضى الذين يعانون من اضطرابات نفسية ومعالجة الإدمان في كل جهات المملكة، مع إعادة النظر في أثمنة بعض الأدوية المرتفعة جدا، وإقرار المجانية الكاملة للمرضى، في اطار التأمين الإجباري الأساسي عن المرض، وتغطية نفقات العلاج 100%، وضمان المساواة في العلاج ما بين جميع المواطنين والمواطنات. وفي الختام، فإن تعزيز برامج الوقاية من اعتلالات الصحة النفسية للأشخاص المعرضين للخطر، وتحقيق التغطية الشاملة بخدمات الصحة النفسية، في إطار تحقيق أهداف التنمية المستدامة لسنة 2030، هي مسؤولية جماعية، تبتدئ بالفرد والأسرة في الوقاية، وتنتهي بالمجتمع والدولة في تحمل المسؤولية الكبرى في تفادي العوامل والأسباب المؤدية لتفشي الأمراض النفسية والانتحار.