أصبح اللايقين أو الارتياب والشك أكثر المفاهيم تداولا، وتحول بذلك إلى نموذج تفسيري وبراديغم إرشادي جديد. وبعد تشكله في دائرة الفيزياء، فإن اللايقين الذي معناه أن الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة متناهية – حسب العالم الألماني فرانزهايزنبرغ سنة 1927 – انتقل هذا المفهوم إلى الحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية. وساهمت جائحة كوفيد 19 والذكاء الاصطناعي في جعل الإنسانية، أمام امتحان معرفي ووجودي صعب. وفي كتابهما « بين الزمن والأبدية»، عبر إيزابيل ستنغرس وإيليا بريغوجين الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1977، عن اعتقادهما الراسخ بأن « اليقين الوحيد الذي يمكن أن يتمتع به المرء، هو أننا نعيش في عالم من اللايقين .. «، بيد أن أنطونيو غرامشي قال قبلهما بسنوات في تعريفه للأزمة : « يموت القديم، والجديد لم يولد بعد…» . وإذا كان مبدأ اللايقين، الذي أسس له العالم الألماني فرانرهايزنبرغ عام 1927، يعني أن الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة متناهية، فإن هذا المفهوم انتقل إلى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، بعد تشكله في نطاق الفيزياء المعاصرة، وأصبح بذلك أكثر المفاهيم تداولا، وتحوّل بالتالي إلى نموذج تفسيري، وبراديغم إرشادي جديد، جعل الإنسان يشعر بالتيهان. كما ساهمت جائحة كوفيد 19 التي اجتاحت كل بقاع العالم عام 2020 وسط ذهول الجميع، في تسليط مزيد من الضوء على مبدأ اللايقين أو الارتياب خاصة على المستوى المعرفي والسياسي والثقافي والإعلامي، وزاد ذلك من انتشار التفاهة والشعبوية وسيادة التجهيل، في عالم عولمي متغير . انهيار الحدود ما بين الوسائط وعلى عكس اليقين الذي يفيد التأكيد التام والكامل على صحة شيء ما، والاقتناع بواقع حقيقة ما، أو بفكرة معيّنة، كحقائق مؤكدة لا مجرّد فرضيات، فإن اللايقين يحيل على الارتياب، لكن التحولات التكنولوجية جعلت الحدود تنهار، ما بين وسائط الإعلام والتواصل التي أضحت موجها لطريقة تمثلنا للعالم، وأصبحت العلاقات لا تتم وفق التجربة المباشرة للأفراد والجماعات، بل تتم وفق ما تقدمه وسائل الإعلام والاتصال لنا جاهزة. وبفضل التوسع الهائل للتقنيات الحديثة، تحول الفضاء العمومي إلى «فضاء إعلامي بامتياز» – حسب المفكر يورغن هابرماس آخر عمالقة المدرسة النقدية الألمانية – تشكل ضمنه وسائط الإعلام، النموذج الطاغي الذي يمارس هيمنة مباشرة على إنتاج المعنى، وعلى مختلف تمثلات الرأي العام. تغيير في الممارسة الإعلامية وإذا كانت التكنولوجيا الحديثة أتاحت الفرصة للجميع للحصول على المعلومات والتبادل، فإنها أدت بالمقابل إلى تغيير جذري في البيئة الإعلامية، وممارسة مهنة الصحافة. إذ في الوقت الذي كان الصحفيون يعتمدون على قصاصات وكالات الأنباء، فإن الثورة الرقمية جعلتهم أمام سيل جارف من المعلومات والأخبار، نقلهم من نظام للندرة إلى آخر للوفرة، كان من بين انعكاساته السلبية، ترويج الأخبار الزائفة التي أضحى التصدي لها مهنيا وتربويا وثقافيا من بين رهانات وسائل الإعلام، في الزمن الرقمي واللايقين. وتجسد شركات التكنولوجيا الواسعة الانتشار (..غوغل وأمازون وآبل وفيسبوك ومايكروسوفت.. )، العلاقة القائمة ما بين عالم المال والصحافة عبر جسرِ التقنية التي وظيفتها لبناء تقنية للهيمنة للتأثير على استهلاك الصحافة ، كما جاء في كتاب جايسون واتاكر بعنوان « عمالقة التقنية والذكاء الاصطناعي ومستقبل الصحافة» الصادر سنة 2019، والذي عالج فيه صاحبه عدة قضايا لها علاقة مباشرة بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. وفي هذا الصدد أثار الانتباه إلى تحديات رقمنة الصحافة، وهيمنة الخوارزميات عليها، وهو ما يتطلب في رأيه وعيا أكبر، وتأهيلا للعنصر البشري، للتفاعل مع التحديات التي يفرضها تغول التقنية، مع العمل على جعل البرمجة، وسيلة لمساعدة الذكاء البشري في فهم العالم وتحويله لما يمكنُ أن ينفع البشرية بدلا من تركه يتحول إلى أداة لن تكون ضد الصحافة فقط، ولكن ضد البشرية كذلك (ص 170 من ذات الكتاب). التكنولوجيا انعكاس للاستعمال التكنولوجيات الرقمية، التي لا تعدو إلا أن تكون انعكاسا للاستعمال الذي يقوم به المرء، لم تضع حدا لعدم المساواة في الاستخدام، ولم تخفف من سوء التفاهم بين البشر، ولم تقلص كذلك من النزاعات والحروب، لكنها بالمقابل وفرت ولوجا غير محدود للمعرفة، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة، وجعلت الفضاء الرمزي – كالقراءة – لا يخضع للرقابة. لكن بقدر ما يلاحظ إقبال متصاعد على التكنولوجيا، يسجل توجس مبالغ فيه أحيانا، بدعوى الاستخدام السيء لهذه التكنولوجيات الحديثة، في الوقت الذي لم يعد للسياسيين ولا للمؤرخين الحديث إلى « المواطنين الرقميين» عن الماضي وحتى الحاضر ، بل هؤلاء المواطنون يريدون أن يعرفوا عن الغد، كما جاء في كتاب» الثورة الرقمية ثورة ثقافية»، لمؤلفه ريمي ريفيل الباحث الفرنسي المتخصص في علم اجتماع الإعلام. نمط القراءة وطبيعة القراء في العصر الرقمي وانطلاقا من مثل هذه المعطيات حاولت وأكاد أقول «عن سابق إصرار وترصد»، أن يتضمن الكتاب ستة فصول هي « الإعلام والسياسة» و»الإعلام والمؤسسات» و» الإعلام والثقافة» و» الصحافة والذاكرة والإعلام والثورة الرقمية» و»الإعلام والجوار»، وذلك رغبة مني في ترك الحرية للقارئ والباحث، للاختيار في الاطلاع على الفصل أو حتى الموضوع الذي قد يندرج في نطاق اهتماماته وانشغالاته، والتلاؤم مع تحولات نمط القراءة وطبيعة القراء في العصر الرقمي و» الفاست فود». لقد كان الجامعي الأستاذ حسن طارق محقا، كما أعفاني في الحقيقة من المزيد من التوضيح دواعي إنجاز هذا العمل الجديد، حينما كتب في تقديم الكتاب بأن نُصوصه تحمل قلق السؤال حول مُستقبل الإعلام في قلب تحولات جارفة . تفعل ذلك وهي تُفكر في أثر السياسي على الصحافة، وتقف على اختبار الأخلاقيات في زمن الرقمنة، وتستعرض تحديات الصحافة الثقافية أمام اكتساح الضحالة المُعممة، وتُدقق النظر في حُضور الطفل و المرأة و الثقافة والرياضة في إعلام اليوم ، وتبحث في مآلات بنيات و مؤسسات الأداء الإعلامي. كُتبت هذه النصوص مُستحضرة وجوهاً مشرقة في ذاكرة الإعلام،أو مُتشابكةٍ مع قضايا مطروحة على جدول أعمال المغرب الإعلامي، أو متفاعلة مع مُؤلفات أو ندوات حول اهتمامات قريبةٍ من آفاق الكاتب». الوفاء للكتابة، الكتابة للوفاء وذكر حسن طارق في هذا التقديم الذي اختار له عنوانا دالا «جمال المُحافظ: الوفاء للكتابة، الكتابة للوفاء «، بأن الكاتب قَدِمَ الى مقالة الرأي من كل تلك الروافد الغنية بالتزام المواطن، وخبرة الفاعل، ومهنية الإعلامي، وحِس الأكاديمي مبرزا بأن الأمر يبدو واضحا، عندما نُطالع ما يكتبه في مجال الإعلام مثلا، حيث تسمح الذاكرة الحية للمُؤلف بصياغة تجمع بين مُلاحظات الصحافي وبين شهادة الفاعل الذي كان حاضراً بشكل أساسي، في المحطات الكبرى لإصلاح سياسات الإعلام، وكان قريباً دائماً من دوائر الفعل والقرار والتداول، علاوة على أنه قَدِم إلى مقالة الرأي مُحتفظاً بكل كرمه الإنساني وسخائه العاطفي، وأساساً بقيمة الوفاء التي تُعد ركناً مركزياً في مشروع الكتابة لديه تماما، مثلما هي كذلك في تجربة حياته. فقد كان لجمال المُحافظ الحظ في مُجاورة أسماء كبيرة في مجالات اشتغاله . سواء في الممارسة الجمعوية ..، أو في الواجهة الإعلامية ..أو داخل العمل النقابي.. ضمن هذه الخلفية، يبدو الوفاء عند المؤلف، تعبيراً عن الاعتراف بالأثر، وحرصاً على صيانة الذاكرة الجماعية، والأهم كرسالة نبيلة تجاه المُستقبل. ويرى في هذا السياق، أن الاعتناء برموز الذاكرة، يبقى هاجساً وُجودياً لدى المُؤَلِف. ضمن هذا الأفق، لا يخرج هذا الكتاب هو الآخر عن القاعدة، حيث يحضر علال الفاسي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد الحيحي ومحمد العربي المساري، وعبد الله الستوكي ، ومحمد بلغازي ..، لكن إلى جانبهم تحضر – ضمن جدلية خلاقة – كل الأسئلة الحارقة لمستقبل الصحافة في زمن اللايقين الإعلامي»، يخلص الجامعي حسن طارق في تقديم هذا الإصدار الجديد الذي لا أدعى فيه الإجابة الشافية، عن مستقبل الصحافة والإعلام في ظل تحديات الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية ومتغيرات الفكر والسياسة والصحافة والمجتمع، أو الانتصار ل « مفهوم اللايقين «، بقدر ما أطمح – كما تعهدت في كتبي ومقالاتي منذ عام 2017 على الرغم من التخصص الأكاديمي في علم السياسة والعلاقات الدولية – إلى التركيز على إثارة الانتباه إلى تحديات ورهانات الإعلام والاتصال في القرن الواحد والعشرين. *قدمت هذه الورقة أثناء تقديم كتاب « الإعلام في زمن اللايقين» الأحد 11 يونيو 2023 بقاعة شالة بالدورة 28 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط.