في معنى اللايقين يعنى اللايقين أو الارتياب والشك – حسب ما أورده سنة 1927، مؤسس "مبدأ اللايقين، العالم الألماني فرنز هايزنبرغ – باختصار شديد، إن الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة متناهية، ، وذلك على عكس اليقين الذي يفيد التأكيد التام والكامل على صحة شيء ما، أو الاقتناع بفكرة معيّنة، كحقائق مؤكدة لا مجرّد فرضيات. وانتقل مفهوم اللايقين، بعد تشكله في دائرة الفيزياء، إلى الحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية، وأصبح أكثر المفاهيم تداولا وتحول إلى نموذج تفسيري وبراديغم إرشادي جديد. وكما جاء في كتاب " بين الزمن والأبدية"، لإيزابيل ستنغرس وإيليا بريغوجين الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1977. وهكذا أصبح من يعتقد بأن المرحلة التاريخية التي نمر منها في الزمن الراهن، أن اليقين الوحيد الذي يمكن أن يتمتع به المرء، هو أننا نعيش في عالم من اللايقين .. ما علاقة اللايقين بالإعلام؟ بيد أنه تجدر الإشارة الى أن الغاية من اصدار كتاب " الاعلام في زمن اللايقين" ليس مقاربة مفاهيم مبدأ اللايقين أو مواكبة النقاش الدائر حولها، وإنما الهدف المساهمة في اثارة الانتباه الى أهمية الصحافة والاعلام والاتصال في ظل الثورة الرقمية، وعالم معولم ومتغير، وذلك اعتمادا على منهجية نظرية، وميدانية ، تطرح الأسئلة، أكثر ما تتوسل أجوبة جاهزة ونهائية، حول القضايا التي يتناولها الكتاب وذلك ارتباطاً بالإشكاليات المطروحة في الزمن الراهن. وإذا كان مستقبل الصحافة والإعلام والاتصال يرتبط بمتغيرات الفكر والسياسة والصحافة والمجتمع، ومعها تحديات الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، وانتشار الشعبوية، فإن الفضاء العمومي – بفضل التوسع الهائل للتقنيات الحديثة – تحول إلى " فضاء إعلامي بامتياز"، كما يؤكد يورغن هابرماس آخر عمالقة مدرسة فرانكفورت النقدية الألمانية، تشكل ضمنه وسائط الاتصال النموذج الطاغي الذي يمارس هيمنة مباشرة على إنتاج المعنى، وعلى مختلف تمثلات الرأي العام، وتحولت بذلك – كما يرى عدد من الباحثين – إلى موجه لطريقة تمثلنا للعالم، وأصبحت معها العلاقات، لا تتم وفق التجربة المباشرة للأفراد والجماعات، بل تتم وفق ما تقدمه لنا هذه الوسائط جاهزة. غير أنه إذا كانت التكنولوجيا الحديثة، قد أتاحت بالفعل الفرصة للجميع للحصول على المعلومات والتبادل والتفاعل، فإنها أدت بالمقابل الى تغيير جذري في البيئة الإعلامية، وفي مقدمتها ممارسة مهنة الصحافة والإعلام. إذ في الوقت الذي كان الصحفيون، يعتمدون بالأساس على قصاصات وكالات الأنباء، فإن الثورة الرقمية، جعلتهم أمام سيل جارف من المعلومات والأخبار، انتقل فيه الجميع من نظام للندرة الى آخر للوفرة، كان من بين انعكاساته السلبية، ترويج المعلومات المضللة. وفي هذا الصدد يكشف كتاب " عمالقة التقنية والذكاء الاصطناعي ومستقبل الصحافة" لجايسون واتاكر الصادر سنة 2019، بأن شركات التكنولوجيا الواسعة الانتشار (..غوغل وأمازون وآبل وفيسبوك ومايكروسوفت.. )، تكشف العلاقة القائمة ما بين عالم المال والصحافة والاعلام والاتصال، عبر استغلال جسر التقنية التي وظيفتها لبناء آلية للهيمنة للتأثير على استهلاك الصحافة. وتظل التكنولوجيات الرقمية، تشكل انعكاسا للاستعمال الذي يقوم به الفرد، إذ لم تضع حدا لعدم المساواة في الاستخدام، ولم تخفف من سوء التفاهم بين البشر، ولم تقلص كذلك من حدة النزاعات والحروب، لكنها بالمقابل وفرت ولوجا غير محدود للمعرفة، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة، وجعلت الفضاء الرمزي، لا يخضع للرقابة ، كما هو شأن القراءة،. وعلى المستوى الوطني، فإنه بقدر ما يلاحظ إقبالا متصاعدا على التكنولوجيا، ( ما يناهز 36 مليون عدد المرتبطين بشبكة الانترنيت في يوليوز 2022 حسب احصائيات الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات)، بقدر ما يسجل توجسا مبالغ فيه في بعض الأحيان، بدعوى الاستخدام السيء لهذه التكنولوجيات الحديثة، يحدث ذلك في الوقت الذي لم يعد للسياسيين ولا للمؤرخين مجال للحديث إلى " المواطنين الرقميين" عن الماضي وحتى الحاضر، بل هؤلاء المواطنين يريدون أن يعرفوا عن الغد، كما سجل ريمي ريفيل الباحث الفرنسي في علم اجتماع الاعلام في كتابه" الثورة الرقمية ثورة ثقافية". في ظل هذا السياق يندرج مؤلف " الاعلام في زمن اللايقين " الذي يتضمن ستة فصول هي : " الإعلام والسياسة" و"الإعلام والمؤسسات" و" الإعلام والثقافة" و" الصحافة والذاكرة والإعلام والثورة الرقمية" و"الإعلام والجوار". وتترك نصوص الكتاب الحرية للقارئ في اختيار المواضيع الذي تتماشى مع ميوله وانشغالاته، معتمدا في ذلك أسلوبا ومعالجة ذات لغة مرنة، تميل كثيرا للكتابة الصحفية، أخذا بعين الاعتبار تحولات نمط القراءة وطبيعة القراء في العصر الرقمي. الكتاب الصادر أخيرا، يحاول من خلال القضايا التي يعالجها إثارة انتباه مختلف الفاعلين إلى تحديات ورهانات الاعلام والاتصال الذي لم توليه بعد، السياسات العمومية الاهتمام الذي يستحقه، فضلا عن الموقع المتدني الذي يحتله في البرامج الحكومية ولا حتى في النموذج التنموي الجديد ، كما لم يحظ بما يكفي من عناية في ميدان البحث العلمي والأكاديمي رغم المجهودات المبذولة والمحدودة جدا هنا وهناك.فهذا المؤلف من الكتابات الصحافية، التي قد تعين الباحث في رصد واستقصاء الوقائع السياسية والاجتماعية والإعلامية في مرحلة من مراحل تاريخنا الوطني ومحيطنا العالمي. إن مختلف نُصوص " الإعلام في زمن اللايقين"، تحمل قلق السؤال حول مُستقبل الإعلام في قلب تحولات جارفة تفعل ذلك وهي تُفكر في أثر السياسي على الصحافة والاعلام، و تقف على اختبار الأخلاقيات المهنية في زمن الرقمنة، و تستعرض تحديات الصحافة الثقافية أمام اكتساح الضحالة المُعممة، و تُدقق النظر في حُضور الطفل و المرأة و الثقافة والرياضة والمجتمع المدني في إعلام اليوم، و تبحث في مألات بنيات و مؤسسات الأداء الإعلامي، كما جاء في تقديم الكتاب الذي دبجه الأستاذ الجامعي حسن طارق الذي أوضح أيضا أن هذه النصوص كتبت مُستحضرة وجوهاً مشرقة في ذاكرة الإعلام، أو مُتشابكةٍ مع قضايا مطروحة على جدول أعمال المغرب الإعلامي أو متفاعلة مع اهتمامات قريبةٍ من آفاق المؤلف. لكنه تحضر – ضمن جدلية خلاقة – كل الأسئلة الحارقة لمستقبل الصحافة في زمن اللايقين الإعلامي. وإذا كانت إشكالية التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، تطرح عدة أسئلة في " عصر اللايقين" من بينها هل تهدد تكنولوجيا المعلومات الديمقراطية؟ وما هي الفرص الجديدة التي تتيحها لنشر الديمقراطية والحرية؟. وفي هذا الصدد يلاحظ بأن دور " ميديا " الإعلام وقدرتها على تعزيز الديمقراطية ما زالت بصفة عامة جد محدودة، كما أن هذا القطاع لم ينل ما يكفي من اهتمام من طرف الأوساط العلمية والأكاديمية المهتمة بقضايا الديمقراطية. وتتطلب تحديات رقمنة الصحافة، وهيمنة الخوارزميات عليها، وعيا أكبر، وتأهيلا للعنصر البشري، للتفاعل مع التحديات التي يفرضها تغول التقنية، مع العمل على جعل البرمجية، وسيلة لمساعدة الذكاء البشري في فهم العالم وتحويله لما يمكنُ أن ينفع البشرية بدلا من تركه، يتحول إلى أداة لن تكون ضد الصحافة فقط، ولكن ضد البشرية كذلك (ص 170 من كتاب " عمالقة التقنية والذكاء الاصطناعي ومستقبل الصحافة" ). بيد أنه في الحالة التي تكون فيها مؤسسات الوساطة، ( الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني) ، فقدت جاذبيتها وكذلك مصداقيتها، فإن الإعلام، يظل في المقابل حاضرا، باعتباره الأداة الرئيسة لتشكيل الرأي العام وتوجيهه وتوفير المعلومات المخالفة، والموثوقة، خاصة تلك المرتبطة بتدبير الشأن العام، على الرغم من أن العلاقة ما بين الصحافة والإعلام والدولة، تتسم غالبا بمزيد من التعقيد والتوتر، خاصة في بلدان الهشاشة الديمقراطية. الكتاب لا يدعى الإجابة الشافية عن مستقبل الصحافة والاعلام في ظل تحديات الثورة الرقمية ورهانات الذكاء الاصطناعي والمتغيرات الفكرية والسياسية والاجتماعية الصحافية والذهنية والسلوكية بقدر ما يطمح إلى اثارة الانتباه إلى الأدوار التي يضطلع بها الاعلام والبحث عن الحقيقة في ظل القرن 21. إن الحاجة ماسة اليوم، إلى تنقية الأجواء الصحفية واطلاق حريات الإعلامية، واعداد استراتيجية واضحة في مجال الاعلام والاتصال، وإدماج المؤسسات التعليمية والجامعة في مجتمع الإعلام والمعرفة، واعتماد التربية الإعلامية في المناهج الدراسية منذ المرحلة الابتدائية وتحويل شبكة الإنترنت إلى سبورة للمستقبل، تأهيل منظومة التربية والتكوين، جعل الاعلام العمومي خاصة السمعي البصري، خاصة في ظل الحديث عن تأسيس هولدينغ إعلامي عمومي، فضلا عن انخراط المجتمع المدني والإعلام في الاستثمار الأفضل للتكنولوجيا الحديثة في بناء المعرفة والهوية والسلوكيات، باعتبار أن ذلك ليس ترفا فكريا وتقنيا، بل ضرورة حتمية لتحقيق التنمية المستدامة. نص المداخلة في اللقاء المفتوح الذي نظمه في 19 ماي 2024 ماستر التميز في الصحافة والاعلام بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببنى ملال حول كتاب " الإعلام في ومن اللايقين"